عرض الناقد والقاص / جمال سعد محمد اذا بحثنا عن الروائى فى رواية " انت وحدك السناء " للكاتبة الدكتورة هيام عبد الهادى صالح والصدرة عن مركز الحضارة العربية - القاهرة 2005
فاننا لن نقع عليه بسهولة ذلك ان الكاتبة كروائية - وفى هذه الرواية تحديدا - لم تكتسب تعبيرا مباشرا من خلال وضعية الالتباس الكائنة بشكل مباشر او غير مباشر بينها وبين الراوى او بين الروائى والبطل لان الروائى التقليدى يجعل رؤيته الفكرية هى المحور الذى تتشاكل حوله كل الاحداث ويقوم المؤلف بانتقاء المادة الروائية ثم يعمل على توحيدها لتتويج جهوده بنبرة أحادية تتوج منطلقه الفكرى وتعززه
اذن فالروائى التقليدى يتحمس وينتصر لوجهة نظره وقناعاته ويشكل ذلك فى احداث روايته
اما الامر مع هيام عبد الهادى صالح فهو مختلف لاننا لانقع على الروائى بسهولة فى روايتها فهو يختفى الاختفاء المحمود الذى بحث عنه وتمناه هنرى جيمس ثم عند المنظرين بعده و بل وصل الامر بكثير من المنظرين لتقنيات السرد الروائى الى الدخول فى تفصيلات وضعية الراوى وما ينتج عنه من شكوك فنية و وتجاهلوا الروائى تجاهلا تاما
وان كانت الكاتبة فى روايتها " انت وحدك السماء " قد قسمت السرد الى 49 فصلا او مقطعا فانها استعانت بتسع شخصيات رئيسة دارت حولها احداث الرواية فبدأت بصوت " منصور " فى الفصل الاول وانتهت به ايضا
وواذا كانت البادية الطبيعية من الكاتب علينا الا ننكر ذلك لان الكاتب اساسى فهو اذن موجود فى هذه الرواية لكن حضوره يختلف عن حضور الكاتب فى روايات اخرى هو هنا الحاضر الغائب - ان صح التعبير - فهو الذى يمنح الشخصيات / الاصوات وجودها , وهو الذى ينظم ظهورها وحوارتها ثم هو حاضر فى درجة الغيرية التى يتمتع بها الروائى بمعنى انه حاضر بشكل غير مباشر فى شخوصه / أصواته لان قدرة الغيرية على تقديم أصوات مستقلة يعنى انه تعمق وعيه بدرجة قصوى وصلت به الى حد الغيرية التى عبر بها عن قدراته الفنية فى استيعاب وعى " اصواته / اشخاصه " المخلقة بخياله التركيبى الخصب
وان كنت اجد الروائية هنا قد اعلنت عن نفسها بشكل غير مباشر على الرغم من الاختفاء الجيد الا انها اعلنت عن وجهة نظرها من خلال البناء والتنظيم والتنفيذ لحدود ( الاصوات / الاشخاص ) فهى تقدم صورة منصور الذى اسمته امه منصور لانه البكرى الذى كان نصرة للام امام الجدة ام الاب والعمات وطمعا فى ان يكون نصرة لها ولاخوته على الناس وغدر الايام ص 156 الا انه يرى :
( كل العالم يكذب ... كلنا كاذبون بدرجات متفاوته بنبرات صوت تختلف وقدرات على الاقناع مختلفة .. الكذب اصبح طعام وشراب ولباس منذ الخياط الذى حاك للملك الهواء لباسا يرتديه وسار الملك فى موكبه بردائه الداخلى الذى بالكاد يخفى عورته والناس تصفق وتثنى على عبقرية الحائك ) ص 155
منصور الذى يرى نفسه عصاية مكسورة لا تنفع ان تهش او تنش لا الديابة ولا حتى الغنم تعمل له اى حساب
منصور الذى عندما اشتعلت النار فى ملابس صفاء اخته واندفعت الاخت الثانية الطاهرة لتطفئها قال فى نفسه :
( لوتقتل قلبك يا منصور لماذا لا تدعهما يحترقان ؟ الم تدع ربك ان يحترقا دونك) ص 157
منصور الذى ينهى خطابه والرواية بقوله :
( والان انتهى خطابى هذا انا منصور ابن امى وابى وانتهى بؤسى فى حضرتكم ) ص158
وجعلت الكاتبة صورة صفاء اخت منصور والتى شغلت فى الرواية 8 اقسام / فصول ثلاثة لها منفردة وخمسة اشتركت فيها مع خالد الذى تراهن مع اصدقائه على ان يكشف لهم صفاء البنت التى لم تتصور ان اهل القرية سيتركونها تعبث بهم وتعريهم امام انفسهم وامام الناس عن طريق مكالمات هاتفية الى ان وقعت فى حب خالد الذى فضح امرها
ثم تأتى الطاهرة اخت منصور ايضا والتى تصرخ من عيون الغرباء وتقول بعد ان هجرها زوجها ( جابر ) سفرا لاحدى الدول العربية:
( انا انسانة لى جسد يصرخ بحاجته بكتمانه بحرمانه لم اعد اغضب من التى تخطىء فى افلام السينما كما تربيت صغيرة ادركت اخيرا انها تخطىء فى لحظة ضعف لحظة حاجتها للتوحد بكائن اخر)
ومرورا بشخصيات( امل وشمس والكبير وزوج العمة نلاحظ ان الكاتبة تفكر وفكر المؤلف هنا كائن من بعيد ولكن ليس على المؤلف ان يبرمج الاصوات لتتويج فكرة ما او ينظم ويختار اصواته بشكل يبرز وجهة نظره كما فعلت الكاتبة هيام صالح مع صوت ( امل ) لانالمؤلف ينبغى ان يكون حياديا فى الروايات التى تعتمد على الاصوات وهنا نقترب من التنحديد الدقيق لموقع كاتبة الرواية فلا هى ظاهرة ولاهى حيادية لدرجة اى الكاتبة - البرود والجمود وانما هى هنا فى درجة وسط - وان كنت ارى انها اى الكاتبة تميل الى شخصية امل فى كتابة المذكرات وفى حبها لمنصور ولصوت صفاء فى حب الشعر ولصوت الطاهرة فى رغبتها الى الخروج من عزلتها التى فرضتها عليها تقاليد العائلة ولحكمة منصور التى تقضى بان الكل يكذب
ولذلك نجدها تتنازل طواعية عن حقوقها ومهامها للصوت ليقدم نفسه ويرصد وعيه بذاته وبالاخرين رصدا حرا لتصبح استقلالية الاصوات / الشخصيات مقدرة بحجم اختفاء الكاتبة وبحجم الحد التنفيذى لخطة الروائى الساعى الى الاكتشاف لا الى التسجيل هذا الاكتشاف الذى يساعد - بدوره - على الاحتفاظ بمسافة طبيعية بين الروائى واصواته علما بان منطق الوعى الذاتى لا يسمح الا بوسائل فنية محددة للكشف والتصوير واذا كنت اسعى للبحث عن وجهة النظر الكلية للكاتبة فى الرواية فهذا لن يلغى استقلالية واهمية وجهات نظر الاصوات الروائية لان وجهة النظر الكلية للمؤلف قد تفهم بالتاويل من مصادر مختلفة كالبناء والتكنيك واختيار الموضوع والاصوات ولان المؤلف هو القائد للتماس الحوارى الكبير بين الاصوات لكن وجهة نظر الصوت الجزئية تفهم من خلال حديثه عن نفسه وحديثه مع الاخر بشكل مباشر اذن فوجهة نظر المؤلف تمثل كلمة حول الكلمة كلمة كلية تأويلية لا تلغى الكلمة الجزئية للصوت ولا تعلن اتحادها او التباسها وتوافقها وانما تظل محتفظة بكيانها الاستقلالى اذن ككلمة المؤلف هى كلمة حول الكلمة وكلمة حول هنا تحتفظ بحقوق الاستقلال لوجهتى النظر الكلية والجزئية
لذلك نجد الروائية لاتخلص وجهة النظر لاى صوت ليصل الى وجهة نظرها الخاصة وانما تقوم الروائية ببسط فكرة الصوت فى اطار يتأزم ويصل بالصوت حد التعبير الخارجى ويندفع للحوار مع الاخر ( 24 مقطعا من الرواية حوارات ) سواء كان حوارا داخليا او خارجيا وهذا ما نجده مثلا عند اصوات
منصور فى الفصول 14-22--28-34-37-40-45
الكبير فى 14
امل فى 40-45
صفاء فى 31-39-42-44-46
جابرفى 22
خالد فى 31-39-42-44-46
وشمس فى 28-34-37
ولكى تحتفظ كاتبتنا لروايتها بالانية والترهين السردى احتفاظا يحقق لها المواجهة عبر قطاع عرضى يجمع الاصوات فى مكان واحد وزمان واحد لتتحقق المواجهة ولهذه الغاية نجد الكاتبة تحرص على العمق المكانى مع قصر الامتداد الزمانى وقصر الامتداد الزمانى يساعد على استحضار المتناقضات وتكثيف المواجهات وتفاعل الاصوات بالحوارات والتزامن هو العامل المساعد اما العمق المكانى فقد حرصت عليه الكاتبة لانه المؤثر الاساسى فى تكوين وجهة نظر الاصوات وتوجهاتها فخالد الذى جاء الى بلدة صفاء الغلقة على اهلها اعزب غريب بلا اهل ولا اقارب كان المكان هو السبب الاساسى فى محاولة كل منهما لطبقته ومكانه هو وصفاء وصوت امل التى ترى كل الوجوه تحمل ملامح الحبيب وكل الشوارع تحمل خطواته كان المكان هو السبب فى قولها :
( ان الاوان ليهجع قلبى ويكف عن الانين فلتكن يا منصور رجلى المنتظر ) ص 100
وصوت الطاهرة وسطوة الكبير وحقارة زوج العمة ومغامرات منصور النسائية ولهو صفاء لعب المكان دورا رئيسا فى تشكيل الشخصيات وتمايز الاصوات الروائية التى حاكت بدورها المستوى الثقافى والتفاوت الطبقى والعمق المكانى نلتقى فى كل مرقومات الرواية وبعمق مركز
وبقى ان اقول انه من المفترض فى رواية الاصوات ان يكون الروائى مختفيا تماما الا اننى فى الحقيقة لم اجده فى هذه الرواية مختفيا دائما واهو ما جعلنى افترض وجود ثلاث حالات لتحديد موقع الروائى هنا هى
الاختفاء
حالة الالتباس واعنى بها ضيق المسافة بين المؤلف والراوى حتى تصل درجة التطابق بينهما او بين المؤلف واحد الاصوات الروائية وهذه الاخيرة التطابق ليست موجودة هنا لان وجودها يعنى وجود رؤية فو قية كلية تبتلع وجهات النظر الجزئية الظهور المباشر