حوار من القاهرة حنان عقيل
المصدر: الجديد 1-4-2016 الغدد 15
في أحد أزقة القلب لقاهري يقبع في مرسمه، بعيدًا عن الضجيج ؛ ثمة ضجيج داخلي يعتمل بداخله ويفرض عليه أن يخلط الألوان ويرسم بفرشاته خطوطًا أولية للوحة تحمل جزءًا من روحه وضوضائه الداخلية، يجلس لساعات في مرسمه غير عابئ بالوقت الذي يمر، ثمة ألوان ولوحات حوله تؤنس وحدته في الوقت، ولا تجعل الملل يتسرب إلى يومه. تلك العزلة الفنية لم تكن يومًا بالنسبة إلى جورج البهجوري عزلة عن الناس، بعيدًا عن مرسمه ستجده جالسًا في مقاهي وسط القاهرة مع رفاقه وأصدقائه الكثيرين الذين يتبادل معهم الأحاديث في كافة الشؤون، يتفحص ملامحهم ويخرج برسومات لهم جميعًا، قد لا تروقهم، لكنها في كل الأحوال تعبّر عمّا يراه وليس عمّا يريد الآخرون أن يشاهدواعلى الورق. تلك الصراحة، أو ربما المبالغة في أعماله ورسوماته سببت له الكثير من المتاعب على مدار حياته الفنية، فهو رافض دومًا لأيّ تعليمات يمليها عليه الآخرون بشأن فنه. كتب عنه أحد النقاد أنه يسعى إلى إيقاظ الناس بالصدمة الكهربائية، كي يدركوا على أيّ “خطوط انهدام” أقاموا بناهم الفكرية. الكاريكاتير عند البهجوري رأي راديكالي لا آلة تصوير. ذلك الفنان المتشبع بالفن حتى الثمالة، لا يملّ لحظة من التفرس في ملامح الوجوه ورسمها. من ملامح وجهه ومن مظهره العام يخرج بتصورات عدة عن الشخص الذي يحاوره. الكثير منها قد لا يكون صحيحًا، لكنه يعبّر عن شغف فنان يمتهن رسم أدق تفاصيل الوجه وتلمس أبرز ملامح الروح. والبهجوري، فنان تشكيلي ورسام كاريكاتير مصري بارز، ولد في إحدى محافظات الجنوب المصري عام 1932، درس الفنون الجميلة في القاهرة ليحترف بعدها رسم الكاريكاتير؛ عمل في مجلتي “روز اليوسف” و”صباح الخير” منذ عام 1953 حتى عام 1975. في العام 1975 سافر إلى باريس، التي يصف تجربة حياته فيها بأنها “ولادة ثانية”، وكتب عنها في كتابيه “بهجر في المهجر” و”جورج البهجوري من بهجورة إلى باريس», هناك درس في كلية الفنون الجميلة قسم التصوير، ولم تلبث ان نضجت موهبته الفنية واكتسبت أبعادًا أخرى. بعيدًا عن الرسم، كتب البهجوري عددًا من الروايات “ثلاثية الأيقونة” وهي أعمال لا يمكن الفصل بينها وبين سيرته بشكل قاطع. وفي كتابه “بهجر في المهجر” يعترف البهجوري بأن جلّ ثقافته اكتسبها من مجالساته وصحبته لأهل الكلمة من الصحافة إلى الأدب. المثقفون هم من هداه إلى المعرفة. يقول عنه إنهم لا يعرفون قراءة أيّ لوحة ويخطئون عشرات الأخطاء أثناء القراءة، رغم ثقافتهم اللغوية. عرفت رحلة البهجوري الفنية العديد من المراحل من الدراسة الأكاديمية في القاهرة، حيث ركز اهتمامه الفني في مرحلة السبعينات على الفنون الفرعونية والقبطية التي تمثل العودة إلى الجذور القديمة. وفي باريس انصبّ اهتمامه على فن النحت والبورتريه، ثم بعد ذلك اهتم بدراسة أعمال أساطين الفن أمثال رامبرانت ومايكل أنجلو وجوجان ومانيه، ليعيد رسم الكثير من الأعمال العالمية وفقًا لرؤيته الخاصة. الجالس في حضرة “البهجوري” أشبه بزورق يبحر في نهر مضطرب يأمل في الإلمام بمعالم تجربة غنية ذات مستويات وأزمنة وعلامات، إنه أشبه بلوحة تشكيلية معقدة فيها الكثير من التفاصيل التي تضفي غموضًا على معناها. غموض نحاول في جلسة في هذا الحوار أن نتمس بعضه لعل الحديث يفك شيئا من طلاسمه. يتحدث جورج البهجوري عن آرائه بإزاء العديد من القضايا الجدلية المتعلقة بالتشكيل في الوقت الراهن، كما يتطرّق إلى الحديث عن أبرز محطاته الفنية سواء على صعيد رسم الكاريكاتير أو عن مغامرته المفتوح مع فن اللوحة التشكيلية. الجديد: إلى أيّ مدى تتفق مع قول بيكاسو بأن “الرسم طريقة أخرى لكتابة المذكرات”، وما هي أبرز الأعمال التي تظهر فيها هوامش من مذكراتك؟
البهجوري: أتفق تمامًا مع هذا القول، بالطبع المذكرات موجودة في اللوحات التشكيلية بشكل كبير، فأنا أعتبر بيكاسو من أقرب الفنانين بالنسبة إليّ، لقد أخذ جزءا من حياته ووضعه كأيقونة زمنية موجودة في التاريخ، تلك الأيقونة التي طافت بلادا عدة جعلت منه واحدًا من أبرز الأعلام الفنية؛ فالفنان مرتبط بنفسه مع الزمن والنظريات، وبيكاسو اكتشف أن نظرياته كفيلة بأن تعرض رحلته الصعبة مع البقاء والخلود، ظل متوجسًا على المستوى الشخصي من الماضي ومرتبطا بالواقع الرهيب من حوله والعالم العجيب من النساء المحيطات به.
أعمالي الفنية هي جزء من مذكراتي وأحيانا تكون مذكرات صدفة أو مقصودة وأحيانا تائهة، المهم هو الإمساك بزمام الموقف والتعبير عمّا أتأثر به، ومن الممكن ترك مهمة تحديد الأعمال الفنية الأقرب لسيرتي للمتلقي، الذي سيشاهد أعمالي ويتعرّف عليها من تلقاء نفسه.
أنا مشغول جدًا ببيكاسو، فهو يفرض وجوده عليّ، وأشعر به موجودا في كل لوحة، هو رسم العديد من اللوحات، ويظل بيكاسو مكتشفًا لأشياء كثيرة؛ فعندما سافرت إلى برشلونة بحثت عن مرسمه لأبحث عن أعماله واقترب منه أكثر، فعرفت العديد من المعلومات عن مرسمه وأعماله، وحياته في ذلك المرسم الذي شهد شهرته ونجاحاته ومعاناته حتى وصل إلى ما هو عليه.
في وقت من الأوقات، خضت تجربة رسم المقربين منّي في لوحات بأوضاع مختلفة وتفاصيل متباينة؛ لكن مثل هذه التجارب لم ترقني كثيرًا؛ أي أن أتخذ من أحد المقربين تجربة للرسم.
الموروث المصري
رسمت عددًا من اللوحات التي استمدت موضوعها من الموروث المصري، هل تعتقد بأن اللجوء إلى التراث في اللوحات التشكيلية تفرضه ضرورات فنية أم حاجة تجارية؟
البهجوري: اللجوء إلى التراث ضرورة فنية بالطبع، ولا يمكن اعتباره حاجة تجارية بأيّ حال من الأحوال، لأن كل ما أريد رسمه لا بد أن أعرفه أولًا بشكل جيد وأتعرف على أصوله وجذوره، ما يضطرني لدراسة التاريخ. فعندما رسمت لوحة محمد علي، كان عليّ العودة إلى التاريخ لمعرفة المزيد من التفاصيل حول هذا الرجل الذي نجح في بناء مصر الحديثة، وأخرج منها الكثير من التحف الفنية، فالرجوع إلى التاريخ والتراث ممكن أن يساهم في تقدمنا، التراث عمق التاريخ ويعطي عمقا للفكرة والموضوع في الأدب والرسم وكل الأشياء.
بيكاسو العرب
البعض ينظر إلى المحلية في الفن التشكيلي على أنها عائق دون الوصول إلى اللحظة الكونية، هل تتفق مع هذه النظرة وما هي تجربتك في هذا الإطار؟
البهجوري :لا أعتقد بصحة هذه النظرة بأيّ شكل من الأشكال، جودة العمل الفني هي التي تفرض موقعها ووصولها إلى الإنسانية ونجاحها على كافة المستويات، النجاح في عمل لوحة متكاملة فنيًا هو الذي سيفرض مكانتها، وبالتالي الموضوع لا يمكن أن يكون عائقًا في نجاح العمل الفني الجيد.
حصلت على عدد من الجوائز الهامة سواء في الكاريكاتير أو التشكيل، منها الجائزة العالمية الأولى في الكاريكاتير في روما، جائزة الملك عبدالله الثاني للإبداع والآداب والفنون في الأردن، ولاقت أعمالي حفاوة بالغة في العديد من الدول، إلى حد أن لقّبت ببيكاسو العرب.
شيء من الميتافيزيقا
هل تحتّم فكرة العمل التشكيلي بروز أحد مكونات اللوحة على الآخر سواء (موضوع، شكل، مادة، لون) أم أن هناك طريقة واحدة للتعامل مع المكونات في لوحة؟
البهجوري: يشير إلى صور للوحات معلقة على الحائط)، جميل شفيق صنع تمثالًا خشبيًا بسيطًا تطلّ من رأسه وردة، وهنا بيكار رسم نفسه كأهم شيء في العالم، هناك أشياء في الحياة تجعل الشخص مهمًا، أعتقد أن المهم هو تناغم المكونات بشكل صحيح؛ فذلك هو ما يحوّل المسألة إلى نوع من الميتافيزيقا؛ المسألة العلمية الموجودة في اللوحة أو المنظور، لكن الأهم أن يتم تناول الموضوع بشكل جيد، أن يوجد شيء جميل وممتع يحرك المشاعر ويحوّلها إلى إبداع.
فكرة التجريب
يقول الفيلسوف الفرنسي مارك بلو “التقاليد شيء جميل ولكنّ الشيء الجميل حقًا هو البحث عن تقليد جديد، ومن العبث أن نعيش على وتيرة واحدة”، من هذا المنطلق هل تعتقد بأن التجريب في الفن التشكيلي بات ضرورة؟
البهجوري: التجريب بالطبع أفاد الفن التشكيلي بشكل كبير، لكن يجب ألا يكون مطلقًا، لا بد من البحث عن الأشياء والعناصر الواقعية حتى لا تكون التجربة في المطلق، أنا أهتم بالشخصيات بشكل كبير، والبعض ينزعج من تكرار رسمي لبعض الشخصيات مثل أمّ كلثوم التي رسمتها في أكثر من لوحة، لا يمكن بأيّ حال أن تُلغى الشخصية.
هنا في هذه اللوحة (يشير إلى لوحة من قماش معلقة على الحائط)، صبي مكوجي له وجه طفل بكلّ ما يحمله من صفاء وبراءة ورضا، يرتدي ملابس طفل ويقف دون حذاء ويمسك بالشماعة المعلّق عليها الملابس، يبدو أقصر وأصغر من أن يمسك بشماعة الملابس، مع ذلك وجهه يوحي بالكثير من الرضا.
اشياء مبكرة
حدثنا عن نظرتك الشخصية غلى مسار تطور تجربتك مع الفن بدءًا من الطفولة والمراهقة مرورًا بزمن لدراسة في القاهرة ثم باريس.. ما هي أكثر الأشياء تأثيرا في تكوينك كفنان ولعبت دورا نوستالجيا لا يمحى في حياتك وأعمالك؟
البهجوري: كنت أحاول تقليد الفن الذي يعجبني في طفولتي بدأت الحكاية هكذا، حاولت أن أجد مكانًا لي في الفن، هناك أناس يحرضونني على المعرفة؛ يريدونني أن أتحدث في كل شيء، وأن أعرف كل شيء، وأنا لا أعرف سوى ما يهمّ الأشياء التي تمسّني.
أخدت المسألة خطوة خطوة، في البداية كنت أستعمل الأدوات التي أمامي، أعرف الشيء جيدًا ثم أرسمه، ومن خلال رسمه أتعرف عليه بشكل أعمق، لم أكن كثير الكلام في طفولتي لذا كان الرسم وسيلتي في التعبير عمّا أشعر به.
لم أكن تلميذا متفوقًا على أيّ حال، مرت فترة دراستي بصعوبة إلى أن أنهيت المرحلة الثانوية، وقررت الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في القاهرة، عرّفني أخي على صديقه أستاذ الحفر كمال أمين، وفي الكلية التقيت بأساتذتي الكبار الذين تعلمت منهم كثيرًا ومنهم أحمد صبري، حمودة كامل، حسين بيكار.
كانت الدراسة خطوة هامة ومفصلية في حياتي، تعلّمت فيها الرسم بشكل أكثر نضجًا وفهمته بشكل أوضح، بل احترفته في عامي الأول بالكلية، تعلمت من أستاذي حسين بيكار الطمأنينة والثقة في نفسي وفي أعمالي الفنية، وكان ذلك من الأشياء المهمة بالنسبة إليّ.
أما تجربة العيش في باريس فقد كانت من أثرى التجارب الحياتية والفنية؛ كتبت عنها في كتابي “بهجر في المهجر”، وسردت الكثير من التفاصيل والمواقف اليومية التي عشتها، وممّا كتبته عنها “شربت باريس حتى الثمالة، فرسمتها كشجرة يابسة على نهر السين ورقة ورقة، ثم تساقطت جميعها مع الخريف، وذابت رسومي في مياهه، لذا بحثت عن قلم لا يرسم ولكنه يكتب”.
درست الفنون الجميلة هناك، وتعلمت الكثير، وكنت سعيدًا جدًا في البداية، تعلمت هناك كيفية التعامل مع الناس بشكل مهذّب ولائق، واكتسبت معرفة جديدة بالأشياء ومعرفة جيدة بالناس، الفن هناك لا يختلف عنه في مصر، ولكن الاختلاف يكمن في طريقة التلقّي؛ فهناك الكثير من المهتمين بالفن على عكس مصر.
الرسام روائيا
كتبت الرواية فضلًا عن عملك كنحات ورسام كاريكاتير وفنان تشكيلي، فكيف ترى علاقة الفن التشكيلي بالفنون الأخرى من أدب وسينما ومسرح وغيرها؟ أين تلتقي هذه الفنون معًا وأين تفترق؟ وإلى أيّ مدى أثّرت هذه الفنون على إبداعك في مجال التشكيل؟
البهجوري: نعم، كتبت ثلاثية روائية “أيقونة الجسد”، “أيقونة فلتس″، “أيقونة باريس″، وفيها الكثير من محطات حياتي، احتفى بها البعض وتجاهلها آخرون، كما كتبت يومياتي في باريس بشكل ساخر في كتاب “بهجر في المهجر”، وعملت في الكاريكاتير في مجلتي “روز اليوسف” و”صباح الخير”، ومارست من خلال الكاريكاتير الكثير من الانتقادات لأفكار وشخصيات شهيرة.
أتمنى أن تلتقي كل الفنون على الدوام، ذلك ما يجب أن يحدث، الأمر يتوقف في كثير من الأحيان على الفنان؛ في التجريد يكتفي الفنان بالنظرية ويبتعد بها في عمله، أما أنا فأتخذ النظرية كخطوة في تقريب العمل من الواقع، الاقتراب من الطبيعة وعدم الابتعاد عنها ضرورة.
كل الفنون تصب في قالب واحد، الفنان يبحث دومًا عمّا يقرّبه من هذه الفنون، والاقتراب من الطبيعة يحقق التواصل بين هذه الفنون، أما الابتعاد عنها يعني الانفصال عن الفنون الأخرى.
لا أحبّ أن ألجأ إلى التجريد في أعمالي؛ فأنا لا أحبّ الابتعاد عن الواقع والمجتمع، يمكن أن ألجأ إليه عندما تنفذ أفكاري؛ فأرسم أشكالًا دون معنى ولكنها جميلة، لكن في الآخر أنا أرفضه ولا أحبه.
الفنان والأمكنة
ما بين محافظات الجنوب، والميلاد في إحدى قرى محافظة قنا، ثم انتقالك إلى القاهرة، والانتقال إلى الغرب بداية من باريس ومرورًا بدول أخرى، كيف انعكست تلك الأماكن المتباينة على أعمالك الفنية؟ وهل ثمة سمات فنية تغيرت بتغير الأماكن؟
البهجوري: بالطبع المكان يؤثر على العمل الفني لأنه يكون منطبعًا في الروح، وبالتالي يظهر فيما بعد في العمل، ذهبت في طفولتي إلى الكنيسة وانجذبت إلى أيقونة العذراء والطفل والهالة الذهبية حولهما، وتأثرت بها جدًا سواء في الرسم أو الكتابة.
فيما بعد، انجذبت إلى اللوحات في المتاحف، وتأثرت بالأماكن الأثرية في الأقصر التي تشبهني إلى حد بعيد، أشياء عدة استقيتها من هذه الأماكن منها قرص الشمس في متحف الكرنك والخطوط الجانبية في نحت التماثيل ورسمها، والتلقائية في الرسومات المصرية القديمة، كلها أشياء انعكست في أعمالي بشكل ما.
في باريس، أقمت في ضاحية معظم سكانها من السنغال، وانشغلت برسم وجوههم، كان الفن الغربي معجزة مذهلة بالنسبة إليّ، لكنه لم يكن اتجاهي، وتظلّ الوجوه هي أكثر ما يستهويني للرسم.
اليتم والكاريكاتير
وسط حالات البهجة والصفاء المنبعثين من أعمالك، ثمة حزن شفاف يظهر بشكل ما في بعض لوحاتك.. متى تشكلت تلك المساحة من الشجن لديك؟
البهجوري: هذا صحيح فعلًا، مساحات الشجن مهمة جدًا لدى الفنان؛ من المهم أن يظهر بعض الشجن في العمل الفني، عندما أرسم شخصية ما أضعها في خيالي وتتردد بشكل ما في داخلي لتظهر في اللوحة بشكل مختلف أكثر عمقًا وتطورا، أنا أميل للتهريج منذ الطفولة لكن مع ذلك تكوّنت عندي مساحات من الشجن، كنوع من أنواع التغلب على الحزن، فكانت السخرية تظهر عندي.
الحزن تكوّن عندي منذ الطفولة التي فقدت فيها أمي وعشت حياة طويلة دون أم، كنت أبكي وأنا أرسم على قبرها وردة ضاحكة، كان الكاريكاتير وسيلتي للتغلب على حزني الدفين بالسخرية التي يمنحها لي.
عملت في الكاريكاتير لأكثر من عشرين عامًا، كيف أثر عملك في الكاريكاتير على أعمالك التشكيلية فيما بعد؟ هل من عناصر محددة انتقلت معك من الكاريكاتير إلى التشكيل؟
البهجوري: كنت مضطرًا للعمل في الكاريكاتير في باريس كي أكسب بعض المال الذي يمكّنني من الحياة هناك، لكن بالنسبة إلى فترة عملي في روز اليوسف فعملت في الكاريكاتير وتأثرت به بالطبع فيما بعد، تحملت الكثير من المتاعب بسبب صراحة ما كنت أرسمه في الكاريكاتير، ووقف معي إحسان عبدالقدوس في مرات كثيرة خاصة عندما رسمت جمال عبدالناصر عملاقًا يقف بجواره صلاح سالم ضئيلًا يلمّع قبة البرلمان، فأغضبه هذا الكاريكاتير بشدة.
انتقل معي عنصر السخرية من الكاريكاتير إلى الفن التشكيلي في بعض الأعمال، الكاريكاتير له وظيفة صغيرة في حدود مساحتها ووقتها، لم أكن أحترم رسوماتي الكاريكاتيرية بشكل كبير لأنها بسيطة وتجارب صغيرة تتناسب مع الصحافة، لكن فيما بعد صرت أراها تعبّر عن رأي مؤثّر وفعّال، كما صرت في أعمالي التشكيلية أتعامل مع الأمور بالمعنى التلقائي السهل.
وجوه مثيرة
تبدو مهتمًا على مدار تاريخك الفني بتقديم أعمال فنية تخص الرؤساء والمسؤولين، رسمت الرئيسين المصريين الراحلين جمال عبدالناصر وأنور السادات والرئيس الأسباني الأسبق فرانسيسكو فرانكو والرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي مؤخرًا، ما السر وراء هذا الاهتمام؟
البهجوري: نعم، أعتقد أن رسم الرؤساء مثير جدًا، رؤساء الدول هم الأهم وآراؤهم لها من الصدارة والأهمية ما يكفي للاهتمام بها، ولذلك دائما كانوا محورًا لتفكيري واهتمامي، لم أتناولهم بشكل مختلف عمّا هو عليهم في الواقع، رسمت عبدالناصر والسادات ومبارك ضمن الكاريكاتير، تناولت في الكاريكاتير الكثير من القضايا والقرارات التي أصدرها الرئيسان عبدالناصر والسادات بالكثير من السخرية، وكنت أبالغ في رسم ملامحهم، لكن السيسي رسمته في لوحة تشكيلية بعيدًا عن السخرية، لم أجد فيه شيئا يدعو للسخرية، عنصر سخرية بسيط أظهرته في اللوحة يتعلق بطريقته في الابتسام، أما محمد مرسي فقد رسمته في الكاريكاتير لكن لم أهتم بإظهاره بشكل كبير لأنّي أحتقره؛ لم يكن رئيسًا، انتخبناه وأخذ شهرة لكنه لم ينجح في أيّ شيء، أيضًا عندما سافرت إلى أسبانيا رسمت لوحة للرئيس الأسبق فرانكو على هيئة دكتاتور، فاحتفوا بها وانتشرت في بعض الميادين هناك.
الفن والحقيقة
وكيف ترسم بريشتك مآلات الأحداث في الوطن العربي في الوقت الراهن؟
البهجوري: عبّرت عن بعض ما يحدث في الوطن العربي عبر الكاريكاتير، كونه يجاري الأحداث، أما في اللوحات التشكيلية فأنا أبتعد عن رسم هذه النوعية من الموضوعات، ليست لديّ مساحة كافية من الحزن الدفين للتعبير عمّا حدث ويحدث، ربما بسبب تباعد الأحداث وكونها غير حاضرة بشكل كبير، كما أنني لا أحب فكرة رسم الحروب.
في السنوات الخمس الأخيرة، وعقب ثورات الربيع العربي، حدثت العديد من التغيرات المفصلية على الساحة السياسية العربية، إلى أيّ مدى كانت الفنون العربية مواكبة لهذه التغيرات؟ هل يمكن الحديث عن دور فعال للفنانين العرب خلال تلك الفترة في مقاومة العنف؟
البهجوري: هذا سؤال يحتاج إلى دراسة طويلة، الأولوية هنا للكاريكاتير فهو الذي يعبّر عن الحدث بشكل كبير، في الفن التشكيلي كان هناك بعض الاهتمام في التعبير عن الأحداث وبعض الأعمال كانت ناجحة في ذلك، لكن بالنسبة إليّ لا أفضّل رسم حرب لأنّي أعتبرها موضوعا خرافيا، على أيّ حال نحن بحاجة إلى أن نرى الحقيقة عن طريق الفنون.
يعد الكاريكاتير فن الحدث بامتياز.. خلال الأحداث الدامية التي عصفت بالبلدان العربية طوال السنوات الماضية، ما تقييمك لدور فناني الكاريكاتير خلال تلك الفترة على مستوى العالم العربي؟
البهجوري: اهتم الكاريكاتير بالطبع بالتعبير عمّا يحدث وكان مواكبا للعديد من التغيرات، وكانت هناك العديد من الأعمال المميزة على مستوى العالم العربي، رغم صعوبة تشخيص الأحداث والتعبير عن الحرب والكراهية، فذلك من أصعب الأمور.
الكاريكاتير من الفنون المهمة التي بدأت منذ القدم مع بداية الإنسان، عندما رسم على جدران الكهوف، وأبدع أشكالا تلقائية لها طابع الطرافة، فالكثير من كبار التشكيليين مثل دافنشي ورافائيلو ورامبرانت رسموا الكاريكاتير لخلق نوع من المرح، فالكاريكاتير موجود في أعماق كل إنسان.
البهجورية الفنية
تنتمي معظم أعمالك إلى المدرسة التكعيبية، التي وصفها البعض بأنها ثورة فنية ساهمت في تقدم الفن الغربي، ما المساحة التي تعطيها لك هذه المدرسة مقارنة بغيرها من المذاهب الفنية؟
البهجوري: التكعيبية كمذهب من خلاله أعرف الكثير من الأشياء، كثيرًا ما أعتمد على التجريد وأدرس الوجه كأنه مكعب به سطح مظلم وآخر مضيء وآخر نصف إضاءة وهكذا، بالتالي تكون الفكرة تكعيبية أنطلق بعدها نحو آفاق أرحب، إذن فالتكعيب يكون في البداية والفكرة، بعد ذلك لا يكون له أهمية، لأن التكعيب كمذهب انتهى.
قلت إن المرأة في اللوحة التشكيلية من أكثر العناصر التي تبرز تمكّن الفنان.. ما السبب؟ وما هي علاقتك بالمرأة في أعمالك وحياتك؟
البهجوري: نعم، رسم المرأة وخاصة المرأة العارية يحتاج إلى تمكّن وقدرة فنية كبيرة، ومن يعجز عن إتقان رسم المرأة لا يعتبر فنانًا من الأساس، رسم المرأة العارية يظهر الكثير من العناصر الجمالية، وعلاقتي بالمرأة مهمّة جدًا في أعمالي، هي دائما تحاورني لكي أرسمها، أفشل في رسمها مرات وأنجح مرة لأصل إلى أفضل رسم لها، أبدأ بالتكعيب وأنتهي بصورة قريبة من الواقع، المرأة موجودة في حياتي سواء شئت أو أبيت، لكن في اللوحة تأتي من الخيال بشكل أكبر من الواقع.
الفنان والمجتمع
يعرّف سارتر المثقف بأنه شخص يضع معارفه ومدركاته في خدمة المجتمع، وفي الوقت الراهن ثمة انفصال بين المثقف والمجتمع، برأيك، ما الأسباب الكامنة وراء هذا الانفصال؟ وما السبيل لاستعادة دور الثقافة في التنمية المجتمعية؟
البهجوري: ذلك الانفصال أعزوه إلى غطرسة المثقف أو الفنان على الأخص وابتعاده عن الجمهور وانفصاله عنهم، لا بد أن يكون الفنان على علاقة بمجتمعه، المطلوب أن يكون الفنان معبّرًا عن واقعه وعن المجتمع والناس الذين يعيش معهم، يرسمهم ويرسم عنهم.
الفنان لديه القدرة على تغيير المجتمع، ليس هذا فقط، بل هو قادر على الدفع به نحو التقدم والنجاح أو العكس، ذلك يتوقف على مدى حماسه، الفنان يستطيع من خلال أعماله الفنية أن يحدث الكثير من التغييرات؛ فدور الفن ليس هامشيًا على الإطلاق ويجب أن يكون هناك وعي بذلك.
في ظل الأمية البصرية التي يعاني منها العالم العربي، هل تعتقد بضرورة وجود “نقد تعليمي” يسعى لتعليم أبجديات الفن التشكيلي؟ وهل من دور يتوجّب على الفنان القيام به إزاء تلك المعضلة؟
البهجوري: من الضروري تعليم الأبجديات الفنية بداية من معنى اللوحة، النقد التعليمي ضرورة في الوقت الحالي لأنه يزيد من التقارب بين الفنان والمتلقّي ويساعد على التغلب على تلك الأمية البصرية، ولا أؤيد تلك الآراء التي تباعد بين الفنان والمتلقّي بضرورة عدم شرح اللوحة أو الحديث عنها من قبل الفنان أو الناقد، لا بأس أيضًا في أن يتحدث الفنان عن أعماله ببعض من الشرح لتقريبها إلى المتلقي.
العرب والتشكيل
وكيف ترى وضع الحركة التشكيلية في العالم العربي والحركة النقدية المواكبة لها في الوقت ذاته؟ هل تعتقد بأننا نعيش في عصر استهلاك للإبداع؟
البهجوري: الحركة التشكيلية ضعيفة جدًا، وهناك ضعف في مستوى الفنانين كذلك، من السهل اكتشاف سهولة الصورة وليس عبقريّتها، عدد قليل من الفنانين يمكن التعويل على أعمالهم وموهبتهم، منهم عمر النجدي وعادل السيوي وجميل عبدالمعطي وغيرهم، أما فيما يتعلق بالنقد أعتقد أنه معقول إلى حد كبير، وربما ينجح في الفترة القادمة في إصلاح الكثير من مشاكل الفن التشكيلي على مستوى الصورة والموضوع.
برأيك، هل أثّرت الوسائط والتقنيات الحديثة بالإيجاب أم بالسلب على اللوحة التشكيلية؟ وإلى أيّ مدى تعتمد عليها؟
البهجوري: بالطبع أضافت للفن التشكيلي، لكنني لم ألجأ إليها بعد، عندما ننجح أولًا دون هذه الوسائط يكون من الضروري التفكير في الاستعانة بها، في كل الأحوال هي مفيدة وربما ألجأ لها فيما بعد.
ما رأيك في المدرسة الحروفية العربية؟ وهل تعتقد بأن لها دورًا في تأصيل الهوية العربية في مواجهة التأثر بالمرجعيات الفنية الغربية؟
البهجوري: كلام فارغ لا يعجبني ولا يعبّر عن شيء، نعرات دينية لا أحبّها، مسلمون متعصبون يلجأون لرسم خطوط إسلامية، أراها كلاما فارغا يؤجج التعصّب، حتى لو استخدمت في اللوحة بشكل ثانوي ليس لها أهمية، وكل ما يثار عن دورها حديث لا قيمة له ولا محلّ له من الصحة.
الفن والرقابة
دومًا ما يشكو الفنانون العرب من الرقابة على أعمالهم ومن الحدود التي تحول دون انطلاقهم نحو آفاق إبداعية أوسع.. كيف أثرت هذه التضييقات على عملك الفني سواء بالكاريكاتير أو الفن التشكيلي؟
البهجوري: الرقابة تعني الكثير من القيود وأنا أرفض القيود وأحاول الابتعاد عنها قدر الإمكان، أحاول تجنب القيود المفروضة في أعمالي، فأبتعد عمّا هو ممنوع ولا أعتقد أن ذلك يؤثر على العمل الفني، وبالطبع واجهت الكثير من الانتقادات طوال فترة عملي بالكاريكاتير خاصة أنني كنت أميل إلى المبالغة في رسم الشخصيات وأنتقد الكثير من المواقف للمسؤولين.
نشرت كتابًا بعنوان “الرسوم الممنوعة” تضمّن بعض الرسوم التي لم تنشر خاصة في عهد الرئيس السادات.. حدثنا عن أبرز التضييقات التي تعرّضت لها، وهل من أعمال ممنوعة ظلت حبيسة أدراجك حتى اللحظة؟
البهجوري: ليست لديّ أعمال أمنع عرضها الآن، ولكن هناك بعض الأعمال التي أؤجل عرضها إلى وقت لاحق ومناسب. كان كتاب “الرسوم الممنوعة” من الكتب التي أثارت الرعب في الوسط الفني، لما تميّز به من جرأة واضحة، وضعت فيه رسوماتي الناقدة لقرارات الرؤساء المصريين، ولبعض الشخصيات الشهيرة، وسياسات إسرائيل وأميركا وغيرهما، عندما رسمت عبدالناصر في الكاريكاتير كان يضحك من قلبه، ولكن السادات لم يتقبل نقده في الكاريكاتير وغضب منه ووضعني في القائمة السوداء للممنوعين من دخول مصر عندما كنت في باريس.
نوع آخر من الرقابة ربما هو الأشد وطأة يقودنا الحديث إلى التطرق له، هو “الرقابة الذاتية”، ما نوع الرقابة الذاتية التي تفرضها على نفسك؟ وما القيود المجتمعية التي تعتقد بأنك نجحت في التحرر منها؟
البهجوري: كلها أشياء تتداعى بشكل تلقائي، لا أبتعد عن تناول أيّ موضوع حتى الجنس، لا أفرض على نفسي أيّ قيود سوى القيود الدينية، الممنوع في الأديان أبتعد عنه، القيود الدينية مسألة تحتاج بعض الوقت للخروج منها والتغلب عليها، أما القيود المجتمعية فأنا غير ملتزم بها بشكل كبير أرسم المرأة عارية وأرسم موضوعات عن الجنس بشكل ما.
المحاكاة والتجريب
قمت بإعادة رسم لوحات لفنانين كبار مثل رامبرانت، دافنشي، بيكاسو، انطلاقًا من رؤيتك الخاصة، هل من أعمال أولى لك وددت لو أعدت رسمها بمنظور جديد يتماشى مع خبرات حياتية جديدة اكتسبتها؟
البهجوري: بالنسبة إلى الأعمال التي أعدت رسمها من قبل، فقد كان تعبيرًا عن إعجابي الشديد بها، فقررت أن أرسمها مرة أخرى برؤيتي الخاصة، أنا مستعد لأن أفعل ذلك طوال الوقت دون أيّ مشكلة ولكن لا توجد لوحة محددة عندي أفكر في إعادة رسمها، أيّ صورة محبوبة من الممكن إعادة رسمها وفق منظور جديد، والكثير من الأعمال العالمية أيضا من الممكن إعادة رسمها مرة أخرى وفق منظور جديد.
تعددت تصورات المفكرين عبر التاريخ لدوافع العمل الفني؛ منهم من اعتقد بأن المحاكاة هي الدافع الأساسي، وآخرون اعتبروا العمل الفني استنزافا لطاقة زائدة أو إشباعا لبعض الرغبات في النفس، وغيرها من النظريات، فما هي دوافع العمل الفني بالنسبة إليك؟
البهجوري: من الصعب الجزم بأن هناك دافعا ما وراء العمل الفني؛ هذه عملية تلقائية، تتداعى الأفكار حول العمل الفني بشكل تلقائي، ليخرج في شكله النهائي بعد أن يعتمل في الخيال بشكل مناسب.