مجدي سعيد - اسلام اونلاين
تعرفت على كتابات جمال البَنَّا للمرة الأولى عام 1990 من خلال كتابه "رسائل حسن البَنَّا الشاب إلى أبيه"، ومنذ ذلك الوقت وأنا أقرأ بعض ما يكتب، وألتقي به بين الحين والآخر. وقد أعجبني بشدة انقطاعه للكتابة في مكتبته التي تغطي جميع جدران منزله حتى لتشبه الصومعة، وأدهشني إنتاجه الغزير الذي بلغ 105 من المؤلفات و16 من المترجمات. وهو ما جعلني أهم بالكتابة عنه مرتين قبل ذلك، مرة لأكتب عن مشروعه الفكري، وهو الأمر الذي يستلزم انقطاعًا لقراءة هذا الكم الغزير من الإنتاج المتنوع، أما المرة الثانية فقد هممت أن أكتب فيها عن آل البَنَّا، الأب والأبناء وهي أسرة يتفرد كل عضو فيها بإسهامه الخاص والفريد في الحياة الثقافية والعامة.
آل البَنَّا.. شجرة طيبة
وُلِد الأستاذ جمال البَنَّا في المحمودية بمحافظة البحيرة في 15 ديسمبر عام 1920، لأسرة ذات اهتمام خاص بالثقافة الإسلامية، وذات إسهامات لا تنكر في خدمة الإسلام والثقافة الإسلامية والعمل العام في مصر، فأبوه الشيخ أحمد عبد الرحمن البَنَّا هو صاحب "الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني" الذي أفنى ثلاثين عامًا من عمره في كتابته، والشقيق الأكبر هوالإمام الشهيد حسن البَنَّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين في مصر والعالم، وشقيقه الأستاذ عبد الرحمن البَنَّا صاحب أول تجربة رائدة في مجال المسرح الإسلامي، شقيقه عبد الباسط البنا شاعر وكاتب مسرحي إسلامي لم ينل حظه من الاهتمام والشهرة.
العصامية ميراث آل البَنَّا
وإذا كانت الأسرة جميعًا قد اشتركت في التمحور حول الإسلام، فإنهم قد اشتركوا أيضًا في أن كلاًّ منهم يؤلف نسيجًا وحده، ولعلّ الشخصية المستقلة العصامية لكل منهم هي ميراث الأب لأبنائه، فالأب خريج الأزهر لأسرة من أعماق الريف المصري، اختار أن يعيش بشكل عصامي لينفق على أسرته وعلى خدمة السنة؛ إذ كان الأب يعمل بمأذونية المنطقة لفترة، ثم انقطع للعمل بإصلاح الساعات وتجليد الكتب، وهي المهن التي عمل فيها لفترة وعاونه فيها أولاده، حتى اشتهرت الأسرة بلقب "الساعاتي"، وقد عاونته تلك المهن على إنجاز مشروع "الفتح الرباني".
بعد ولادة الأستاذ جمال بأربعة أعوام انتقلت الأسرة للقاهرة، وفي بيت الأسرة كانت حجرة المكتبة هي أهم حجرات البيت، وفيها عكف الطفل جمال على القراءة التي أصبحت هوايته المحببة، وقد كانت المكتبة تحتوي -إضافة إلى مصادر الثقافة الإسلامية- على أعداد من أهم المجلات الثقافية والأدبية التي كانت تصدر في مصر وقتئذ، إضافة إلى عدد من الروايات الأدبية، والكتب الثقافية العامة.
التمرد على التعليم الرسمي
وبعد أن جاوز "جمال" مرحلة الكتاب في القاهرة، التحق بالتعليم الابتدائي في الإسماعيلية، حيث كان شقيقه الأكبر يعمل بالتدريس، وبعد الانتهاء من المرحلة الابتدائية التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، وكانت من أفضل المدارس الثانوية بالقاهرة آنئذ، وخلال العام الأول بالمدرسة عام 1937 اصطدم مع الخواجة الذي يدرس لهم اللغة الإنجليزية، حيث طلب منه التلفظ بعبارة استعطاف واستجداء له، فرفض جمال، فمنع من حضور دروسه ذلك العام، وكانت النتيجة أن رسب في مادة اللغة الإنجليزية، فكان أن قرّر عدم إكمال تعليمه، وهو ما عارضته الأسرة بشدة، وكانت حجته أنه لا يريد أن يعمل مهندسًا ولا محاميًا، ولكنه يريد أن يكون كاتبًا، وهي مهنة لا تحتاج إلا إلى الاطلاع الدائم، والمكتبة لديهم عامرة فلِمَ المدارس والجامعة؟ وتحت ضغط الأسرة اضطر لأن يكمل تعليمه في مدرسة التجارة العليا كحل وسط ليختصر طريق التعليم.
طائر الحرية يغرّد منفردًا
وبعد أن أنهى دراسته بها، التحق بعدد من الأعمال المؤقتة، لكن النشاط الأساسي له كان القراءة والكتابة، يقول الأستاذ "جمال": إنه لم يتأثر خلال تلك الفترة بفكر أحد بعينه، وإن كان قد انفتح على الفكر الإنساني العام، وكان لديه اهتمام خاص بالفقراء وبطبقة العمال، كما كان له اهتمام بالديمقراطية والحريات الدستورية. وقد أثمرت تلك الاهتمامات عام 1945 عن صدور أول كتبه بعنوان "ثلاث عقبات في الطريق إلى المجد.. الفقر والجهل والمرض"، ثم كتاب "الديمقراطية الجديدة" عام 1946، والذي أشاد به الإمام البَنَّا، كما أثمر ذلك الاهتمام عن تأسيس حزب عمالي ذي توجهات إسلامية وديمقراطية باسم "حزب العمل الوطني الاجتماعي" الذي اتخذ له مقرًّا في شقة متواضعة بالقرب من مقار النقابات العمالية الموجودة آنئذ.
وفي ذلك العام اعتقل الأستاذ/ جمال على خلفية إصداره منشورًا ضد الاحتلال، فنصحه الإمام البَنَّا بتحويل الحزب إلى جماعة، وبالفعل تحول الحزب إلى "جماعة العمل الوطني الاجتماعي".
وفي عام 1948 اعتقل مرة أخرى في إطار اعتقالات الإخوان المسلمين بالرغم من عدم انتمائه التنظيمي لهم، حيث قضى في المعتقل حتى عام 1950 متنقلاً بين الهايكستب، والطور، وعيون موسى، وفي المعتقل أنشأ الإخوان ما يشبه الجامعة الأهلية مستفيدين من وجود العلماء وأساتذة الجامعات من الإخوان، وفي تلك الجامعة أتقن الأستاذ جمال اللغة الإنجليزية.
اللجنة الشعبية لإصلاح السجون
وفي عام 1953 ونتيجة لمشاهداته حول أحوال السجون والمسجونين، وبناء على شكوى المسجونين التي حملها إليه الأستاذ فتحي علام أحد طلبة الإخوان المسلمين عام 1952، أسّس الأستاذ جمال بالتعاون مع بعض رجال وسيدات الخدمة الاجتماعية في مصر "اللجنة الشعبية لإصلاح السجون" والتي رفعت شعار "المسجون إنسان ومواطن"، ونادت بعدة مطالب، منها: إلغاء المراقبة، وإلغاء السابقة الأولى، وتحريم الأغلال الحديدية، وتشغيل المسجونين كل في صناعته بأجر، وملاحظة الاعتبارات الصحية والاجتماعية، وجعل الحد الأقصى للأشغال الشاقة 15 عامًا، واعتبار المجرم مريضًا، وأن الجريمة ثمرة للنظام الاجتماعي.
وقد استمرت اللجنة في عملها برغم المعوقات التي وضعت نتيجة العلاقة المتوترة بين الإخوان والثورة، وحتى بعد أن صارت اللجنة تعرف باسم "الجمعية المصرية لرعاية المسجونين وأسرهم"، استمرت العراقيل توضع أمام الجمعية حتى تم إلحاقها بنظام الحكومة السائد.
الحركة النقابية.. نصف قرن من الاحتشاد
وفي عام 1950 التحق الأستاذ/ جمال بعضوية نقابة عمال الغزل والنسيج بالقاهرة، وذلك على خلفية عمله لبعض الوقت في أحد مصانع النسيج، واستمرت عضويته بالنقابة حتى عام 1952، وقد كانت تلك العضوية بداية اهتمامه بالكتابة في موضوع النقابية؛ وذلك لما لاحظه من جهل وتخلف الحركة النقابية المصرية، وهو الأمر الذي استمر خلال رحلة طويلة استغرقت أكثر من نصف قرن، كرّس فيها قلمه وعمله واهتمامه لهذا الأمر. وقد أثمرت هذه الفترة عن 42 من المؤلفات و16 من المترجمات بدأها عام 1957 بكتابه عن "دور المنظم في الحركة النقابية".
وخلال تلك الفترة عمل الأستاذ جمال مترجمًا لسلسلة من كتابات ووثائق واتفاقيات "منظمة العمل الدولية" من عام 1962 حتى عام 1971، كما عمل خبيرًا في منظمة العمل العربية ومحاضرًا في الجامعة العمالية المصرية من عام 1963 حتى عام 1993. وقد توّج جهوده بتأسيس "الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل " عام 1981 الذي وضع فيه خلاصة فكره الجامع بين الإسلام والحرية والنقابية، والاتحاد يضم عددًا من النقابات العمالية في العالم الإسلامي، ويسعى لتأكيد الحرية النقابية، وتبني عقيدة للحركة النقابية منطلقة من منظومة القيم الإسلامية.
هدهد سليمان
الأستاذ جمال البَنَّا فيما كتب ويكتب يشبه "هدهد سليمان"، الذي يطير منفردًا، لكنه يأتي دائمًا "بنبأ يقين" مستهدفًا إصلاح مسيرة الدعوات الإصلاحية الإسلامية، ومسيرة نظم الحكم، ومستهدفًا تحقيق الحرية والديمقراطية في ظلّ سيادة القيم الإسلامية، وتدور كتاباته في مجملها حول ستة محاور رئيسية:
- الحركة النقابية: وأهم ما أنتج في هذا ثلاثة مجلدات حول "الحرية النقابية"، و"مشروع لإصلاح الحركة النقابية"، و"الشورى في الإدارة".
- إصلاح الدعوات والحركات الإسلامية: وأهم ما كتب في هذا "رسالة إلى الدعوات الإسلامية من دعوة العمل الإسلامي"، و"ما بعد الإخوان المسلمين".
- الإسلام والحكم: وأهم ما كتب في هذا المحور "خمسة معايير لمصداقية الحكم الإسلامي"، و"مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم".
- العقيدة والشريعة والفقه: وأهم ما أنجزه في هذا المجال وأثار جدلاً ولغطًا كثيرًا كتابه "نحو فقه جديد" الذي صدر في ثلاثة أجزاء.
- موضوعات إسلامية أخرى: وأهم ما كتب في هذا المجال "المرأة المسلمة بين تحرير القرآن وتقييد الفقهاء"، و"الإسلام وحرية الفكر"، وأخيرًا "الجهاد".
- موضوعات سياسية عامة: وأهمها "سقوط وظهور جمهورية فايمار"، و"المعارضة العمالية في عهد لينين".
دعوة الإحياء الإسلامي
وهي الدعوة التي أطلقها الأستاذ/ جمال البَنَّا عام 2000 والتي يركّز فيها إنتاجه في الفترة الأخيرة، والتي يقول عنها:
"إنها ليست حزبًا أو هيئة أو مؤسسة، وليس لها نظام إداري أو كيان تنظيمي، إنها نظرية عن الإسلام، وكان يمكن أن تكون كبقية النظريات وما أكثرها، ولكن دعوة الإحياء الإسلامي رزقت عوامل وملابسات استثنائية تجعل منها نقطة الانطلاق من مرحلة الانتقال وحيرتها وتخبطها إلى مستقبل صلد رصين يتعايش مع العصر، ويضع الإسلام في صميم العالم وليس على هامشه أو في أذياله كما هو الآن".
وقد أصدر في إطار تلك الدعوة عددًا من الكتب حملت عناوين "مطلبنا الأول هو الحرية" و"تثوير القرآن" و"التعددية في مجتمع إسلامي"، وأخيرًا "إستراتيجية الدعوة الإسلامية في القرن 21"، و"الحجاب.. رؤية جديدة".
وما زال القلم يجري والحبر يسيل على الصفحات البيض، فبرغم بلوغه الثانية والثمانين ما زالت الكتابة والإنتاج الفكري هي مهنته الأولى والأخيرة.