صالح دياب
"تستمر الشاعرة المصرية إيمان مرسال في مغامرتها الشعرية التي بدأتها، في التسعينات، حينما أصدرت مجموعتها الشعرية «ممر معتم يصلح لتعلم الرقص» ثم «المشي أطول وقت ممكن». شقت مرسال، عبر مجموعتيها، طريقا شعريا يتمايز عن مجايليها من الشعراء المصريين، كما فسحت لغتها لصوتها أن يكون له سماته الخاصة ضمن شعر الجيل الجديد ، وحضوره الواضح .
«جغرافيا بديلة » ، دار شرقيات ، القاهرة ، 2006 هي المجموعة الشعرية الجديدة لإيمان مرسال، والأولى المكتوبة خارج مصر. تتصل قصائد هذه المجموعة، أسلوبيا وتعبيريا بقصائد مجموعتيها الشعريتين السابقتين.مصدر هذا الاتصال يعود إلى استمرار مراهنة الشاعرة على ما هو واقعي والذهاب إلى الحياة وإلى المكان و إضاءة تفصيلاته في علاقتها بالذات هذا من جهة ، ومن جهة أخرى تثابر الشاعرة على قطيعة درجت عليها في كتاباتها السابقة بالانفصال عن الواقع اللغوي الرمزي وعدم التعويل عليه ، والاعتماد على النثر أساسا لبناء الخطاب الشعري .
تصوغ إيمان مرسال في هذه المجموعة لوحة كبيرة ، تتأسس وتتشكل أغلب ألوانها من مشاغل المنفى و تصاريفه الصغيرة التي تؤسس حياة بكاملها .حيث تعيش الشاعرة منذ سنوات بعيدة عن الوطن الأم .لكن ، القصائد تنفصل منزاحة أيضا ، ناحية العلاقة مع اللغة و إدخال الفانتازيا الخفيفة أحيانا داخل فضاء القصائد.
إن أول ما يلاحظه القارئ للقصائد هو اتساع وتغير رقعة القاموس اللفظي الذي تنصاغ القصائد منه ، فالقاموس اللفظي ، في «جغرافيا بديلة» يتوسع ويأخذ رقعة كبيرة.
فإذا كان القاموس السابق للشاعرة واسعا ومتنوعا ،فإن مفردات بعينها ، تتكرر هنا ، إضافة إلى أن الفضاءات الدلالية التي تنسجها ليست بعيدة عن الفضاء الجديد الذي تعيش فيه .
فمفردات مثل : المهاجرون ، الغرباء الفشلة ، اللكنة ، المغترب ، رسالة ، الماضي ، المطارات ، الآثار ، الذاكرة ، السفر ،السفارات ، جواز سفر إلخ تعتبر مفاتيح للدخول إلى عوالم الغرباء البعيدين عن أوطانهم ،فضلا عن تخصص هذه المفردات بعالم الاغتراب نفسه الذي ينقلنا إلى الاغتراب الداخلي والخارجي معا .
فضلا عن تكرار هذه الألفاظ ،فإن مفردات تحيل مباشرة على المكان ، ترد من دون أن تبدو مقحمة ، بل تؤدي دورها التام ،داخل الخطاب الشعري مثل : المشفى الباريسي ، بوسطن ، شمال إفريقيا ، القاهرة ، شمال أمريكا ، مطار فرانكفورت ، مانهاتن إلخ .وعنوان المجموعة «جغرافيا بديلة» ليس ببعيد عن ذلك .
إن الشعور بالاغتراب هو ،هنا ، غير الشعور بالغربة ، فهذه الأخيرة تبدو سطحية أمامه ، ولعل أهم ما ينتج عنها ويصوغها هو وجود الحنين والشوق إلى مسقط الرأس ، و يمكن أن يؤدي الإغراق فيه إلى نسف الشعرية وجر القصيدة نحو فضاءات وصفية و إنشائية ، وهذا غير موجود إطلاقا في القصائد ،فهي تخلو خلوا من مادة الحنين ، التي طالما اتصف بها شعر عدد غير قليل من الشعراء العرب الذين يعيشون في المنفى .
ان الذهاب إلى المنفى والابتعاد عن مسقط الرأس لا يعني أبدا تغييرا في القناعات وتبدلا في مضمونها أو تغيرا في التفاصيل التي تشكل حياة إنسان ما .فلا يوجد هنا انقلابات جذرية متوقعة أو متخيلة يمكن أن تحصل .فالقناعات السابقة التي تشكلت في البلد الأم قد ترسخت ومن الصعب تغيرها هذا من جهة ،ومن جهة أخرى يبدو الكائن وكأنه محكوم بالأشياء نفسها بغض النظر عن الأرض التي يعيش عليها . فأولا وأخيرا هو الانسان نفسه مهما اختلفت التقسيمات الجغرافية . الكائن في هذه المجموعة، موسوم بالاغتراب، في كل مكان، وغربته الداخلية لا تمت إلى الجغرافيا بصلة، بل هي غربة الكائن العميقة التي تنخر داخله هو المحكوم عليه بالاستمرار حتى النهاية في الحياة: «ما تعلمته هنا لا يختلف عمّا تعلمته هناك: القراءة كتذكرة مرور إلى تغييب الواقع . تخبئة الخجل تحت ألفاظ بذيئة. إخفاء الضعف عبر إطالة الأظافر .
تسريب الأرق في التدخين دائما وفي ترتيب الأدراج أحيانا . توفير ثلاثة أنواع من قطرة العيون من أجل توضيح الرؤية ثم الاستمتاع بالعمى .والأهم ، تلك اللحظة الرائعة من إغماض الجفون على حريق . هنا وهناك تبدو الحياة وكأنها موجودة فقط لتراقب من بعيد . ص (١٤ ) ثمة في القصائد ـ رغم إيحائها بالذهاب مباشرة إلى العالم الخارجي ـ تأمل عميق بالوقائع البصرية ، وتفكر بها ، ينعقد عبر الفضاءات الدلالية التي تتشكل من هذه الصور مجتمعة .
التأمل هنا يحفر عمقيا في الوجهة الرؤيوية للشاعرة تجاه العالم. فعلى الرغم من أن القصائد تنقلنا للوهلة الأولى إلى التجربة المباشرة للشاعرة في علاقتها بالعالم والأشياء ، وبمعنى أكثر دقة إلى الوجود في العالم زمنيا ، حيث تكتب الشاعرة عنه وتحاوره مناقشة ، داخلة في الوجود اليومي إلا أنها، أيضا ، تحيل على الوجود الكلي ،وتعطينا صورة حزينة على بساطة مصير الكائن برمته ، مقروءا عبر الذات التي تنكتب بها القصائد والتي تبدو، أحيانا،وكأنها تتابع لأمراض الحياة الحديثة الثلاثة العزلة والوحدة والنسيان. في قصيدة د . ليفي تكتب الشاعرة تجربة ألم واغتراب الآخر ، وعدم اطمئنانه إلى جميع الأمكنة. الآخر هنا الذي«يتعذب بلغات مختلفة» ص(٧٨ ). هذه القصيدة هي إحدى أجمل قصائد الديوان ،تحيل عبر اغتراب الآخر على الأنا الكاتبة نفسها ، التي تتعذب بلغات مختلفة ،بينما الآخر هنا يمكن أن ينفتح على أي منّا . قصيدة خرائط غير بعيدة عن فضاء قصيدة د . ليفي فهي تحكي تحولات مستمرة على المكان ، يبدو المشهد مثيرا للتفكّر ، فالناس يدخلون ويخرجون لمجرد الدخول والخروج ، دونما هدف ودونما سبب واضح ،والشاعرة التي تدخل وتخرج تكتب ، مشاركة الآخرين غيابهم : «أنا أمر من هنا لا لأشارك هؤلاء الغرباء حسرتهم ولا لأضع الماء في النيل الذي يبدو مثل ثعبان نائم ( .....)
أنا لا أعرف لماذا أمر من هنا حقيقة» ص (٤٩ ـ ٥٠ ) إن اغتراب الذات ووقوعها تحت العبثية الزمنية التي ترشح من كل ما هو خارجي ، تجعل من هذه الذات متأملة نفسها ، فلا غرو أن نجد جملا ومفردات تنقلنا مباشرة إلى عبثية الوقائع الخارجية، ووهميتها أحيانا، وتعزز، جراء ذلك، عبثية الحياة نفسها التي تتقنع بسيل هائل من الصور الاستعراضية الحديثة : لا حاجة للخوف ص ( 16 ) لا شيء جدير بـأن تتمرد عليه ص ( 17 ) الزمن ليس مهما، إنه مجرد زمن ص ( 16 ) هذا ليس مهما لأحد ص ( 35 ) لن يكون هناك ما نعمله في هذه الدنيا ص ( 35 ) إن الاغتراب الداخلي يبرز من خلال القصائد عبر النزاع مع المحيط الذي يتميز بتسليعه التام لكل شيء ، و تدمير روح الإنسان و قوننة الكائنات وتعليبها كي تخدم مصالح السياسات المهيمنة على المجتمع و أذرعتها التنفيذية ، بينما تسعى الشاعرة إلى القبض وتكثيف الأصالة والشفافية فيما هو موجود .لذا تعلن لا مبالاتها وانسحابها ، وعدم دخولها في هذه اللعبة الوحشية .هذا ما نجده في قصيدتها ( الدولة) التي تتحدث عن تصنيع وفبركة الشخصيات الإنسانية لتعمل على مقاس نظم توتاليتارية معينة ،حيث الرأس الكبيرة هي التي تدير كل شيء تحت أقنعة مختلفة تأخذ تسميات مختلفة تبريرية مثل الوطن،أناشيد قومية ، الضريبة ، شركات محدودة للتنوير العام .وتنهيها الشاعرة بلا انتمائها إلى كل ما يجري بقولها: «بينما أنت منحن على الشرفة تتأمل شوارع معتمة وتقضم أظافرك»ص (٦٣ ) تستعيد الذات نفسها ، مستندة على الصور الطفلية ، وصور الماضي التي يعاد استحضارها ،من جديد ، كصورة «الجنيات» اللواتي يتسللن من الشباك ، و«أقماع من السكر، حبات من البرتقال والمانجو كانت زائرات خجولات يخبئنها تحت طرحهن السوداء ، كن يأتين بعد صلاة المغرب وكانت أطراف جلاليبهن الطويلة تلمس عتبة هذا الباب» ص(٢١)
هذه العودة إلى الماضي ليست عودة كلية، بل عودة محددة إلى المرحلة الأكثر نورا وضياء في التجربة الشخصية ، والتي يمكنها أن تمد الداخل بكم كبير من الإشراقات والبروق الروحية والشعرية. فمثلا هدم منزل هنا لا يعود هدما للحجارة فحسب بل قتل كم هائل من الذكريات الحميمية وتقطيع للمشاعر الرقيقة التي تقيم وتسكن في أعماق الذات ، وتستولي على أغوارها الداخلية . قصيدة : يهدمون بيت أهلي، ص(١٩ ) إن مشاغل المنفى و تصاريفه تؤدي إلى استخراج ما ترسب في الذاكرة مما هو شفوي لكنه في غاية الأهمية ،كونه مرتبطا بالطفولة ومرحلة معينة من العمر . هذا الشفوي هو شديد الإخلاص للتجربة الشخصية . الصور أو الأقوال التي تتلبس بثياب الحكمة الشعبية التي تجد مرجعية لها في الطفولة تتميز بكثافتها وغناها الروحي و حميميتها .هذا ما نجده يتسرب مرات في قصائد المجموعة عبر قبض الشاعرة على عدد من الأقوال الشفوية التي تعود على الماضي الطفولي، والتي ما زالت تشتغل في الذاكرة رغم الانقطاع الجغرافي عن مسقط الرأس . «خبأت جواز سفري في جيبي وأنا أمر هكذا لا يكلف ادعاء الإنسانية أكثر من تذكر الطفولة لا ( يجب أن يأكل الواحد حلوى أمام محرومين) » ص(٧٧ )
عملية الاستعادة هنا تبدو أشد حميمية وشعرية من الاستعادات السابقة التي كان يحكمها العيش المباشر بين الأهل . ثمة فتشية شعرية تظهر من خلال بعض العلامات والرموز التي تحيل على الوطن الأول . فالشاعرة تكتب عن مومياء تزور كندا، دون إرادتها وتقارن بينها وبين المهاجرين الذين يأتون بمحض إرادتهم إلى الغرب ، ثم يكتبون وصايا تحض أبناءهم على دفنهم في مسقط الرأس : «يجب أن تحملونا إلى هناك ـ هكذا يتركون الوصايا في أعناق أولادهم ـ كأن الموت هوية ناقصة لا تكتمل إلا في مقبرة الأسرة» ص ( ٩ )
بين الصورتين : صورة الكائن الميت الذي يجول سائحا رغم إرادته ممثلا بالمومياء، وصورة المهاجر الحي الذي يوصي بدفنه في مسقط رأسه، تنسج الشاعرة فضاء حادا من النسيان. قابضة على السؤال الحزين الذي يؤرق الغريب عن مصيره بعد موته ، نظرا لاغترابه عن المكان . هذا السؤال الذي لا تردمه لا الكتب ولا الثقافات ، ولا تبديل الأمكنة ولا الجغرافيا البديلة .إضافة إلى المومياء ، ثمة علامات و وإشارات رمزية صغيرة أخرى، تختزن الكثير من الأحاسيس والمشاعر في الداخل . ككليوبترا التي يتدلى رأسها من سلسلة الرقبة ،والتي تتحول إلى عمود مشنقة في عملية فانتازية تحيل على تغريب المنفى بالفانتازيا الخفيفة ، عبر مزج ما هو طفولي حي في الماضي ، بما هو آني يشع منه الموت . تلقي الشاعرة النثر في الخطاب الشعري ، دون أدنى خوف، وهي تسرد كما في السرد العادي القصصي ، لكنها سرعان ما تقفل عبارتها عبر جملة تشعرن السرد السابق، و تنقله من الفضاء النثري الأولي الذي تشكل مع اندفاع السرد وتقدمه إلى الموقعية الشعرية . العبارات التي تشكل هذا السرد تتأسس على صور مرئية تحيل وتنقلنا مباشرة إلى العالم الخارجي عبر أشيائه والمواد التي يتشكل منها .وهي صور مرئية تأتي متتابعة، وعفوية في تسلسلها: هنا أيضا أشجار خضراء تقف تحت ضغط الثلج وأنهار لا يتعانق بجانبها عشاق خلسة ، بل يجري بموازاتها رياضيون مع كلابهم في صباح الأحد، دون أن ينتبهوا للمياه التي تجمدت من الوحدة.
ص (١٠ ) والحال ، إن الشاعرة التي تذهب في قصائدها الجديدة إلى تكثيف تنثير خطابها الشعري ، وترك جملها مستريحة داخل الفضاء السردي الذي تتوسله ،جراء تركها لسائر الملحقات والاستدراكات اللفظية أخذ وظيفتها كاملة ،داخل النثر ،إلا أنها تنأى بخطابها عن سقوطه في الإخبار والتقريرية من خلال شعرنته ، عبر الضربات الشعرية ، التي تأتي إما داخل القصيدة وإما في ختامها .لكن هذا لا يعني أيضا ، الاعتماد الدائم على ما هو بلاغي في سبيل شعرنة القصيدة . فأحيانا، تغيب تماما الصور الشعرية ليحل محلها الكلام العادي الذي يصوغ القصيدة.لكن هذا الكلام لا يأتي، كيفما اتفق بل، ملغوما بطاقة شعورية كبيرة ، سلبا أو إيجابا ، سخرية ومرارة أو شماتة إلى غير ذلك من القيم النفسية الداخلية .مطعما بالحكمة الخفيفة، أو بالحوار.
جغرافيا بديلة ، قصائد تسعى إلى إضاءة مشاغل و تصاريف المنفى ، ترسم فيها الشاعرة صورة بانورامية للذات في علاقتها بالجغرافيا الجديدة وبأشيائها ، متكئة على كسور الماضي السلبية والايجابية .قصائد تتعقد و تتكثف مقارنة مع ماضي الشاعرة الشعري ، لتصبح أكثر حدة وألما ،تحتفظ بالنثر والقص خيارين أساسيين في معماريتها ، مضافا إليهما تغريب المنفى بالفانتازيا التي تنتشر في شكل خفيف فيها من دون تطرف .
مجلة نزوى : العدد التاسع والأربعون