ارتفع وعي الحركات النسائية في العالم رغم الاختلافات. لم تعد مطالب النساء في التحرر منفصلة عن مطالب الفقراء والأجراء والمهاجرين ، من كافة الجنسيات والأديان والعقائد والأعراق والفصائل والعناصر. تم الربط الوثيق بين القهر الجنسي ، والقهر الطبقي ، والعنصري ، والإثنى والديني ، والنوعي .
وفي بلادنا كانت الفرق السياسية ، خاصة الشيوعية ، تتهمنى بالبورجوازية أو الانشغال بقضايا ثانوية (مثل قضية المرأة والجنس والختان) ، عن القضايا الكبرى الإقتصادية والسياسية ، مع أنني ، في كل كتاباتي، لم أفصل بين قضايا النساء الجنسية والإجتماعية، والقضايا الإقتصادية والسياسية. لكن في ذلك الوقت ، كانت كلمة جنس ، أو ختان ، تكفى لتلويث سمعة منْ يذكرها ، خاصة إذا ذكرتها امرأة .
كانت الكتلة اليمينية المسيحية اليهودية تتصاعد قوتها ، تحت حكم رونالد ريغان في أميركا. وفي مصر كان النظام يعمل لفتح الأسواق المصرية للبضائع الأميركية ، وضرب الإنتاج المصري المحلي، تحت اسم الانفتاح. يشجع التيارات الإسلامية والمسيحية، لتقسيم الشعب طائفياً . وقعت الفتن الطائفية التي استمرت حتى اليوم في مصر وبلاد أخرى. زادت خطورة في القرن الواحد والعشرين تحت اسم الديموقراطية والتعددية والحريات الدينية، مع تزايد الفقر والبطالة، خاصة بين النساء والشباب .
تم ضرب الحركات النسائية في العالم كله ، مع تصاعد التيارات الدينية اليمينية ، في الغرب والشرق على السواء، من اليهودية والمسيحية والإسلامية والهندوكية والبوذية وغيرها . وكانت النساء أول الضحايا ، لسبب رئيسي، هو أن وضع المرأة أدنى من وضع الرجل، في أغلب الأديان والعقائد، رغم اختلاف الدرجة ، ونوع القهر ، الذي تتعرض له النساء ، خاصة الفقيرات منهن. فالقهر الطبقي يلازمه القهر الجنسي ، منذ نشوء النظام العبودي في التاريخ ، و حتى اليوم .
تمرس الإستعمار البريطاني القديم ، على استخدام الدين لتحقيق أهدافه الإقتصادية. في المؤتمر النسائي الدولي في نيروبي، عام 1985، قالت لي امرأة كينية ريفية : حين دخل الإنجليز بلادنا ، كنا نملك الأرض وكانوا يملكون الإنجيل ، حين خرجوا أصبحنا نملك الإنجيل ، وهم يملكون الأرض.
أصبحت حركات تحرير النساء في العالم كله ، ترفع شعار فصل الدين عن الدولة ، أو ما يسمى "العلمانية". تعلمت النساء الدرس القاسي ، تحت نير الحكم اليهودي العنصري في إسرائيل، والحكم المسيحي اليميني في جنوب أفريقيا، وفي جنوب الولايات المتحدة الأميركية، ما يسمى اليوم "حزام الإنجيل"، والحكم الإسلامي الإستبدادي في إيران ، وحكم الطالبان في أفغانستان ، وغيرها من الدول الدينية .
بل في البلاد التي تسمى نفسها ديموقراطية، والتي يحكمها دستور ، وقانون مدني ، دأبت هذه البلاد في الغرب والشرق على التضحية بحقوق النساء، من أجل ما سمى "السلام الإجتماعي" ، أو منع الصراعات الدينية والإثنية المتصاعدة ، مع تصاعد اليمين في الحكم ، مما أثار غضب الحركات النسائية ، فأصبحت تنظم نفسها عالمياً ومحلياً ، من أجل الدفاع عن حقوقها المسلوبة.
في فرنسا مثلا ، لولا التضامن النسائي مع المقاومة الشعبية، لما كان ممكنا إصدار القانون عام 2005، الذي يمنع التلاميذ والتلميذات ، من ارتداء الرموز الدينية جميعاً ، سواء كانت يهودية ، أو مسيحية أو إسلامية أو هندوكية ، أو غيرها .
في كندا ، نجحت الحركات النسائية الكندية، مع تضامن القوى الشعبية العالمية، في إجهاض المحاولة اليمينية ، لإدخال تعديلات دينية ، في قانون محاكم الأسرة والأحوال الشخصية.
تعرضت حقوق النساء لضربات متتالية ، في معظم بلاد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية ، تعاونت قوى اليمين في الكنيسة الكاتوليكية، مع القوى الرأسمالية المسيحية في أوروبا والأميركيتين مع التيارات الإسلامية اليمينية في آسيا وأفريقيا . رغم الاختلافات بينهم تعاونوا معاً، (تحت اسم الهوية الأصلية والخصوصيات الثقافية واحترام العقائد والأديان) لضرب الحركات التحريرية ، للنساء والشباب والفقراء والمهاجرين، والتدخل في حياة النساء الخاصة والعامة ، وفرض الدكتاتورية والاستبداد والاستغلال، وتم استبدال القانون المدني ، بالقانون الديني .
في ألمانيا مثلا (في أبريل ، عام 2007) اعتمدت قاضية ألمانية يمينية ، على القانون الديني في حالة طلاق، مما شكل مشكلة للقضاء الألماني. في العام نفسه (2007) في بريطانيا، تم السماح بتطبيق القانون الديني ، في بعض المحاكم بدلاً من القانون المدني .
نافقت بعض الدول ، في الغرب والشرق ، القوى الدينية اليمينية ، المتصاعدة سياسياً واقتصاديا ، وتنازلت عن دورها في حماية حقوق النساء القانونية، تحت اسم الحريات الدينية والتعددية، واحترام الهويات الأصلية ، وما سمى النسبية الثقافية، واحترام الآخر. بل إن الأمم المتحدة ذاتها ، شاركت في هذه اللعبة الخطيرة، تحت ضغط القوى المسيحية اليمينية واليهودية والإسلامية، فقد أدانت الأمم المتحدة مؤخرا ، أي نقد مسالم يوجه لأي دين من الأديان ، أو لأي نبي من الأنبياء ، أو لأي عرق من الإعراق .
بالطبع ، هناك فرق بين النقد العلمي البناء ، والشتيمة أو القذف. لولا النقد العلمي البناء للكنيسة في أوروبا العصور الوسطى، ما كانت النهضة العلمية ، ولا التقدم الإنساني الذي نعيشه اليوم .
هذا القرار الأخير من الأمم المتحدة ، يعد تراجعاً عن ميثاقها وعن جميع القوانين والدساتير، في كل بلاد العالم ، التي تكفل حرية الفكر والتعبير والنقد . في المؤتمر الدولي النسائي الأخير (8 مارس 2010) في السويد ، طالبت النساء بحق التعبير ، وحق النقد البناء لأي معتقدات سياسية ، أو دينية أو غيرها، ورفعت النساء شعار : " فصل الدين عن الدولة فى قضية النساء"، " الدين علاقة خاصة بين الفرد وربه "، " لا مواطنة دون قانون مدني كامل يحقق العدالة ، دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو الجنسية ".
من مقالات د . نوال السعداوى أكتوبر 2020