زياد أبولبن - جريدة الرأي
يحاول الباحث جوليان ريبيرا في كتابه "تاريخ الموسيقى في الجزيرة العربية والأندلس"، التقصي التاريخي لفن الموسيقي، فيقف في الفصل الأول عند ما توصل إليه شوبنهاور، الذي سعى عدد كبير من المؤلفين الموسيقيين للاستعارة منه. رأى شوبنهاور أن الموسيقى تعبّر عن الحقائق الكامنة في ما وراء الواقع المادي، في وقت كان لفاغنر رأي في مسألة الغموض الذي يحيط بالموسيقى، بقوله:"هنا لا يجد المنطق الاستطرادي والتحليلي له مكاناً، إنّ الموسيقى تنتمي إلى العالم السامي، وتثير النشوة القصوى للمشاعر اللامحدودة. يلاحظ الموسيقيّ فجأة أفكاراً مجردة، ثم يخططها في شكلها الأصلي وبذلك يكشف نفسه للعالم". يعتقد الباحث أنه قبل اختراع "التنويت الموسيقي" الذي لم يكن معروفاً حتى لأكثر الحضارات عراقة، لا يوفر تاريخ هذا الفن مادة جاهزة للدراسة، ويجد المؤرخ بالضرورة فجوات تمتدّ إلى قرون، وأناساً لا يمكن أن يعثر عندهم على لحن واحد موثق يسبق القرن التاسع عشر. وإن تاريخ الموسيقى لا يزال في بداياته. وأوروبا هي الجزء الوحيد في العالم الذي لقي فيه تسجيل الموسيقى بالنوتة اهتماماً دقيقاً، ولقد تمّ ذلك فقط نسبياً في العصور الحديثة. يتقصّى الباحث في الفصل الثاني من الكتاب الموسيقى العربية، ومما يثير السؤال قول المستشرق الفرنسي نيكولاس بيرون: "إنّ ما مضى من فن الموسيقى قد ضاع في الشرق. وفي هذه الأيام لا يستطيع حتى العرب المثقفون ثقافة عالية أن يفهموا المصطلحات الفنية التي تظهر بتكرار في البحوث عن الموسيقى. إنني لم أعثر على مسلم واحد يعرف معنى المصطلحات الفنية في كتاب الأغاني العظيم، الذي حددت فيه عدة أنواع من المؤلفات الموسيقية كثيراً ما أشير إليها في صفحاته". يورد الباحث مقولة ديشفرين مصدّقاً لها حول الموسيقى العربية الحديثة:"أنها ليست فناً بدائياً، ولكنه فن خرّبه المتحذلقون والعازفون العاجزون عن فهم أهمية التراث الفني الحقيقي". يتوقف الباحث في الفصل الثالث من الكتاب عند "كتاب الأغاني" للأصفهاني، الذي يعدّه مكتبة حقيقية بذاتها –كما يقول- تصف بالتفصيل الأصول، والترتيب الزمني، كما تنشر بإسهاب مجموعة واسعة من الأغاني العربية، وقيمتها الفنية، والمغنين والموسيقيين أيضاً. ويتتبع الباحث المغنين في العصر ما قبل الإسلامي، ويذكر أنهم كانوا ينشدون باللسان العربي، وهم من أصول أجنبية، فيذكر كتاب الأغاني عشر مغنيات ، خمس منهن بيزنطيات، مصحوبات بآلة البربط والباربيتو (وهي آلة من فصيلة القيثارة)، والخمس الأخريات من الحيرة، ثم على امتداد العصور الإسلامية المتوالية ظهر عدد كبير من المغنين، من تلك الأسماء: طويس وسائب خاثر ونشيط وابن سريج ومعبد وجميلة وعزة المَيْلاء وابن مسجح والغريض وإبراهيم الموصلي وابنه اسحق، ويخلص الباحث إلى أن الموسيقى العربية ولدت ليس بواسطة جيل عفوي تلقائي، ولا بنشوة غنائية بواسطة الأفراد، ولكن بالتقليد المباشر للألحان الفارسية والبيزنطية، التي أدخلت عليها التحسينات. يسهب الباحث في الفصل الرابع في حديث عن الموسيقى والغناء في بلاط الخلفاء الأمويين والعباسيين، واهتمام الخلفاء بالغناء منذ يزيد الأول بن معاوية، إلى هارون الرشيد، وعشق يزيد الثاني بن عبد الملك المغنية حبابة. دخلت الموسيقى قصور العباسيين بطريقة سرية إلى أن ذاع الأمر على الناس جميعاً، فتوافد المغنون والمغنيات على قصور الخلفاء، ووصلت الموسيقى العربية إلى أوجها في حكم هارون الرشيد وخلفائه المباشرين، بل كانوا يتقاضون مرتباً، ومرّة في عهد هارون الرشيد نظمت إحدى الحفلات التي شارك فيها ألفان من الأرقاء الذين اجتمعوا معاً وغنوا من نوع الهزج. يأتي الحديث في الفصل الخامس عن مدرسة الموصليين، عن إبراهيم الموصلي وابنه اسحق، والذين تتلمذوا على يديه، أمثال: مخارق وعلوية وعريب وغيرهم، وهذه المدرسة وصلت في شهرتها ومجدها في عهد هارون الرشيد، ثم يتبعه الفصل السادس للوقوف على انحطاط الأغاني العربية في الشرق، وكما يرى الباحث أنه بدأ من القرن العاشر الميلادي وحتى عشرينات القرن العشرين، وينقل الباحث قولاً من كتاب ابن سيده "المخصص" على لسان أبو طالب أحد الكتّاب:"وللألحان لصوص يسرقون النغم كلصوص الشعر، فمن الشعراء المفتضح كالسارق للقصيدة والبيت كله، ومنهم دون ذلك كالسارق للكلمتين والثلاث والسارق للمعنى يكسوه كلاماً آخر. وكذلك المغنون فمنهم السارق المفتضح الذي يسرق اللحن كما هو، وينقله إلى شعر آخر كفعل الطنبوريين في زماننا هذا، وغيرهم من مقاربي أصحاب العيدان، ومنهم من يسرق بعض اللحن بصفة له أو صيحة منه أو وردة أو نشيد ومنهم من تخفى سرقته مثل من يسرق تأليف لحن في الثقيل الأول وينقله إلى إيقاع آخر، أما ثاني ثقيل أو رمل أو هزج، ومنهم من يجيء إلى ثلاثة أصوات أو أربعة في الثقيل الأول على إصبع واحدة، فيسرق جزءاً من هذا وجزءاً من هذا، وردة من هذا، فيصوغ صوتاً من أصوات، ويكون في ذلك مثل من ينظم عقداً من جوهر ليس من غير حسن التأليف والنظم، وهذا هو الذي يسمّى الموشّى". يعالج الفصلان السابع والثامن الجانب التقني من الموسيقى خلال تلك الفترة، حيث إنّ الموسيقيين الذين أسسوا المدرسة العربية، قد اكتسبوا من جيرانهم تقنياتهم وألحانهم وموسيقاهم وآلاتهم، خصوصاً العود. ويعدد الخوارزمي في كتابه "مفاتيح العلوم"، وكذلك رسائل إخوان الصفا قائمة بالآلات الموسيقية، التي استعملها العرب، وبعضها في أصله ليس عربياً: الأرغانون (آلة لليونانيين والروم)، الشلياق (آلة لليونانيين والروم)، اللور، القيتار، الطنبور، الميزاني، العنق، المعزفة، المستق (آلة للصينيين)، الناي، السرناي، شعيرة المزمار، الصنج، الشهروذ، البربط. أما الفصول (التاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر) تتناول الموسيقى العربية في أسبانيا وتطورها، باعتبار "أن الموسيقى الشرقية قد اخترقت الآفاق وانتشرت في جميع أرجاء أسبانيا، ينشرها الأرقاء الذين لم يكونوا من الجنسية العربية، أو المغنون الذين كانوا سابقاً أرقاء، أو الأجانب الذين تعلموا في المدرسة الشرقية، لقد وجد المدنيون القدماء هنا أتباعهم المتأخرين، وأصبحت كلاسيكيات إبراهيم وإسحاق الموصلي مهيمنة في شبه الجزيرة الأسبانية من خلال الوسيط، ذلك الفنان الاستثنائي زرياب، تلميذ إسحاق الموصلي، ولقد شاعت نفس الأغاني والآلات في أسبانيا كما في الشرق خلال منتصف القرن التاسع الميلادي". أما الفصل الثالث عشر فيصف أقدم موسيقى أسبانية عُرفت وكُتبت في نوتة مفهومة، وذلك في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أما بقية الكتاب فإنها تلخص منهج جوليان ريبيرا في تناول مسألة الأغاني الأكثر قدماً –لاس كانتيجاس-(الكانتيجات)، لأنها بحكم تنويتها كانت تعتبر دائماً من موسيقى العصر الجريجوري. وقد كشفت له درايته آنذاك بالنماذج الموسيقية العربية في أعظم عهدها، أن تلك الأغاني تتناسب مع النماذج العربية، وبدورها أصبحت النماذج للموسيقى التي جاءت بعد ذلك بكثير، وكذلك الشعر. يبقى للكتاب قيمته العلمية في البحث عن المصادر والمعلومات، التي تناولت الموسيقى العربية في المشرق والأندلس، وأيضاً يضع الكتاب حقائق كثيرة عن تاريخ الموسيقى تحت ضوء جديد. صدر الكتاب عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، المجمع الثقافي، أبو ظبي، عام 2008، في 303 صفحات من القطع الكبير.