بهاء طاهر ومحمد توفيق مع زوجتيهما ستيفكا وأماني
أخبار الأدب 29 أكتوبر 2023
مر عام يا صديقي.
لحقت بك الدكتورة فوزية أسعد قبل أيام، مثلما لحقت أنت بصديقنا الأديب جميل عطية إبراهيم. لعلكم التقيتم في بعد آخر للوجود، لكنكم بالنسبة لي لم تتركوا هذا البعد الذي أمكث فيه مؤقتا. هنا حيث أجد نفسي، لا زلنا نجتمع.. ربما في منزل الدكتورة فوزية في ضاحية كولونج بيلريف في جنيف. إن صيفا نجلس في الحديقة. نتأمل سيقان البامبو التي انتشرت حتى أوشكت أن تستعمرها، ونستمع إلى سرد صاحبة الدار لمحاولاتها الفاشلة للسيطرة على البامبو المعتدي. دعت مضيفتنا كذلك مجموعة من الكتاب الأجانب. ربما كانت بينهم جين أليسون الفاتنة الأسترالية ذات القلم المسحور. أهمس إليها عن إنجازك الأدبي. تسألك عن كتاباتك. ترد باقتضاب. أعرف كم تكره أن تتباهى.
أتدخل لأحدثها عن رواية الحب في المنفى.. فأدبك لا يتساهل مع مسئولية إسرائيل عن ذبح الفلسطينيين المحاصرين، بينما العالم المتحضر يشاهد المجازر بتواطؤ يؤول إلى سادية. هذا تواطؤ خبيث لا يكتفي بإهدار القيم الإنسانية ومخالفة المواثيق الدولية، بل يذهب إلى ما هو أبعد بكثير.. يتلاعب بالعقول.. ويحول الجلاد ضحية، بل ويعلن إن الغربيين وحدهم يستحقون المعاملة الإنسانية.. وما عداهم دمه مباح وكرامته مهدرة. أما العالم العربي ففي عجز يندد. بعضنا متواطئ هو الآخر.. لكن لا مخرج لأحد منا من وحل المهانة. أقول للكتاب الأجانب إن روايتك تجسد بدقة أزمة المثقف العربي.. سواء كان منفاه جغرافيا أم نفسيا.. ذلك المثقف المحاصر هو الآخر.
تهز رأسك. ملامحك الفرعونية تشي بموروث ثقافي لحضارة جامعة متعددة الروافد، دورها مؤسس للمسيرة البشرية. بسمتك الهادئة كاشفة لشعور وطني لا يغيب الهمُّ العام عنه.. معبرة عن جرح جمعي غائر.
تتحدث أنت أخيرا عن قضايانا، تتكلم فيصمتون. لا تنطق بشوفينية محلية بل من منطلق المبادئ الإنسانية كالحرية والعدالة والتعددية والتعايش وقبول الآخر. تطرح حقوق الفلسطينيين ليس على سبيل الاستجداء لكن كحق يجب أن تتمتع به سائر الشعوب، يكافح من أجله البشر أينما كانوا. تتكلم بقوة الواثق من هويته، وبانفتاح المتواصل مع جذوره الإنسانية.
كما ترى يا صديقي، الحب في المنفى أبلغ وصف لأحداث الأمس واليوم. وقتئذ كان شارون واليوم نتانياهو.. والفرق ليس كبيرا على أي حال. هكذا الأديب ذو البصيرة.. دائم الحضور.
أكاد أوقن أن الدكتورة فوزية دعت كذلك الكاتبة الأمريكية سوزان تبرغيان، مؤسسة واحدة من أهم ورش الكتابة على مستوى العالم، والمهتمة بكتابة الذات الدفينة.
كتابة الذات الدفينة.. وهل وجد من هو أعلم بها منك؟
أسترجع أحاديثك عن قصة "أنا الملك جئت"، ذاك النموذج الفريد لكتابة الذات الدفينة. عندما لم أنجح في الحصول عليها أهديتني نسخة من المجموعة القصصية التي تحويها. تعرفت بالفعل على عمل إبداعي مذهل في شفافيته، يتعامل مع الذات على أكثر من مستوى: الذات الجمعية النابعة من التراث بطبقاته كمكون لا غنى عنه في حاضرنا.. الذات المادية المحددة في الزمان والمكان، التواقة إلى اللا منتهي في آن.. والنفس البشرية كثقب أسود تتوقف عنده قوانين الفيزياء، لكننا لا نكف مع هذا عن محاولة التواصل معها، خاصة بالمرور من تلك النافذة السحرية التي يفتحها الأدب أمامنا.
ربما حضرت إحدى أديباتنا المشاركات في النُزُل المخصص لإقامة الكتاب في قرية لافينيي، لعلها اليوم سلوى بكر أو هالة البدري أو سحر توفيق أو نورا أمين أو المرحومة نعمات البحيري أو لعله ناقدنا العزيز المرحوم إبراهيم فتحي وحرمه الدكتورة هناء. ألاحظ تقديرهم لك، وترحيبك الودود بهم، وعلاقاتك العضوية بحركة الأدب في عالمنا العربي.
إن تزامنت جلستنا مع احتفال شعبي ما، ربما نسير في مجموعات مثرثرة إلى الحديقة العامة المطلة على البحيرة. نجلس على الدكك الخشبية ونتابع الألعاب النارية تزركش السماء بتداخل مبهج للون والضوء، وتصم أذاننا مؤقتا بقرقعة البارود. في فترات الهدنة يتحدث الأستاذ جميل عن النظام الدولي المجحف على فقراء العالم، وما له من تبعات تمس كل مجتمع. في تلك الفترة – كما تتذكر يا صديقي – صدرت روايتا جميل عطية إبراهيم "خزانة الكلام" و"المسألة الهمجية"، وطبعا روايتك الرائعة "نقطة النور".
رواية "نقطة النور" تستكشف أيضا تلك العلاقة الخفية أحيانا بين تطورات النظام الدولي وتحولات مجتمعنا على وجه التحديد. فتلك التحولات التي بدأت في السبعينيات وأخذت المصريين في سباق محموم وراء المادة، ليست بعيدة عن التغير الذي حدث في توجهاتنا الخارجية. روايتك – مثل روايتا الأستاذ جميل – محملة بتلك الشواغل التي تداولناها ثلاثتنا حول النظام العالمي الذي أخذ يتبلور في تلك المرحلة، وكنا – كل من موقعه – نتابع تفاصيله من خلال عمل أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة في جنيف. في روايتك تذكرنا بأن توازن مجتمعنا وتماسكه لا يحفظه غير "نقطة النور" المتمثلة في تلك القيم الإنسانية التي أغفلها الكثيرون منا.
ألا يجدر بنا يا صديقي أن نعيد قراءتها ونحن على أعتاب نظام دولي جديد يتشكل أمام أعيننا.. يتشكل بالحديد والنار كما يتشكل بالبروباجاندا والثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا؟
ربما في طريق العودة تحدثنا الدكتورة فوزية عن فلسفة التوحيد عند إخناتون. ها هي تتناول مسألة الهوية من زاوية أخرى، زاوية ليست بعيدة عن أعمالك، بل حاضرة بقوة. صورة إخناتون في ذهننا الجمعي لا تقتصر على عقيدة التوحيد.. فهو الحائر الأول، الباحث دوما عن الحقيقة، المحاط بضباب الغموض. هو صاحب المعبد الذي يصل إليه الساعي بعد ضلال في الصحاري، يصل إليه حظا أو حدسا، وإن وصل لن يستطيع العودة. هو الملك الذي جاء في قصتك ولم يذهب. نسير بين ظلال تحت أشعة كشافات الشوارع الخجول، وعقولنا متيقظة بالأفكار والخيالات.
قبل أن نتجه للعودة ربما نتوقف أمام السيارات كما نفعل لانتشال آخر خيوط الحوار. لعلني أذكر الصعوبات التي تواجهني في عملية البحث التاريخي، استعدادا لكتابة رواية تتناول رحلة قام بها أحمد حسنين باشا مع المستكشفة الإنجليزية روزيتا فوربز إلى واحة الكفرة في الصحراء الليبية. حكايات الصحراء ليست بعيدة عنا. فمصر في حقيقتها واحة كبرى، بل جزيرة والصحراء محيطها. تهتم بالموضوع. فأنت ابن الوادي البار، إن أمكن لأبناء الدلتا أن يغفلوا الصحراء، فحقيقتها واقعة في أعين أبناء الوادي أينما اتجهت. تقول إنك شغوف بكتابة رواية من أدب الصحراء منذ قصة "أنا الملك جئت"، بل إنك تضع بالفعل خطوطتها الأولية. أتطلع إلى العمل وإن كنت أعرف أنه لن يأتي قبل عدة سنوات. أنت لا تسارع إلى الإنتهاء من العمل ونشره، بل تتركه يختمر في عقلك ووجدانك.. فعندما يصدر يكتسب موقعا في وجداننا الجمعي.. يصدر ليبقى.
اليوم وقد مر عام، أقول لك إنك لم تغب لحظة. أنت حاضر في تلك المودة الصادقة التي تربطني وزوجتي أماني بدينا ويسر والسيدة ستيفكا والسيدة ميرفت رجب. أرى طيفك كلما مررت أمام بيتك في الزمالك، أو جلست على مقهى مكتبة الديوان، أو زهرة البستان، أو موقعك المفضل في مقهى رباعيات الخيام.. أتفاعل معك في تلك الومضات واللقطات. لكنها ليست أبدا ذكريات لأحداث انقضت، بل لحظات حية لا تفارقني. وإن كانت إقامتي الأرضية كحال البشر إلى زوال، فماذا يبقى من تلك الحوارات والهموم والمشاعر؟ أقول لك بالدليل العملي: الأدب ثم الأدب. فعندما أعيد قراءة أعمالك لا أجدها تحاور ماضيا زال أو تاريخا فقد مدلوله، بل تتفاعل مع واقعنا الراهن ومستقبلا يكاد يداهمنا بلا هوادة.
هكذا المبدع.. دائم الحضور وإن غاب.