"اليوتوبيا أو غرفة تخص المرء وحده " بقلم / مؤمن سمير
عشتُ طول عمري أحلم بغرفةٍ تخصني تضم ذراعيها على كتبي الموزعة على كل الأركان: في الغرف والردهات وفي المطبخ ودورة المياه ، تحت السرير وتحت الملابس..الخ إلى أن شاءت ظروفنا وانتقلنا إلى شقة أخرى كانت أكثر ضيقاً للأسف وبهذا بهت الحلم وتعقدت خيوطه واضطررت أن أجمع كتبي في كراتين وأتركهم غرباء يتامى عند أحد أقاربي . الكراتين التي ملأت سيارة ربع نقل عن آخرها وارتفعت لعنان السماء استقرت في بدروم منزل قريبي وكنت كلما احتجتُ كتاباً منهم أشتريه مرة أخرى أو أبحث عنه على الشبكة العنكبوتية وهاجر حلمي رويداً رويداً من فئة الأفكار الهادئة القابلة للتحقيق إلى فئة الأوهام المستحيلة ،الملحة أكثر وأكثر للأسف: كنتُ أنعس يومياً على مشهد هبوط النقود عليَّ وأنا أسير في الشارع ثم شرائي منزلاً أخص نفسي فيه بغرفة تتسع كل يوم حتى تملأُ حياً بأكمله إلى أن صحوت في يومٍ مشئوم على مكالمة من قريبي يخبرني فيها أن (ماسورة مياه المجاري طفحت) وأن البدروم غرق بكل ما فيه وأن كتبي تحولت لعجين ، لكتل ملتصقة تلهو في رمادها رائحة ثقيلة لا تزول ثم أنهى المكالمة بكلام غامض فهمتُ منهُ أن الفاجعة حدثت منذ مدة ولم يستطع إخباري ساعتها لأنه (مكانش طايقني)... قضينا ثلاثة أيام بلياليهم في استخراج جثث الكتب وتسليمهم لعمال القمامة المتأففين ثم غادرتُ المكان متأبطاً أرواح وأصوات وروائح الراحلين التي كانت ترعى حولي وتَلِفُّ و تَلِفُّ ...تحولت حالتي من الملل ورفض الكلام إلى خَرَس مفاجئ رده المحيطون بي لهشاشتي وتفاهتي وتندروا على حزني الغريب والمبالغ فيه وأكدوا أن ذلك إنما يرجع في الحقيقة لانطوائيتي القديمة التي جعلتني أقضي عمري كله في جمع الكتب ، تعويضاً عن العلاقات السوية مع البشر ، حتى صارت العلاقة بيني وبين الورق مَرَضية بلا جدال !!...كان داخلي في متاهة ولساني عاجزٌ ومشلول إلى أن مرت الأيام البطيئة والثقيلة وانطلق لساني بالتدريج بعد أن تقبل عقلي الأمر على أنه لعبة من ألعاب القَدَر التي لا تنتهي ولا تتوقف معي...مرت سنة وراءها أخرى وأنا اشتري الكتب بهستيرية وجنون وعادت الشقة تختنق فصرت أهدي الكتب لقصر الثقافة في البلدة أو أنساها عامداً في منازل أصدقائي الأدباء ...أفعل هذا وأنا أشهد تحور حلمي لهيئة مختلفة جذرياً، هي السرير الذي يخصني وحدي بعدما هجرتُ السرير الوحيد وتنازلت عنهُ لزوجتي وبناتي وصرت أنام على الأرض!!
المهم أني مع اقتناء الكتب ، كنتُ شغوفاً دائماً بالحصول على مستنسخات أمينة لأعمال الفنانين التشكيليين الغربيين والمصريين والعرب من كل العصور ، وخلال رحلة السنين اشتريتُ لوحات أصلية عديدة وتصادقتُ مع العديد من الفنانين الذين أهدوني لوحات مُوقَّعة ( تفرَّح القلب الحزين ) ثم حدث أن غبنا عن الشقة وسافرنا لمناسبة عائلية في محافظة من محافظات الصعيد مخططين البقاء لعدة أيام لكننا بمكالمة كئيبة عدنا في نفس اليوم لنقابل السِباب و لعنات الجيران الذين تأثرت شققهم بالطوفان الذي حل بالشقة جراء نسيان زوجتي الصنابير مفتوحة ( بسبب لبخة العيال)...كنت أمرُّ مرتبكاً وزائغاً بالأثاث المُدَمَّر و ثروتي من اللوحات هي كل همي ، اقتربتُ منها وأمسكت بالعجين الملون وبدأتُ لا إرادياً – خوفاً فيما يبدو من أن تتكرر تجربة الخَرَس- في الضحك والعويل والصراخ والغناء في آنٍ واحد...
اليوم والآن أنا أعترف، أنا مذنبٌ وآثمٌ وشرير ، حلمتُ حلماً خارقاً ومتجاوزاً وصعباً وفَرَشْتُهُ على سجادة سنواتي التي تجاوَزَت الأربعين بكل تبجح ، لهذا عاقبتني السماء بإغراق كل ما أحببت ،كعادتها مع الفراعين والمغرورين، ليس لأكون عبرة لأحد ولكن لتتأدب نفسي الطماعة ...وهكذا تفوت عليَّ اللحظات وأنا ملفوفٌ بإحساس الضآلة والخجل وهائمٌ في طرقات الذَنْب والخطيئة ...لكن النفس المجرمة يبدو أنها مجبولةٌ على العصيان لهذا أضع يدي على خدي أحياناً وأسرحُ وأحلم بمساحة سحرية تخرج من العدم لا ملامح ولا تفاصيل فيها لكنها تكفي سريراً واسعاً بجانبه صفوف من الكتب ومعلق فوقه لوحة لا تحتاج لإضاءة كبيرة حتى تتوهج...