عرض بقلم عمر كوش المستقبل - الاربعاء 3 أيلول 2003 الكتاب: النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب المؤلف: ابراهيم الحيدري
اشكالية المرأة والنظام الأبوي (البطريركي) هي من الإشكاليات القديمة/ الجديدة، إذ تمتد لتطال الجنس والعائلة والمجتمع والسلطة، في الحضارات القديمة والعليا والحديثة، وقد تناولها وكتب عنها العديد من الكتّاب والمفكرين، وفي هذا السياق يسعى إبراهيم الحيدري، في كتابه الذي بين أيدينا، لطرح هذه الإشكالية المعقّدة للتحليل والنقد السوسيو ـ ثقافي، وهي مهمة تحتاج جهداً كبيراً، وبحثاً واسع المصادر والمرجعيات. فالمرأة منذ فجر التاريخ ـ كانت ولا زالت ـ ضحية النظام الأبوي الذي قنّن أعرافاً وتقاليد تجعل المرأة في وضع أدنى من الرجل، وهو وضع له تجسيدات متعددة يتجلى في اضطهاد نوعي وقانوني وعرفي، لا ترجع أسبابه إلى العامل البيولوجي أو الديني أو النفسي، بل إلى مجموعة القيم الذكورية المسيطرة التي لم تعترف بالمرأة كإنسان كامل، بالرغم من أنها تكوّن نصف المجتمع. وإذا كانت المجتمعات الحديثة أبوية عموماً، فإن المجتمعات العربية أكثر أبوية وأشدٌ محاصرة وتهميشاً للمرأة، وحضورها ودورها، مع العلم أن مجتمعاتنا العربية تخضع لسلطة قانونين متناقضين، واحد لا يفرّق بين المواطنين على أساس الجنس والدين والطبقة، وآخر يميّز الجنسين، ويُخضع المرأة لقانون الأعراف والتقاليد فتصبح جنساً آخر، مستبعد ومهمّش، مما يخلق تصوّراً سلبياً عن نفسها، ويقف عائقاً أمام تحقيق كينونتها كذات مستقلة عن/ ومتكاملة مع ذات الرجل في الوقت نفسه. المقدّس وعلى الرغم من أن الحداثة أخرجت المرأة من البيت إلى التعليم والعمل المقدس والعمل، إلا أن الجنس عند العرب بقي موضوعاً مقدّساً يرتبط بالعرض والشرف والأعراف، يواجه الحديث/ والكتابة فيه تحريماً ومنعاً ومصادرة، حتى بقيت وضعية المرأة بعيدة عن التحوّلات البنيوية الكبيرة التي حدثت في القرن العشرين، وهنا يتساءل المؤلف عن سبب عدم تبوؤ المرأة العربية حتى اليوم مركزاً قيادياً عالياً كما حدث، مثلاً، مع "ميغاواتي سوكارنو" في أندونيسيا وغيرها. وواقع الحال هو أن الواقع الاجتماعي يؤكد أن المجتمع في الشرق والغرب هو مجتمع أبوي/ ذكوري، حيث يسيطر الرجال فيه على مختلف شؤون الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وعلى الرغم من تقسيم العمل الاجتماعي بين الجنسين حسب وظائف كل منهما، فإن التفاوت الواسع بينهما هو حقيقة واضحة، عامة وشاملة، وهذا يعود إلى أن المرأة هي ضحية المجتمع الأبوي/ الذكوري، حيث لم يتح هذا المجتمع الفرصة للمرأة كي تقوم بدورها المفروض أن تقوم به، وبالتالي الرفع من شأنها ومعاملتها كإنسان كامل مثل الرجل، والاعتراف بحقوقها على المستويين النظري والتطبيقي. ويرى المؤلف أن أشكال الاضطهاد الذي تعاني منه المرأة ثلاثة: أولاً، الاضطهاد النوعي الذي يعني شيوع تفوّق الرجل على المرأة وسيادته عليها. وثانياً، الاضطهاد الأبوي/ الذكوري الذي يظهر في سيطرة الذكر على الأنثى في العائلة والمجتمع والسلطة. وثالثاً، الاضطهاد القانوني الذي ينبثق من الاضطهاد الأبوي، وينعكس في القوانين الوضعية والعرفية التي تضطهد بدورها المرأة في حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. ويحاول المؤلف دراسة مكانة المرأة في المجتمعات القديمة والحديثة، وتفكيك جوانبها الإيجابية والسلبية، بغية تقدير ومعرفة أهمية دور المرأة في العائلة والسلطة والمجتمع، وعوامل حركتها وثبوتها وتغيّرها من وضعية إلى أخرى. معتمداً على العديد من الدراسات النظرية والميدانية في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي والآثار وغيرها. ولا يعتبر المؤلف الدفاع عن المرأة، فقط، هدفاً أساسياً لكتابه، بل كذلك دراسة مكانة المرأة ودورها قديماً وحديثاً، ودراسة الأوضاع الاجتماعية التي تعيشها والعلاقات الاجتماعية التي تفرزها، وأسباب عدم إنصاف المرأة وعليه يلجأ في القسم الأول من كتابه إلى بحث مكانة المرأة ودورها الديني والاجتماعي والسياسي في المجتمعات القديمة التي وصل فيها احترام المرأة حدّ التقديس، في حين يبحث في القسم الثاني من الكتاب في مكانة المرأة ودورها في المجتمعات الحديثة، أي منذ تشكيل الدولة الحديثة وتطوّر النظام الأبوي ـ البطريركي الذي أدى إلى انحسار دور المرأة بالتدريج. حق الأم وتعتبر نظرية "حق الأم" للمؤرخ والحقوقي "ياكوب باخوفن"، أول نظرية حول مكانة المرأة وسلطتها في المجتمعات القديمة، وفيها تعدّ السلطة حقاً طبيعياً للمرأة، على اعتبار أن الأنثى هي الأصل. وعلى الرغم من أن المرأة، من الناحية الفسيولوجية ومنذ البداية، هي أضعف من الرجل، إلا أنها كانت قد احتلت مكانة عالية في العائلة وفي المجتمع وفي السلطة، في مرحلة حضارية قديمة من تاريخ المجتمعات الإنسانية، وبذلك انتصرت على قوة الرجل الفسيولوجية، فالمرأة تتماثل وفق نظريته مع الطبيعة والأرض، وهي أصل الخصوبة وانتاج الحياة. وكان قد ظهر الاحترام والتقدير وسيطرة المرأة على المجتمع، مع بدايات اكتشاف الزراعة واستقرار الأنسان على الأرض وظهور الدين، لكن بعد انتشار الزراعة ونشوء المدن، أخذت مكانة المرأة تفقد حقها الطبيعي بالتدريج، حيث فقدت سلطتها في المجتمع أولاً، ثم في العائلة، ثم في الدين. وهكذا بدأت مرحلة حضارية جديدة عليا في تاريخ التطوّر الانساني، هي مرحلة سلطة الأب البطريركية. وفي معرض تقييمه لهذه النظرية، يتساءل المؤلف عما إذا كان حق الأم الطبيعي هو حقيقة تاريخية أم مجرد أسطورة، معتبراً أنها فكرة طوباوية، وذلك لأن المجتمعات الأمومية كانت تضع النفوذ السياسي بيد الرجل على الدوام. ثم ينتقل بعد ذلك إلى مناقشة أهم الدراسات الأنثروبولوجية التي جاءت بعد "باخوفن"، وبالأخص آراء "لويس مورغان"، و"فريدريك أنجلز" و"هنري مين" وسواهم ممن درسوا العائلة والدولة والسلطة في العالم القديم. وبخصوص مكانة المرأة في الحضارات العليا القديمة، يدرس المؤلف مكانة المرأة في حضارة مصر القديمة، وفي حضارة بلاد الرافدين. ثم التحوّل الذي جرى من النظام الأمومي إلى النظام الأبوي في وادي الرافدين. ففي أسطورة إيزيس وأوروريس، تمثل أوزوريس الإلهة الأم والأرض وسيدة الطبيعة، وكذلك دور الملكات المصريات في المجتمع والسلطة وإدارة الحكومات ونظم العائلة والزواج والطلاق. بينما في بلاد الرافدين، كانت للمرأة أهمية اجتماعية ودينية عالية، تنعكس بتماثيل الأمومة والخصوبة، وخاصة في تماثيل عشتار، إلهة الحب والخصوبة والحياة. واستكمالاً لتقصي صورة المرأة في المجتمع الأبوي عموماً، يرى المؤلف أن هذا الأمر يتطلب دراسة سوسيولوجية تاريخية لفهم مكانة المرأة في أوروبا، منذ الاغريق والرومان وحتى العصر الحديث، وتحليلها من زاوية الفكر الاجتماعي والفلسفي، باستخدام أداة النقد الجدلي لفهم وتفكيك أنظمة الفكر الأبوي التي حطت من قيمة المرأة وأبعدتها عن ممارسة دورها الانساني والحصول علي حقوقها والاعتراف بها، ليس نظرياً وإنما علي مستوى الممارسة. فواقع الأمر يشير إلى أن كثيراً من الايديولوجيات دعم النزعة الأبوية التقليدية التي تؤكد تفوّق الرجل على المرأة، وعزز آراء العديد من الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين الذين انحازوا في كتاباتهم إلى وجهة النظر الأبوية، من أفلاطون حتى نيتشه. ويتطرّق في هذا المجال إلى مواقف المسيحية من المرأة التي تعتبر أن حواء أصل الخطيئة، وإلى تشويه الكنيسة لصورة المرأة في الرهبنة ومحاكم التفتيش التي اتهمت آلاف النساء بالسحر والشعوذة وأعدمتهن بالقتل والحرق. لكن منذ عصر التنوير والثورة الفرنسية، بدأت الأفكار والمواقف تتغيّر من المرأة، حيث قامت الحركات النسوية في أوروبا الحديثة، قبل أكثر من قرن، بالمطالبة بالحقوق والمساواة مع الرجل. ويسلط الضوء في هذا الصدد على موضوع المرأة والحياة الجنسية عند "فرويد"، عارضاً للانتقادات التي وجهت إلى نظرية فرويد من قبل "نالينوفسكي" و"ماركوزة" و"إريك فروم" وسواهم. منع ومصادرة وبالانتقال إلى وضع المرأة في المجتمعات العربية، يرجع المؤلف إلى تناول وضع المرأة في المجتمع العربي قبل الاسلام، حيث نظم العائلة والزواج والطلاق والتصوّرات الدينية المرتبطة بالأوثان والأساطير، في محاولة منه لمعرفة بقايا الانتساب إلى الأم، ودراسة أصول النظام الأبوي الذي ارتبط بنمط الانتاج الرعوي، وتأثيره على الحياة الاجتماعية وقتئذ، وخاصة على وضع المرأة. أما حضور المرأة في الاسلام، فيراه مرتبطاً بجملة الحقوق والواجبات التي أعطاها الاسلام للمرأة لتنظيم الحياة الاجتماعية ومساواتها بالرجل في الخلق والايمان والتملك والارث. غير أن التشريع الاسلامي لم يطبق في الواقع الاجتماعي، حيث أخذت المرأة تفقد حريتها وتفرض عليها القيود بالتدريج. إن إشكالية الجنس عند العرب هي ما يشكل المتن المحايث للكتاب، من جهة ارتباطها العضوي بالنظام الأبوي، فالجنس عند العرب مرتبط بالعرض والشرف، لذا فالحديث والكتابة عنه واجها ـ ويواجهان ـ منعاً وتحريماً ومصادرة. لذلك يحاول المؤلف التحرك بين الممنوعات والمحرمات، كي يقدم دراسة سوسيولوجية جادة للتراث الجنسي عند العرب، وتحليل اجتماعي لموضوع الفحولة في اللغة والأدب، وبخاصة الشعر، ولصورة المرأة في ذهن الرجل وصورته في ذهن المرأة، إلى جانب الاحتفاء بالجسد والعامل الجنسي كعامل محدد للشخصية. ويعرض المؤلف آراء عدد من الفلاسفة العرب، من الغزالي والجاحظ حتى ابن رشد وغيرهم، وكذلك يعرض موضوع الميثولوجيا العربية وتفسيرها للبنية الفكرية والاجتماعية من خلال أساطير المرأة والحية والشيطان، ثم يشرح مفهوم النظام الأبوي وتطوّره وتأثيره في المرأة والعائلة والحياة الاجتماعية، والذي تم التعبير عنه بثنائية التسلط والخضوع. ويستعرض المؤلف ثنايا الخطاب العربي المعاصر وقضايا المرأة فيه، عبر دراسة الحركة النسوية العربية في مئة عام، منذ قاسم أمين وصولاً إلى وضع المرأة في الخليج العربي. ويلاحظ أن قضية تحرر المرأة العربية أصابها تراجع نسبي في معظم البلدان العربية، ويرى أن العوامل التي أعاقت تقدّم المرأة العربية هي، أولاً: النزعة الأبوية/ البطريركية، والتي تظهر في أعلى أشكالها في العائلة مثلما تظهر في المؤسسات الأخرى، وتنعكس في ثقافة الأفراد وسلوكهم ومواقفهم، ومن سماتها سيطرة الأب على العائلة، شأنها شأن بقية المؤسسات. وثانيها: الانقسامات الاجتماعية والطبقية، حيث ما زالت المجتمعات العربية منقسمة إلى طبقات وفئات وشرائح اجتماعية، بحسب الوضع الاقتصادي والمكانة الدينية والانتماء القبلي والولاء الطائفي، وكذلك بحسب التقسيم الجنسي، التي تنعكس بالدرجة الأولى على المرأة. وثالثها: ضعف مؤسسات المجتمع المدني، حيث تشير البنى الاجتماعية الكلية، بما فيها الدولة والسلطة والشخصية، إلى مجتمع تقليدي، تابع ومقموع، يقتصر على القوة الداخلية والوعي الذاتي اللذين يحركانه، وهو الذي أنتج بنية من خصائصها سيطرة الأب على العائلة، بحيث تكون العلاقة بين الأب وأفراد العائلة، وبخاصة الأم، علاقة هرمية، وكذلك بينه وبين الحاكم، وهي علاقة تسلطية، تقوم على إجماع قسري على الطاعة والخضوع. ويعتبر المؤلف أنه لمن المفارقة، منذ خمسة عشر قرناً، أي منذ قيام الدولة الاسلامية، لم تصل أية امرأة عربية إلى قيادة الدولة، وهو أمر دفع الكثير من الاسلاميين إلى إظهار سلاح الماضي لسحب الثقة من أي امرأة تريد صعود السلم السياسي، مع العلم أن تاريخنا العربي والاسلامي يذكر عدداً من السلطانات والملكات، مثل ست الملك في مصر والسلطانة رضية في الهند وشجرة الدر في مصر وأسماء وأروى في اليمن وغيرهن، رغم أن بعض المؤرخين العرب والمسلمين حاولوا طمس ذكرهن أو عملوا على تمويه تاريخهن.