كان قد مضى على وفاته عدة أسابيع عندما رأيت في منامي أني أقف أمام جثمان أبي... كان الجثمان مسجى على سرير متعدد الطوابق، من ذلك النوع الذي يستخدمه البحار ة والجنود.. في الطابق الذي يقع في مواجهتي مباشرة كشفت الغطاء عن وجهه فأدهشني أن عينيه كانتا مفتوحتين رغم موته، وأنه يطل إلي بنظرته الحزينة، بل خيل إلي أن عينيه فيهما بقايا دموع!!. وحين رددت عليه الغطاء حانت مني التفاته إلى الطابق الأسفل من السرير... كان ثمة جثمان آخر مسجى... حين كشفت عنه الغطاء فوجئت بأنه أيضا جثمان أبي وأنه يطل علي بنظراته الحزينة الضارعة... رحت أنقل نظراتي بين طوابق السرير... في كل منها ذات الجثمان، وذات النظرات والدموع.
***
استيقظت مذعوراً والعرق البارد يتصبب على جبيني.
* * *
يوم الجنازة، وقف أبناء عمومتي إلى جانبي يستقبلون العزاء... ينظر المعزون إليهم فيبادلونهم النظرات، ثم ينظر الجميع إلي فيتجمد الدم في عروقي لحظة، ثم يغلي. في نظراتهم معنى لا يخطئه أحد. ليس في بالهم غير الميراث الكبير من الأرض الشاسعة، أو بالأحرى، التي يتصورون أنها مازالت شاسعة، والتي سوف استأثر بها وحدي.
***
حين وقف الشيخ فزّاع لكي يودعني، قبل أن ينصرف شدّ على يدي بعنف؛ حتى كاد يسحقها، وقال لي بابتسامة باهتة صفراء.
- لا تحزن فالله أخذ، والله أعطى.
هممت لحظتها بأن أبصق عليه. لكنني لسبب ما، أحجمت.
* * *
بعد أسبوع واحد من الجنازة، جاءني الشيخ فزّاع ،لكي يقول لي: أرض أبيك التي باعها لي، والتي دفعت ثمنها من حرّ مالي، أخذها الإصلاح. وأنا أريد بدلا عنها. قلت له: هذا استيلاء ابتدائي... مجرد إجراء روتيني يقومون به، إلى أن أقدم إليهم المستندات، فيفرجون عنها، أنت تعلم أن أبي لم يخالف قوانين الإصلاح، ومعي المستندات التي تثبت ذلك.
قال:هذا شأنك أنت والإصلاح، أما أنا فسوف أخذ قطعة الأرض التي بجوار منزلكم، بدلا من التي اشتريتها.
يا شيخ فزّاع هذه الأرض للبناء لا الزراعة، وأنت اشتريت أرضاً زراعية، وما زلت تزرعها ولم ينزعها أحد منك.
قال: والإصلاح؟
قلت: أقصى ما سيفعله الإصلاح، هو أن يطالبك بالإيجار، وسوف أدفعه أنا نيابة عنك، إلى أن يتم الإفراج عنها بإذن الله.
قال: وإذا لم يتم الإفراج.
قلت: سأستمر أنا في دفع الإيجار وتستمر أنت في زراعة الأرض، ولا شأن لك بالإصلاح.
قال: اكتب لي ورقة بذلك.
فكتبت.
* * *
في المساء جاءني أبنا عمومتي يحملون بنادقهم الآلية... قالوا: بلغنا أن الكلب فزاع يريد أن يستولي على أرض داير الناحية، وأنه جاء يهددك هذا الصباح، وتطاول في الكلام عليك، وعلى أية حال أنت المحقوق... نعم الحق عليك وحدك... لماذا لم تبعث إلينا حتى نريه العين الحمراء، وحتى يتذكر، إن كان قد نسي أن الأشراف ليسوا مثل الجراجسة أو الفخرانية الذين استولى على أرضهم، ودفنهم فيها. لماذا لم تبعث إلينا حتى نقول له، في وجهه. إننا قادرون على إبادة عائلة الكوامل بأكملها، وحتى تذكره بالمثل الشائع في بلدنا: "يا حال يا مايل. عمل الزمن عمايل. حتى النواقص سموا نفسهم قبائل" ! !
قلت: لا تتعجلوا الأمور، فالمسألة لا تستحق. والشيخ فزّاع كان معه حق في هذه المسألة بالذات ! !
ضربوا أكفهم بالأكف وقالوا: معه حق ! ! وهل يعرف الحق هذا الكلب الضلالي؟ !
قلت: الإصلاح استولى على الأفدنة الثلاثة التي باعها له أبي. جاء يسوي المسألة معي، وقد سويناها والحمد لله.
- هل قلت له إنك سوف تعطيه بدلا منها؟ !
قلت: أفهمته لأن هذا استيلاء ابتدائي، وسوف يفرجون عن الأرض بمجرد أن أقدم لهم المستندات، وإلى أن يحدث هذا، فسوف أسدد الإيجار نيابة عنه إلى الإصلاح.
تعجبوا من كلامي، وعادوا يضربون الأكف بالأكف:
- ولماذا تدفع أنت الإيجار؟ ملعون أبوه وأبو الإصلاح. إذ لم يكن يعجبه فليس له إلا ثمن الأرض. تعطيه له على المركوب القديم، وتسترد أرض أبيك، وبعد ذلك أنت والإصلاح تصفيان.
- قلت: ليس معي ثمن الأرض !
- سبحان الله. كل هذه التركة التي تركها لك أبوك، وتقول: ليس معي ثمن الأرض. هل نسيت أن المرحوم باعها بملاليم، أم أنك مثل أبيك، تقول هذا الكلام ؛ لكي لا نطمع فيك. إن كنت يا ابن العم تظن أننا جئنا نلقى عليك جثثننا عليك، فخيبة الله عليك وعلى من رباك. لقد جئنا لك فقط لكي نقف معك بسلاحنا، وأرواحنا.
قلت: الله وحده عليم بالحال، وأنا أدخركم للحاجة، ولا أستغني عنكم أبداً. ولكن سويت المسألة بما يرضي الله، وقد اقتنع الرجل، فما الداعي لإثارة المشاكل.
قالوا: والله لم يقتنع إلا لأنه يعلم أن وراءك رجالاً، مستعدين للموت في سبيل كرامة العائلة،.. إياك أن تنسى هذا.
وانصرفوا وعلامات الغيظ على وجوههم. لا أدري أمنى، أم من الشيخ فزّاع، أم من الاثنين معا!
* * *
عندما صدرت قوانين الإصلاح الزراعي، لأول مرة في بلادنا، استولت الحكومة على ثلاثة أرباع أرض أبي، ومع هذا لم يتأثر وضعه في البلد، فقد كانت الأرض التي استولوا عليها تقع في زمامات بعيدة جداً عن زمام بلدنا. ظل أبي، رغم هذا، هو المالك الكبير في البلد. الأكثر من ذلك أنه، على سبيل التعويض، توسع في إنشاء المناحل، والمشاتل، وحدائق الفاكهة، ومزارع الألبان، بل واستفاد من قوانين الإصلاح ذاتها، عندما أنشأ – باعتباره مهندسا زراعيا – مشروعاً لاستصلاح الأراضي الصحراوية... اقترض من البنوك بضمان السندات التي أعطتها له الحكومة، واشترى ماكينات المياه، ودق المواسير في الأرض، وأنشأ القنوات والمصارف، وأخيراً انسابت المياه، فاخضرت الرمال، وأضيفت مئات الأفدنة إلى زمام بلدتنا المحدود.
* * *
بعدها بسنوات جاء أبناء عمومتنا يحملون بنادقهم الآلية.. قالوا لأبي: بلغنا أن الحكومة تعتزم إصدار قوانين جديدة لتحديد الملكية الزراعية،.. يقولون إنهم لن يسمحوا للشخص الواحد بأكثر من خمسين فداناً، سواء من الأرض القديمة، أو المستصلحة.
قال أبي: يبلغكم هذا الكلام، وأنتم في بيوتكم، وغيطانكم، ولا يبلغني وأنا عضو في البرلمان ؟!
قالوا: الناس كلها تتكلم، والجرائد كلها عادت تكتب عن جيوب الإقطاع. يقولون إن المشير بنفسه سوف يرأس لجنة لتصفية الإقطاع. وأبناء العائلات الأخرى في البلد بدءوا فعلا يبعثون الشكاوى والبرقيات، يطالبون اللجنة بتوزيع أرضك عليهم.
قال لهم: هذه اللجنة مشكلة لمحاسبة الذين خالفوا قوانين الإصلاح. أما أنا فأطبق القوانين بحذافيرها. أنا الوحيد في عموم المحافظة، وربما في عموم الصعيد، الذي أنشأ مشروعا لاستصلاح الأراضي الصحراوية، لكي يتملكها خمسة وعشرين عاما فقط، طبقاً للقانون، ثم يقوم ببيعها أو تسليمها للحكومة. لهذا السبب، فأنا موضع ثقة التنظيم، بدليل أني ما زلت عضواً في البرلمان. أما عن تغيير القانون الحالي، فأنا لي اتصالات كثيرة، ولم يبلغني أن الحكومة تفكر في تغيير القانون.
قالوا: يا سعادة البك. نحن نعلم أن لك اتصالات كثيرة. ونعلم أنك صديق أنور بك كبير البرلمان شخصيا، ولكن الحكومة لا أمان لها. افترض، مجرد افتراض، أن مثل هذا القانون صدر ماذا ستفعل؟
قال: عندما يصدر مثل هذا القانون، فسوف يحلها الله، كما حلها في المرة السابقة.
قالوا: لقد هدانا الله سبحانه وتعالى إلى الحل.
- وما هو؟ !
- تبيع لكل واحد منا قطعة صغيرة من الأرض، ونسجل العقود، أو على الأقل نحصل على أحكام صحة ونفاذ، بهذا توسع علينا من ناحية، وتؤمن نفسك من ناحية أخرى.
قال أبي: هل تملكون الثمن؟
قالوا: اعتبر أرضك وديعة لدينا إلى أن تهدأ الهوجه. وخذ علينا كمبيالات. أو خذ ما تشاء من الضمانات.
صمت أبي طويلا، ثم قال: معذرة يا أبناء العم، فأنا لن أبيع الآن. وعندما تنتهي مهلة الخمسة والعشرين عاما التي حددها لي القانون، وربما قبلها بقليل، إن كان لنا عمر، فسوف تكونون أولى الناس بالأرض المستصلحة. أما الأرض القديمة فهي لي، ولابني، ولأحفادي، إن شاء الله إلى الأبد.
عندئذ وقف الليثي مظهر، وهو يلوح ببندقية، وصاح بصوته الذي يشبه الخوار: يا سعادة البك. في المرة السابقة وزعوا أرضك البعيدة عنا في الوجه البحري. أما في هذه المرة فسوف يوزعون أرض البلد التي هي لحمك ولحمنا، ولن نرضى بأن يأكل لحمنا الجراجسة والفشاخره والفخرانية ونصبح معـرّة العائلات.
..صاح الحاضرون:
- اسكت يا ولد يا ليثي.
وقال أبي: اتركوه يكمل كلامه... ما معنى كلامك يا ليثي؟
- معناه: إذا لم تبع لنا يا سعادة البك ما يعجبك، فسوف يبرك كل منا على قطعة الأرض التي تعجبه، ويفلحها بالقوة، ولا يتركها لك إلا أن يقتل دونها، أو يدخل الليمان. وليكن في علمك يا سعادة البك أنها ليست أرضك. إنها كرامتنا، وكرامة العائلة.
بوغت أبي، في حين قام بقية أبناء عمومتنا يستنكرون هذا الكلام، وانهالوا عليه ضربا بالبُلِّغ، و طردوه من المجلس.
قالوا لأبي: لا تؤاخذه يا سعادة البك، فهو صغير السن وطائش، وحقك علينا... الأرض أرضك، والأمر أمرك، وأنت كبيرنا، والحكم فينا، بعد الله، لك وحدك، وعندما تحتاجنا أرسل إلينا، وسوف تجدنا أطوع لك من خدمك. وانهالوا على رأسه ويديه تقبيلا، ثم انصرفوا.
* * *
في مساء ذلك اليوم ظل أبي ساهما....
قال لي وهو يزفر زفرة مريرة: أنا وحيد... أبي لم يرزقه الله من الذكور سواي، ولم يرزقني الله سواك، ليتني كان لي اخوة أو أبناء كثيرون، إذا لما وضعنا الزمان في قبضة أبناء العمومة الأباعد.
قلت: ولكنهم اعتذروا لك، وقبلوا رأسك ويديك. بل وهمّوا بتقبيل قدميك، لولا أنك منعتهم من ذلك.
قال: هل انطلي عليك هذا التمثيل. ما في قلوبهم جميعا هو ما جاء على لسان الليثي. إنهم مرعوبون، يخشون فعلا أن تقوم الحكومة بتوزيع الأرض على أبناء العائلات الأخرى، ولا ينوبهم شيء، ولا أخفي عليك أن هذا قد يحدث فعلا، أو يحدث شيء قريب منه.
قلت: ولكنك في حدود ما أعلم لم تخالف القانون.
قال: ليست المسألة أن أخالف القانون أو التزم به... إننا مقبلون على فترة من تصفية الحسابات،... وعلى مستوى القمة السياسية،... على مستوى القمة تدور صراعات لا يشعر بها أحد،... كل طرف يحاول توطيد مكانته واكتساب جماهيرية على حساب الطرف الآخر، ..كل هذا تحت واجهة تأكيد الاشتراكية وتصفية الإقطاع... وفي أتون المعركة قد تدوسنا بقصد أو بدون قصد، سنابك خيل الكبار.
وصمت فترة، وقال: أغلب ظني أن أبناء عمومتنا قد حسموا أمرهم فعلا، واتخذوا قرارهم ضدي، حتى قبل أن تتضح الأمور. وأغلب ظني أنهم اتفقوا فعلا على رأي الليثي، ولا أستبعد أنهم ضربوه بالبلغ برضاه وموافقته سلفا... كل ما في الأمر أنهم تركوا لي مهلة للتفكير.
قلت: وهل يجرءون. سوف تشكوهم، إن فعلوا للنيابة.
قال أبي: وهذه في حد ذاتها فضيحة! فضلاً عن أنهم، إن كانوا متفقين، فسوف يشهدون لبعضهم... ربما زعموا أنهم يستأجرون الأرض، وأننا رفضنا تحرير عقود إيجار مكتوبة. وفي هذه الحالة سنقع نحن –لا هم- تحت طائلة القانون. وفي أية حال من الأحوال،... وأيا ما كان الذي سيقولونه، فإن النيابة سوف تأمر، كعادتها، ببقاء الحال على ما هى عليه، والمتضرر يذهب للمحكمة.
قلت: نذهب للمحكمة.
قال: أنت نسيت الظروف التي نحن مقبلون عليها، والتي قد نتعرض لها، وحتى إذا ظلت الظروف عادية بالنسبة لنا، فسوف تنقضي السنوات الطويلة. قبل أن تحكم لنا المحكمة... وحتى تحكم، فربما لن نستطيع تنفيذ الحكم. أنسيت أنهم هم – لا الحكومة- الذين نفذوا لنا بمجهوداتهم ما حصلنا عليه من قبل من الأحكام القضائية؟.. أنسيت أن جميع المزارعين من أبناء العائلات، يمتلكون البنادق الآلية، وأنهم بفضل قوتهم يستطيعون تنفيذ أو تعطيل ما يصدره القضاء من أحكام؟ ! ...الجميع هنا يمتلكون الأسلحة، إلا أنا، وأنت يا ولدى، فلا نملك إلا سلاح العلم، أو سلاح القانون. وكلاهما قد أثبت أنه سلاح لا يخيف أحد في بلدنا ! ! ليتنا ما تعلمنا ! !
***
طيلة الليل كنت أسمع أبي يتأوه،.. لم أنم ليلتها ولم ينم، وفي الصباح أرسل أبي إلى أبناء عمومتنا وكتب لهم العقود، وأخذ عليهم الكمبيالات، واشترط عليهم بينه وبينهم أن يكون المحصول بالمناصفة فوافقوا .
بعدها قال لي أبي، وكأنه يعتذر:
- لم يترك الزمان لي يا ولدي خياراً، ولا حكماً، إلا بأن أحكم بتقطيع لحمي عليهم، بالطريقة التي أرضاها.
وابتسم ابتسامة مريرة، ثم أجهش بالبكاء.
***
لم يقدر لأبي أن يبتسم ابتسامة صافية، بعد ذلك قط... فبعد أيام، جاءت الشرطة العسكرية ذات الأوشحة والبيريهات الحمراء ... جردوا كل شيء.. حرزوا المستندات والأشياء الثمينة وأخذها معهم، ثم ختموا باب منزلنا بالشمع الأحمر، وقالوا لنا: إننا مشمولون بالحراسة العامة، وإن إقامتنا محددة منذ اليوم في العاصمة، وإنه محظور علينا أن نغادرها إلا لعذر جوهري، وبتصريح من مباحث أمن الدولة!!. وقالوا لنا أيضاً: إن اللجنة العليا سوف تصرف لنا نفقة شهرية، بعد إتمام بعض الإجراءات.
ليلتها لم نشاهد أحدا من أبناء عمومتنا، ولم يحاول أحدهم أن يأتي لتوديعنا عندما حملنا البوكس وألقى بنا إلى القطار المتجه للعاصمة!، ومع هذا، وللأمانة، فإن الكثيرين منهم قد زارونا بعد ذلك خلسة في محل إقامتنا بالسيدة زينب، وحملوا لنا الهدايا الكثيرة، وقالوا لنا إن البلد كلها تبكي علينا، وتدعو لنا بسلامة العودة، ولكنهم قالوا لنا أيضاً: إن الليثي مظهر قد جمع حوله مجموعة من العواطلية من أبناء الجراجسة والفخرانية والدلاليك، وأخذوا يهتفون: " يسقط الإقطاع، وتحيا الثورة"، وأرسلوا العديد من برقيات المبايعة والتأييد.
في زيارة تالية قالوا لنا: إنهم عينوا الليثي أميناً للتنظيم، ثم همسوا لنا بأنه قد أخذ يستغل وضعه الجديد كأمين للتنظيم وبدأ يتاجر في الأسلحة والمخدرات.
* * *
عندما ذهب أبى إلى أنور بك لكي يقول له إنه لم يخالف قوانين الإصلاح؛ وإن جميع المستندات التي وجدوها عنده تؤكد ذلك بشكل قاطع. طمأنه أنور بك، وقال له: إن المسألة مسألة وقت، وإنهم سوف يرفعون عنه الحراسة، وسوف يعيدون إليه أرضه حتماً بمجرد أن ينتهي بحث الحالة.
قال أبي: إنه يعتقد أن في الأمر وشاية كاذبة أو دسيسة... قال أنور بك إنه أيضاً يعتقد ذلك، وإنه يكاد يقطع بأن صبري بك شخصياً هو الذي دس له لدى مكتب المشير،.. قال لأبي: وهل ينسى لك أنك حاصرته بالأسئلة في المجلس عن المعتقلين السياسيين، وهل تنسى أنت أنه فقد أعصابه وقال لك: تسألني كما لو كنت وزيراً للداخلية، وأنك قلت له: إن طهارة العمل السياسي ونظافته أمانة في عنقك قبل أن تكون أمانة في يد وزير الداخلية، وحين صفق الأعضاء فأغلب الظن أنه تصور أنهم يصفقون لكلمة " طهارة" و "نظافة". ..فأنت تعلم أن ذمته المالية موضع شبهات وهو يشعر بأن على رأسه ريشة... لا أظنه قد نسي هذا الموقف لك. ومع هذا فإن الأمر بأكمله الآن في مكتب المشير، ولا أظن أنهم سيظلمونك للنهاية إرضاء له... وفيما روى أبي، فإن أنور بك ، صمت لحظة ثم قال: ولكنهم في مكتب المشير يحتاجون إلى حوافز ! والتقط أبي طرف الخيط، وقال مستوثقا ماذا تعني؟
- إنهم في مكتب المشير، يعانون من ضغط العمل... الحالات التي يبحثونها كثيرة جداً ومعقدة وشائكة. ولديهم آلاف المستندات والتقارير المتضاربة عن كل حالة. ومرتباتهم ضعيفة كما تعلم.
قال أبي: معي ثلاثة آلاف جنيه. أحملها في حزام فوق بطني. أنفق في هذه الأيام على نفسي، وعلى البيت، إلى أن يصرفوا لنا النفقة.
قال أنور بك: عظيم. أترك مسألة توصيل المبلغ على الله وعلىّ شخصياً. وإن شاء الله سينتهون من بحث حالتك، ويرفعون عنك الحراسة في خلال أسبوع، على الأكثر، وقبل أن تحتاج إلى صرف النفقة.
* * *
بعد أيام ذهب أبي إلى أنور بك يسأله عن الأخبار، قال له: إن صبري بك أرسل خطابا رسميا إلى المجلس، يطلب فيه إسقاط عضويته. وقال له: إنه هو شخصيا قد اعترض على هذا الطلب، لأنه واثق من أن الحراسة قد فرضت بطريق الخطأ. واقترح بدلا من إسقاط العضوية منح أبي إجازة مرضية تعفيه من حضور الجلسات، إلى أن يصدر قرار نهائي بشأنه، من مكتب المشير.
قال أبي: ولكنني لست مريضاً.
قال أنور بك: إفهم يا صعيدي. هذا مرض تكتيكي ! !
كتب أبي طلبا للحصول على إجازة مرضية لمدة أسبوعين. ووافق أنور بك. وحفظ الطلب في ملف أبي بالمجلس.
بعد أسبوعين قال أنور بك لأبي: إن الأمور تسير في طريقها المرسوم، غير أن عليه أن يطلب تجديد إجازته المرضية لمدة أسبوعين آخرين فقط سوف يجئ خلالهما الفرج... بعدها جدد إجازته لمدة شهر كامل... وبعد ذلك حصل على إجازة مرضية مفتوحة ! !
* * *
قبل أن يسقط أبي مشلولاً. قال، وكأنه يحدث نفسه:
- يخيل إلي أن أنور بك ليس له صلة لا بمكتب المشير، ولا بمكتب صبري بك.
وصمت طويلا، ثم قال: إذا صح ظني. فمعنى هذا.. أن آخر قطعة من اللحم الحي..
ولم يكمل العبارة إذ انكفأ على وجهه وراح يصدر صوتاً كالشخير.
* * *
في ذلك الوقت، ظهرت نتيجة ليسانس الحقوق، وكنت الأول على دفعتي، وفي ذلك العام، عينوا ثلاثة معيدين، بعد استبعاد الأول على الدفعة، الذي هو أنا.
استبعدوني أيضاً من النيابة، ومن مجلس الدولة، واستبعدوني من جهاز التعبئة، رغم أن رئيس الجهاز استدعاني بعد الامتحان الشفوي، وهنأني بنفسه، وقال لي: إن خطاب التعيين سوف يصلني قريباً، ..أغرب من هذا أن نقابة المحامين لم تقبل قيدي كمحامٍ تحت التمرين، بحجة أنني مشمول بالحراسة العامة بالتبعية، وأنني مسلوب الأهلية! !
اضطررت وقتها للعمل من الباطن، في مكتب محام شهير من معارف أبي. أنسخ له القضايا من المحاكم، وأعد له الدوسيهات، وأكتب له عرائض الدعوى والمذكرات التي كان يقرؤها بتأفف ثم يلقيها جانباً، ثم أفاجأ بعد ذلك بأنه قدمها إلى المحكمة بإسمه دون تغيير حرف واحد. بل وتفاخر في مجالس المحامين، بأنه قد أثار في مذكراته دفوعاً لا مثيل لها في تاريخ القانون ! !... وعن طريق هذا المكتب أقمت الاعتراضات العديدة أمام اللجان القضائية للإصلاح الزراعي، مطالبا بالإفراج عن الأرض المستولي عليها.
* * *
حين حكمت اللجان القضائية لصالحنا في نهاية المطاف. وحين أعادوا إلينا أرضنا، أعادوها إلينا مثقلة بالديون التي لا حد لها. وكان النحل لعلة ما قد هجر المناحل، وكانت حدائق الفاكهة قد أصيبت بشتى الآفات التى لم يفلح معها علاج، وتحولت في النهاية إلى أخشاب واضطر الحارس لتأجيرها. وحين أعادوها إلينا، أعادوها بمستأجريها الذين كانوا قد قلعوا الأشجار وزعوا الأرض بالمحاصيل التقليدية، ولم يعد لنا عندهم من ثم إلا الإيجار الضئيل،.. وما حدث للحدائق حدث للمشاتل، وتحولت من إنتاج الشتلات النادرة من الفواكه والزهور، إلى إنتاج العدس والفول والفجل!!، وحتى العدس والفجل لم يكن من حقنا أن نطالب من ثمنه إلا بملاليم هي قيمة الإيجار.
كانت الحراسة العامة بعد تأجير الأرض قد باعت الآلات، والمعدات، والمواشي، بالمزاد العلني: الجرارات .. باعوا الواحد منها بثمن حمار، بحجة تعطلها، واستهلاكها، والحمار باعوه بثمن ماعز بحجة مرضه، وكبر سنه.. الخ.
وكانوا قد عينوا لكل ماكينة ري أسطى ومساعداً، وعاملين للصيانة، وخفيراً للحراسة رغم أن أبي كثيرا ما كان يقوم بتشغيل الماكينات وصيانتها بنفسه لا يساعده في ذلك إلا الأسطى جمعة والأسطى فولى اللذان كانا يقومان بالحراسة في الوقت نفسه، واللذان كانا، مع ذلك، دائمي الشكوى، من قلة العمل، وكثرة الفراغ.
كان مئات العمال قد سجلوا أنفسهم في كشوف الحراسة، زاعمين أنهم يعملون عندنا منذ نصف قرن، رغم أن بعضهم لم يكونوا قد بلغوا العشرين من العمر، وبعد أن رفعت الحراسة، طالبوا بمكافأة نهاية الخدمة، والمعاش، والتأمينات، ورأينا لأول مرة وجوها لم نرها من قبل،وسمعنا أسماء لم نكن قد سمعنا بها، وانهالت علينا مطالبات التأمينات والضرائب التي لم يسددها الحارس العام. وكان بعض هذه الضرائب مستحقا على الأرض التي باعها أبي إلى أبناء عمومتي والتي لم ينقلوا تكليفها بعد إلى أسمائهم اكتفاء بأحكام صحة التعاقد التي حصلوا عليها. وتدفقت علينا محاضر الحجز والتبديد التي كان يحررها الصيارف، ومندوبو التحصيل، وهم قابعون في مكاتبهم، دون أن يكلفوا أنفسهم حتى عناء المطالبة، كما هي العادة لدى صيارف الأرياف. ورغم رفع الحراسة، فقد ظل الإصلاح يفاجئنا بين الحين والحين بالإستيلاء على فدانين هنا أو قيراطين هناك، لا لسبب إلا لأن أحد موظيفه قد أخطأ مثلا في عملية جمع أو طرح، أو أن إحدى إداراته قد نسيت أن ترسل مستنداً من إدارة إلى أخرى،... وفي كل مرة كنت أقيم الاعتراضات من جديد، وبعد جهد جهيد أحصل على قرارات بالإفراج.
في تلك الأيام بدأ أبي يبيع الأرض قطعة فقطعة لكي نسدد الديون، وننفق على العلاج.... وفي تلك الأيام جاء أبناء عمومتنا من جديد... قالوا لأبي: من أحق بالأرض التي تبيعها لأبناء العائلات الأخرى. قال لهم أبي في صعوبة بالغة: إنني مريض.
قالوا: ألف سلامة يا سعادة البك.
قال: الكمبيالات القديمة التي أخذتها عليكم سقطت بالتقادم.
قالوا: نجددها، ونكتب لك كمبيالات أخرى بثمن الأرض الجديدة ! !
قال: وهل أعالج نفسي بكمبيالات، أم أسدد ديوني بكمبيالات. إنكم حتى لم تعطوني كيلة واحدة من المحصول الذي اتفقنا عليه!
حين هموا بالاستمرار في المجادلة. حاول أن يشيح بوجهه عنهم، فلم يستطع.
قال: اعدلني يا ولدي. لا أريد أن أرى وجه أحد.
حينما سمعوا ذلك، انصرفوا خجلين.
بعد موت أبي، ورغم الأرض الكثيرة التي باعها، والتي استهلكت معظم ملكيته تقريبا، كنا لا نزال مدينين، وكانت ديوننا ما تزال ثقيلة وفادحة.
بعد زيارة الشيخ فزاع توالت الزيارات. الحاج "تمّام" يقول: إن سبعة أفدنة من ميراث جده تقع داخل أرضنا في منطقة الجبل الشرقي. وإن المرحوم والدي كان يدفع إيجارها بالتراضي، وبدون أوراق مكتوبة. وعبثا حاولت إقناعه بأن أرض الجبل الشرقي بأكملها كانت صحراء، وأن والدي قد استصلحها بنفسه، وليس من المعقول أن يرث جده أرضا في الصحراء لأن الصحراء كلها ملك للحكومة، فضلا عن أن ما تبقى من أرضنا في الجبل الشرقي، هو ثلاثة أفدنة فقط، غير أنه، دون أن أطلب منه، جاء في اليوم التالي وقد أحضر معه مصحفا، وأقسم على صحة ما يقول، ثم جاء في اليوم الثالث وقد أحضر الدلال "عجايبي أندراوس"، الذي أيد كلامه من واقع بعض الدفاتر التي تقول: إن سعيد باشا خديوي مصر قد أقطع أرض الجبل الشرقي لجده حسين الكاشف! ! غير أن الدلال جاءني وحده في المساء، وقال لي: إنه رجل ضلالي، وصاحب شر وإنه قد اضطره إلى هذا الكلام الذي يعلم أنه لا ينطلي على جاهل. وإنه من باب أولى فهو لا ينطلي على متعلم من رجال القانون. وقبل أن يمضي طلب أتعاب المشوار، فأعطيته ما فيه النصيب.
وبعد زيارة الحاج "تمام" كانت زيارة الشيخ "عليوه" الذي قال: لي إنه تبادل مع أبي: خمسة أفدنة بثلاثة، وإن له في ذمتي إيجار فدانين، وإن معه شرطاً بذلك، وحين قدم لي الشرط اكتشفت إننا نحن الذين نستحق إيجار الفرق لا هو، وعندما واجهته بذلك، قال لي: هذا شرط آخر، وذهب ولم يعد.
بعدها زارني أولاد الزهري، يطالبون بفصل الحدود بيننا وبينهم. وجاءني أولاد غانم يقولون إن المشرع أكل ثلاثة أرباع الأرض التي يستأجرونها ويطلبون استنزالها من عقد الإيجار، وجاءني أولاد النعمان يقولون إن أولاد زهيري قد استولوا بقوة السلاح على الأرض التي كان أبي يؤجرها لأبيهم النعمان، وإن أولاد زهيري يقولون: إنهم اشتروها من ورثة جرجس باشا واصف ومعهم عقد مسجل بذلك... وجاءني... وجاءني... وجاءني... وفي كل مرة كان أبناء عمومتي يجيئون بعدها ومعهم بنادقهم الآلية ويقولون: الادعاءات الباطلة لا يحسمها إلا السلاح. وكنت أقول لهم سلاحي الوحيد هو القانون والمحكمة، ولا أريد سلاحا غيره. ويقولون: ولكن ما تبقى من أرضك سوف يضيع بهذا الشكل. وأهم بأن أقول لهم: "وبغير هذا الشكل سوف يضيع أسرع".
ولكنني لم أجد داعياً لأن أقول ذلك.
* * *
في لحظات نادرة أحلم بأن أعيد أمجاد أبي؛ أن أشتري الماكينات، وأدق المواسير، وأحفر القنوات والمصارف فتخضر الرمال، غير أنني عندما أتذكر نظراته الحزينة الضارعة أحلم بأن أهرب إلى مكان بعيد.. بعيد.
***
في يوم ذكراه السنوية، وبعد أن انتهى حفل التأبين، أويت إلى فراشي،... رأيت نفسي في منامي ميتا. وكان جثماني مسجى على سرير متعدد الطوابق، من ذلك النوع الذي يستعمله البحارة والجنود. وكان ثمة من ينظر إلي، وأنا أطل عليه، بنظراتي الحزينة.