المصــــــــــريون اليـــــــــــــوم
قضية للمناقشة
سعيد سالم
الثقافة طبقا لتعريف العلماء هى جملة المعتقدات التى تعطى للفرد تصورا عاما لطبيعة العالم والكون الذى يعيش فيه، وهذه المعتقدات يتوصل اليها بالتأمل والاطلاع والتفاعل لتفضيل أنساق معينة دون غيرها من الرغبات والقيم والواجبات والمبادىء التى تتصل بطبيعة الحياة ومصير الجنس البشرى وغاياته..واكتساب هذه الثقافة ، وكذلك التعبير عنها بحرية تامة حق مقدس لكل انسان.
ولقد ظلت هوية ثقافتنا المصرية- طبقا للتعريف المشار اليه- حتى عقود قليلة مضت، تمثل مصهورا متجانسا من التراث الفرعونى والقبطى والاسلامى يستحيل فصله الى مكوناته الأصلية، كما أنها كانت تمثل ثقافة قومية بحكم انتمائها العربى، وثقافة عصرية تستوعب التيارات الانسانية المتجددة كافة بكل سماحة ومرونة، كما انها ظلت ثقافة عالمية بحكم تفاعلها عبر التاريخ مع الثقافات الأخرى دون الوقوع فى أسرها، وقد انعكس ذلك كله على سلوكيات وأعراف وتقاليد وقيم- أبسط ما يقال فى وصفها أنها كانت جميلة- يمكن القول بأن المجتمع فى أغلبه قد اتفق عليها.
وبالرغم من كل تلك المفاهيم الأكاديمية المعقدة للثقافة فإنى سأحيلها الى تعريف شديد التبسيط فى كلمتين فقط دون إخلال بمعناها العام ، أعرف أنه قد لايحوز القبول عند الكثيرين ..هذا التعريف هو السلوك العام.
السلوك العام السائد حاليا بين المصريين ماهو الا تعبير عملى عن ثقافات معينة مغايرة سادت فى وقتنا هذا ، وهو فى مجمله يعتبر انتكاسة شديدة فى القيم والمبادىء والأعراف والعلم والدين والذوق العام ، بحيث يمكن القول أن تراجعا ثقافيا شديدا قد أصاب حياة الشعب المصرى فى الصميم ، وأنه أصبح من الضرورة الملحة أن يسارع أهل الاختصاص بالسيطرة على هذا التدهور الخطير الذى أفقد حياتنا كثيرا من عناصر الجمال والخير والحق والعدل والسعادة.
وليس من الإنصاف أن نلقى باللوم على المسئولين عن الثقافة وحدهم، فالمسئولية جمعية يشارك فيها مسئولو الإعلام والتعليم والأزهر والأوقاف والنقابات المهنية واتحاد الكتاب وهيئات المجتمع المدنى وجموع الشعب نفسه.
وسوف أقدم نماذج ثلاثة فقط من بين نماذج أخرى عديدة لايسع المجال لذكرها ، تعبر عن الثقافة السائدة فى الشارع المصرى فى الوقت الراهن بترتيب لايعبر عن درجة أهميتها تنازليا أو تصاعديا ، حيث لايتسع المجال هنا لتقديم بحث علمى يسرد الظواهر طبقا لأولويات معينة، ويحدد أسبابها ويقترح طرقا عملية لحلولها، وإنما هو مجرد اجتهاد سريع يلقى بحجر فى المياه الراكدة، فالصورة ليست قاتمة السواد أو مستحيلة الإصلاح، وإنما الحاجة الى الاعتراف بوجودها يعتبر الخطوة الأولى لمحاولة اصلاحها ولو على المدى الطويل.
النموذج الأول:
ويمثل هذا النموذج توغل الثقافة الوهابية فى حياتنا –وهى ثقافة غريبة وافدة غازية- أدت الى انكماش الحس الوطنى والقومى والى نشأة التطرف الدينى والارهاب الفكرى وتكفير الرأى المخالف ، وساعد على ذلك فوضى القنوات الفضائية الدينية التى صارت مرتعا للانتهازيين من غير المتخصصين الباحثين عن الثروة والشهرة حتى أن بعض الفنانات اللاتى لم تنلن ولو حظا قليلا من التعليم الأساسى أصبحن واعظات فى بعض القنوات..ومن الواضح أن السيطرة على هذه القنوات أمر مستحيل تماما فى عصر الفضائيات بعد أن نجحت فى استقطاب عقول فئات كثيرة من بسطاء الشعب المصرى المفطور على حب الدين واحترامه، الذين يصدقون فتاوى وآراء كل من هب ودب ممن يتصدرون للدين فى هذه القنوات ويسمون أنفسهم بالدعاة. وقد ترتب على ذلك انتشار الفتنة الطائفية بين الأديان المختلفة من جهة وبين المذاهب المختلفة فى الدين الواحد من جهة أخرى ، ومما زاد الطينة بلة أن بعض وعاظ المساجد من غير المؤهلين تأهيلا كافيا لارتياد منابر الوعظ يساهمون بصفة أسبوعية فى اشعال نار تلك الفتنة نتيجة لفهمهم الخاطىء للدين، ومن هنا سادت ثقافة كراهية الآخر ورفضه وتكفيره بين قطاع كبير من الشعب ، ومن أسف أن كثيرين من أصحاب الشهادات الجامعية قد وقعوا فى نفس الفخ.. ولو قسنا المساحات الزمنية المخصصة فى القنوات الفضائية وغير الفضائية للعلم والعلماء والبرامج والموضوعات العلمية، لوجدنا انها لاتشكل معشار المساحة التى تختص بفتاوى الحلال والحرام، وكأن علوم الدنيا التى حث القرآن على استكشافها، قد أصبحت لاقيمة لها كأساس للنهضة والتقدم أمام قيمة النقاب وإسباغ الوضوء وإرضاع الكبير.
ان التخلص من هذه الثقافة المدمرة للمجتمع يحتم علينا تشجيع العلم والعلماء والمفكرين والمبدعين فى مجالاتهم كافة وذلك بالدعم المادى والمعنوى لمؤسساتهم المختلفة لاستعادة الثقافة العقلانية القائمة على أسس التفكير العلمى المنطقى ، وذلك ابتداء من محو أمية الأميين ومرورا بتنقية المناهج الدراسية المقررة فى مرحلة الطفولة من كل الشوائب المتعلقة بهذه الأمور، بحيث تزرع هذه المناهج فى عقول الأطفال ثقافة التفكير لاثقافة التلقين، وبإقصاء وعاظ المساجد غير المؤهلين الذين يدعون بالهلاك والعذاب على معتنقى الأديان الأخرى، وانتهاء بوسائل الاعلام المرئية بصفة خاصة، ولتكن اذاعة القرآن الكريم نموذجا يحتذى به اعلاميا من حيث لايتعرض فيها أحد لمسائل الدين من غير العلماء المستنيرين أصحاب الفكر الدينى المتجدد الخالى من الوصاية والتعسف..وفى هذا الصدد أتساءل كفنان يكتب القصة وليس كمصلح اجتماعى: لماذا لاتحذف خانة الديانة من البطاقة الشخصية؟ ولماذا لاتقتصر الميكروفونات على داخل المساجد فقط؟ ولماذا لانكثف الاعلام الدينى فى قناة واحدة تقوم على ثقافة تجديد الخطاب الدينى وتحريره من الخرافات والتشدد وكراهية الآخر، مع ترجمة برامجها الى الانجليزية وتوصيلها بالتكنولوجيا الحديثة للغرب الذى يفتقر الى المعلومات الحقيقية الصادقة عن سماحة الاسلام وعظمته ، بدلا من أن يستقى هذه المعلومات إما من المغرضين من أعداء الاسلام، وإما من هؤلاء الارهابيين الذين أعطوا الغرب فكرة ظالمة عن الاسلام بأفعالهم الإجرامية التى لاتمت الى أى دين بأى صلة.
النموذج الثانى:
انتشار ثقافة الكذب والنفاق انتشارا هائلا فى جميع مجالات وأوساط الحياة المصرية ومؤسساتها وأفرادها، تحت مبررات ومسميات عديدة يعرف أصحابها تماما أنها مبررات وهمية زائفة،متخذين من هذه الازدواجية الكريهة المفضوحة سواتر يخفون بها رغباتهم غير المشروعة فى الحصول على الثروة أو السلطة أو الشهرة بغير حق وبغير جهد ، فطاعة أولى الأمر ايثارا للسلامة هى تبرير مخادع للخنوع والخضوع والخوف من إبداء الرأى امتثالا للحق والعدل..وخلط المطلق بالنسبى هو تبرير مخادع للبلطجة الدينية على حساب العمل والابتكار والتطوير.. وانتشار الرشوة بصورة علنية هو تبرير مخادع لمقاومة الغلاء فى مقابل تدنى الأجور أحيانا و أحيانا أخرى كرد فعل لعدم محاسبة بعض كبار المنحرفين على جرائمهم وعدم تعرضهم للعقاب مهما فعلوا..والمبالغة اليومية لبعض الصحافيين فى امتداح السلطة كروتين يومى بسبب أو بغير سبب حفاظا على المقعد هو تبرير مخادع لحب الوطن وسلامته واستقراره..وسوف أضرب لشيوع هذه الثقافة مثلين صارخين، أحدهما من القمة حين رشح يوما مدير احدى الجامعات رئيس الوزراء الذى عينه فى منصبه، للحصول على كبرى جوائز الدولة، والآخر من القاع حين يقف بواب العمارة لساعات طويلة فى طابور العيش ليحصل على حصته من الأرغفة لا ليقدمها طائعا لأسرته، وإنما مرغما لضابط الشرطة القاطن بالعمارة أولا، ثم يفكر بعد ذلك فى أسرته وأخيرا فى بقية سكان عمارته ان تبقى لديه متسع من الوقت أو الطاقة.. وإذا راجعت مدير الجامعة والبواب فيما فعلاه لوجدت لكل منهما مبرراته الوهمية التى يخفى بها نفاقه وكذبه.. ومما لاشك فيه أن سيادة ثقافة الكذب والنفاق تؤدى الى سيادة ثقافة الأنانية والأناماليه بين أفراد المجتمع بعد فقدان روح الانتماء الجمعى للوطن ، وفى هذا تفسيرلكثرة المشاجرات التى نشهدها يوميا على جميع المستويات مع تداول استخدام ألفاظ السب البذيئة أمام الأطفال والنساء دون حياء، وانتشار جرائم القتل والانتقام بمعدلات غير مسبوقة بما يؤكد على أن أفراد المجتمع أصبحوا لايطيقون بعضهم البعض وهم يتصارعون بعنف على مصالحهم .. وهناك مثال حى يعبر تعبيرا مباشرا عن هذه الثقافة نلحظه من خلال التعامل بين قائدى السيارات فى الطريق العام حيث لا احترام لقانون أو ذوق أو عرف ، ومن العجيب أن كثيرا من هؤلاء الذين يعبرون عن هذه الثقافة بسلوكياتهم الهابطة ، هم أنفسهم المسئولون عن تنفيذ القانون واحترامه.. وفى هذا الصدد أيضا اتساءل كفنان يكتب القصة وليس كمصلح اجتماعى: هل يمكن أن تسود ثقافة حرية الرأى واحترام الآخر فى ظل إعلام تملكه الدولة؟..وهل يمكن للنفاق أن يعيش وينمو فى ظل عدالة اجتماعية ومناخ ديموقراطى حقيقى؟..وهل يمكن للمواطن أن يحترم القانون ويعف عن الانحراف مالم يشعر بالعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص ويجد فى نخبته الحاكمة قدوة ومثلا أعلى؟..
النموذج الثالث:
سيادة ثقافة الاغتراب - بشقيه الخارجى والداخلى - بين الشباب لفقدانه الانتماء الحقيقى للوطن الذى يفترض أنه يمثل أمله فى مستقبل أفضل. أما عن فقدان الانتماء فهو راجع الى بطلان وثيقة المواطنة التى ينبغى أن تكون موقعة بين الوطن والمواطن كأى تعاقد قانونى بين طرفين ، بينما هى فى حقيقة الأمر موقعة من المواطن فقط ،الأمر الذى يدفع الشباب - مضطرا- الى الهجرة،مشروعة كانت أو غير مشروعة ولو إلى دول يكرهها وتكرهنا ، غربية كانت أم شرقية،مما يعرضه فى كثير من الأحيان للهوان والمذلة، أو الموت غرقا فى أعالى البحار، أوشيّا بين جدران حافلات حديدية ملتهبة مغلقة، هربا من شرطة حدود البلاد التى يهرب اليها.. ومن أغرب الغرائب أن تشاهد بعض هؤلاء الشباب يصرحون فى بعض البرامج الحوارية بعد نجاتهم من الموت أنهم لو اتيحت لهم الفرصة مرة ثانية للهرب من مصر والخضوع لاستغلال من يسهل لهم الهرب والهجرة غير الشرعية باستنزاف أموالهم التى حصلوا عليها إما بالاقتراض أو ببيع أغلى مايملكون، فإنهم لن يترددوا لحظة واحدة فى تكرار المحاولة.
يؤكد هذا أن العلاقة بين الشباب ووطنهم قد أصبحت علاقة طرد لاجذب، فأسباب الجذب تكاد تكون منعدمة منذ أن يرزح الطفل تحت نير مناهج علمية لاتساير العصر وانما تعتمد على التحفيظ لا على إعمال الفكر وتنمية الابداع والتحفيز على الابتكار، وحتى يتخرج فى الجامعة على نفس النمط المتخلف من التعليم، فضلا عن افتقاده الرعاية الصحية والاجتماعية والرياضية ، ثم افتقاده من بعد تخرجه فرصة العمل التى تمثل القيمة الأساسية للمواطنة والانتماء ، والمرتبطة بوجود الأمل فى حياة طبيعية وتكوين أسرة سعيدة ، ناهيك عن معاناته البالغة من الغلاء الشديد فى المطعم والمسكن والملبس وسائر ضرورات الحياة الأساسية لا الكمالية، مما أدى بالملايين من الشباب الى العزوف عن الزواج لعدم قدرتهم على الوفاء بالتزاماته الجوهرية.
ولقد لاحظت من خلال حواراتى العديدة مع الشباب أن أقوى أسباب ذلك الاغتراب الخارجى عندهم هو عدم ارتباطهم سياسيا واجتماعيا بأية وسيلة تشعرهم بأنهم يساهمون فى صنع مصير بلادهم سواء على المستوى الفردى أو على مستوى الانضواء تحت فكرة مشروع قومى عام ذى ملامح تقدمية محددة ، يتميز بتنسيق جمعى مخطط على المستويات الجغرافية والزمانية والتنفيذية فى أرجاء البلاد يساهم فى تحقيقه جميع الأجيال كل على قدر ماهو مخطط له..انهم يشعرون بالظلم الفادح عندما يرون أن معظم من يحصلون على الوظائف والأعمال المتميزة هم أبناء الواصلين من أصحاب السلطة والثروة، مما يفقدهم الشعور بالعدل ويزرع فى نفوسهم شعورا مرضيا بالدونية لامفر منه إلا بالاغتراب الخارجى.
أما الشباب الذين لايغتربون خارج وطنهم لأسباب عديدة تختلف من بعضهم للبعض الآخر، فإن خضوعهم لنفس مسببات الطرد التى أشرت اليها يؤدى بهم الى الاغتراب الداخلى. ومن أسف أن هذا النوع من الاغتراب إما يتمثل بمجمله فى الانضمام الى جماعات التطرف بأنواعها كنوع من الانتقام من الوطن الذى سلبه حق المواطنة، أو كنوع من الاستسلام لامتصاص عاطفة الغضب فى صورة دينية مخادعة زائفة، وإما يتمثل فى الانحراف باللجوء الى المخدرات والمغيبات التى تعددت أصنافها وانتشرت فى البلاد وانتشرت معها جرائم الخطف والابتزاز والاغتصاب وقتل الآباء والأمهات ، ونهاية هذا النوع من الانحراف غالبا ماتكون مأساوية للشاب ولأسرته وللمجتمع بأسره.
*****
لقد اخترت هذه النماذج فقط باعتبارها قد أصبحت تمثل ظواهر سلوكية شبه سائدة بين المصريين، فيما يمثل تراجعا ونكوصا وارتدادا عن سلوكيات سليمة سادت بينهم حتى مايقرب من عشرة سنوات مضت. ان هذه الظواهر آخذة فى الاستفحال بحيث لم تعد تؤثر فيها كل المحاولات والاجتهادات القائمة للإعلاء من شأن الثقافة والتنوير ، من قصور ثقافة ومؤتمرات وندوات ومهرجانات ثقافية محلية وعربية ودولية ومتاحف ومعارض ومطبوعات وتبادل خبرات مع دول أخرى..فكيف يكون العلاج؟ ومن أين يبدأ ؟ وكيف يعود السلوك المصرى الجميل المتحضر الى سابق عهده؟..إننى أطرح تساؤلاتى على أهل التخصص جنبا الى جنب مع أبناء عشيرتى من المثقفين علنا نهتدى معا الى حلول ممكنة.