بقلم : صلاح فضل
شاعرة شابة في الثلاثين من عمرها، تحترف الهندسة المعمارية، وتكتب الشعر بالعربية والإنكليزية، فتخترق حواجز اللغات والثقافات، كي تتواصل مع ذاتها في لحظات صدق حميم وموجع. تترجم رؤيتها إلى كلمات لم يسبق لها الدخول في قاموس الشعر من قبل، تطمح إلى أن تتحقق فيه وتبطل المطمور المخزون في ذواكر الأسلاف.
ترقص على الحافة الخطرة بين شعرية الائتلاف والاختلاف، وتلعب في تلك المسافة الحرجة بين حرية الإبداع وعقوبات التلقي. فإذا كان من حقّ الشعراء أن يبتكروا من الأشكال والصور ما لم يخطر على قلب بشر، فإن إشارات الرفض لدى القراء تمثل أقسى أنواع الجزاء وأكثرها عدلاً في حساب الفن والحياة.
شاعرتنا لا تريد أن تفصل بين منضدة التصميم الهندسي ولوحة التشكيل الشعري. تختار لديوانها الثالث عنواناً مهنياً طريفاً هو "قطاع طولي في الذاكرة" لتنطلق في محاولة تشعير هذا الموقف، واستعارة مفردات عالمه لتقديم تكويناتها الإبداعية المتخيلة، تقول مثلاً:
"سقط الضوء على وجهي مرتين في العام. المقطع الطولي يكشف أن سمك الجدار ثلاثون عاماً بعد أن تسرب يومان خلسة عبر عوازل الرطوبة والحرارة لا بد من فواصل هبوط وتمدّد لجدار بهذا الطول والصمت طبقات الأرض الافتراضية يحتلها بالتتابع: صخر رصاص نور ماء ترقب ماء وموت. لذا لم يجد البنّاء بدّاً من زرع أوتاد بعمق الديبة الزاحفة على وجهي في وجهي العام الأخير ومد فرشة من الإسمنت تضمن ثبات البناية في الزلازل".
من السهل جداً - للوهلة الأولى - أن نتخذ موقفاً رافضاً لهذا اللون من الشعر ونرميه بالبطلان، خصوصاً وهو يبتعد عن الأبنية الإيقاعية المعروفة ويمعن في الحديث عن الرسوم التنفيذية وجسات التربة، والبنايات المعلقة في الهواء بأسلاك مشدودة إلى السماء، في استعارات طريفة تتوقف عند الضوء المناور الذي يسقط مرتين في العام ولا ندري مقابله على وجه الدقة. لكن الرفض ليس موقفاً نقدياً حصيفاً، بعد أن اكتشف القراء تعدد الحقائق الشعرية، وأثبت تاريخ الآداب أن تحولات الحساسية وذائقة المتلقين وأفق انتظارهم تتجاوز دائماً تلك المعارك الوهمية الطاحنة، لتنتصر في نهاية الأمر لحركات التجديد الفعلي.
وتظل عقدة مثقف عملاق مثل عباس محمود العقاد الذي دعا في شبابه الباكر إلى كسر القواعد وحمل بقسوة عاتية على شوقي أمير الشعراء، ثم لم يلبث في شيخوخته أن أحال أشعار صلاح عبدالصبور في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب إلى لجنة النثر للاختصاص. تظل هذه العقدة الانتكاسية نموذجاً رديفاً لما قد يصيب النقاد من تصلب المعايير والشرايين، يدفعهم دائماً لتوخّي الحذر في الرفض والتمسك بمبدأ حرية الإبداع، وحق الاختلاف في التجريب الخلاق.
تجربة الشعور الحيّ ولكن نعود إلى السؤال الأساسيّ حول الأشكال الشعرية الجديدة: ما الذي يضفي على الكلام صبغة الشعر أو يحرمه منها؟ هل الأبنية الإيقاعية والأوزان وحدها هي التي تمثل نسغ القصيدة ولبها؟ لا بد من أن نسلم بأن آلاف المنظومات المتراكمة لم تدخل حرم الشعر مع توافر هذا الشرط فيها، فهو وحده غير كافٍ لصناعة الشعر، كما أن الشعرية قد تتوافر في الكلام من دونه على درجات متفاوتة، نظراً إلى طبيعة التجربة والموقف، وأوضاع الكلام وتوزيع الجمل على الأسطر، وكثافة المجاز والصور أو رهافته، وابتكار الصيغ وتشكيل المتخيلّ.
كل ذلك يمتزج بالموسيقى الخفية أو الظاهرة ليصنع رقائق الشعر في مختلف أنماطها وأساليبها، ويتحقق بنسب متفاوتة. فكما أن فقر المجاز يضعف بنية الشعر كذلك افتقاد الإيقاع يصيبه بالجفاف ويحرمه نضرة الغناء وحلاوته. وأفدح ما يتداوله شباب المبدعين من ذوي المواهب الشعرية الآن في مصر هو اعتبار التفعيلة الموسيقية ردة عن الحداثة وعيباً في الكتابة العصرية وتقليداً يجب الخروج عليه. وهذا خلل فاضح في كل المعايير.
فالحس الموسيقي وقدرة ضبط موازين اللغة على الإيقاعات المسموعة هما من شروط الاستعداد الشعري ذاته وأداته للتواصل مع ذاكرة الشعر العربية والعالمية. وتجارب قصائد النثر في أسعد حالاتها تمثل رافداً هامشياً يمتح من تيار الشعر الإيقاعي العريض وينتعش بمدى قربه منه. أما الانقطاع المبتوت عن هذا الحس وفقدان الأذن الموسيقية كلية فلا يمكن أن يتولد عنهما شعر في أي لغة من اللغات الحية. وقد آن الأوان ليدرك الشباب المبدعون لدينا عبث محاولتهم في تكريس هذا الانقطاع وضرورة العودة لامتصاص عروق الشعر الخالد في الثقافة العربية لئلا يصيبهم الضمور والموات.
إذا عدنا إلى قصائد شاعرتنا الشابة فاطمة ناعوت وجدنا عوامل كثيرة تميز تجربتها في الحياة والشعر، وتشفّ عن قدراتها في صناعة الأوزان والخروج عليها، وأدركنا أن خضوعها لتيار الانقطاع عن التفعيلة يخالف ما فطرت عليه من هذا الحس الموسيقي الرائق الذي يتجلى في شكل خجول في كثير من قصائدها. لكنها تحرص في مقابل ذلك على تمثيل جيلها من الشباب المثقف في خصوصية تجربتهم في أشد اللحظات توتراً وتكييفاً للمستقبل. تلعب مثلاً لعبة العروض في قصيدتها "ماذا لو" قائلة:
"الصندوق الكبير يرفع غطاءه عامل القسم ليلتقط شقيقي شيئاً شيئاً كان يسير على قدمين منذ شهر أو منذ عام الرأس لا بد في مكان آخر أما كرمشة الجلد فتحكي أن السيدة طال مقامها في الفورمالين. كل العيون تلك حول طاولة التشريح تفكر في شيء واحد أما أخي ففيما يعمل أصابعه في كلية آدمية يرمقني بحذر ويفكر في اقتناعي الوشيك بدخول الطب. لم يدر أبدا أن الرأس المنـزوع الرأس الرأس الذي لم أره سوف ينقل أوراقي من العلوم إلى الرياضيات فأدخل الهندسة لألقاك ونتزوج"
ومن الواضح أن السياق السردي، وتلقائية التعبير، تجعل من مثل هذه المقطوعة نموذجاً طريفاً يتسم بمفارقة جلية، فهو يتكرر في حيوات الناس آلاف المرات، لكنه لم يصبح بعد مادة للتأمل الشعري المبدع. فالشعراء ينهلون عادة من حفريات الذاكرة وصيغها ومأثوراتها، وقليل منهم من يجسر على تشعير ما لم يسبق دخوله حرم الكتابة من قبل.
وإذا كانت تجربة مكاتب التنسيق في توجيه مستقبل مئات الآلاف من الشباب واحتدام رغبات أسرهم في تحديد مصائرهم واقعاً مألوفاً أدركنا أن شاعرتنا كانت في حاجه إلى قدر كبير من الشجاعة حتى تحفر في قطاع ذاكرتها الشخصية لتلقي الضوء على هذه التجربة الحية وتبعثها شعراً. وهي تتوقف عند اللحظة الأخطر في قدر كل امرأة، مهما كانت درجة ثقافتها، وهي لحظة التقاء الرجل الذي ستقترن به. عندئذ نرى كيف كانت أمينة على أسرار خبرتها الحميمة بالحياة وتحويلها موقفاً شعرياً جمالياً لا نظير له من قبل.
أصداء السيرة تشفّ قصائد فاطمة ناعوت – كما يشفّ اسمها الذي يجمع بين الألفة والغرابة – عن عالم فتاه مصرية، تربّت في مدارس الراهبات، وتمثلت ثقافة المزج الجميل بين الأديان واللغات في اتساق وجداني ملحوظ. ورماها الذكاء إلى الكليات العملية التي تحتكر النوابغ مهما كانت مواهبهم، ودفع بها سوق العمل الكاسد إلى بيئة مغايرة في مدينة الرياض، ثم غلبتها توهمات الشعر وأطياف أخيلته فأخذت تسترجع صور طفولتها في مثل قولها:
"نقطة النور التي طالما خايلت طفولتي فيما يحكي لي عن العذراء أبي الطيب حين هدهد سنواتي الخمس فوق ركبتيه بينما أنامله البيضاء تداعب شرائط ملونة لملمت ضفيرتي. وجه السماء إذ يشكّل أحلاماً استعمرت باحات صباي غير أن النخلة تلك ضنّنت بظلالها القدسية على نساء الأرض فيما عدا وجه مريم...".
وإذا كنا لا نزال نفتقد في مثل هذه الكلمات الحانية ألفة النغم الشعري، فإن رهافة الحس المثقل بالشجن، وشبكة الأخيلة الضاربة في عمق الوجدان الإنساني المتوحد، وحلاوة استقطار نقاط الضوء من أخيلة الطفولة حتى تستقر في دورة الحياة الممتدة من الأم إلى الابن... كل ذلك ينثر عبقاً شعرياً مغايراً لما تعودناه في رحاب الأسلاف الكرام، يضوع برائحة المكان والزمان الجديدين والحياة التي تتولد كل يوم فيهما.
وإذا كان التواصل الجمالي هو سرّ الإبداع الفائق، فإن امتداد هذه الأشكال المحدثة وإبقاءها على خيوط حرير تربطها بسلم الإيقاع المعروف يضمنان لها أفقاً أرحب واستجابة أوسع، وانسجاماً أحلى مع طبيعة الشعر العربي في أعراقه المتعددة.