يستند المسرح إلى الفعل الدرامي والصراع والحوار ووجود الممثل والمتفرج بالإضافة إلى فنون الغناء والإنشاد والرقص. ولكن في الثقافة الغربية، أضيف إليه المخرج والبناية والخشبة أو ما يسمى بالعلبة الإيطالية والديكور والسينوغرافيا والفنون البصرية والإيقاعية الأخرى. وأصبح المسرح اليوم أب الفنون ومسرحا شاملا يضم كل اللغات والخطابات التواصلية.
هذا وقد ظهر المسرح في اليونان مع سوفوكلوس الذي كتب أول تراجيدية عالمية هي:
الضارعات ، ويوربيديس وأسخيلوس وأريستوفان. وكان المسرح مرتبطا بإله الخمر ديونيسوس والابتهالات والقرابين الدينية. ويرى الفيلسوف الألماني نيتشه أن ولادة المسرح اليوناني ارتكزت على المزج بين الغريزة والعقل من خلال إله ديونيسوس رمز اللذة والخمر وإله أبولون إله العقل والحضارة. ويعد أرسطو أول منظر لفن المسرح ولاسيما في كتابه" فن الشعر" الذي حدد فيه عناصر التراجيديا الإغريقية وحصرها في ستة مقومات وهي: الخرافة، والأخلاق، والمقولة، والفكر، والمنظر المسرحي، والنشيد. وتشكل كل من الخرافة والفكر والأخلاق موضوع التراجيديا، بينما منظر المسرحي يبرز الطريقة الفنية، أما الوسائل الدرامية فهي: اللغة والنشيد. ويذهب الدكتور محمد الكغاط إلى أن المسرح الإنساني مر بثلاث مراحل أساسية:
1- مرحلة التمثيل الفردي عن طريق اللعب والرقص والغناء والإنشاد، إذ ولد المسرح مع الإنسان كغريزة فطرية وشعور داخلي وانجذاب سحري إلى اللعب والتمثيل، وهذا ما تؤكده الدراسات الأنتروبولوجية والإثنولوجية والاجتماعية؛
2- مرحلة الظواهر الاجتماعية، ويعني هذا أن الفعل المسرحي انتقل من ظاهرة فردية إلى ظاهرة جماعية تتكون من شخصين فأكثر، كما تتشكل هذه الظاهرة الاجتماعية من الممثلين واللاعبين لأداء مجموعة من الطقوس الدينية والفنية. ويسمى هذا النوع من التشكيل الدرامي الاجتماعي بالظواهر المسرحية أو الأشكال ماقبل المسرحية أو الطقوس الاحتفالية؛
3- مرحلة المسرح التي ظهرت مع المسرح الإغريقي والبناية المفتوحة في أثينا ووجود النصوص الدرامية سواء أكانت تراجيديات( سوفكلوس- أسخيلوس- يوربيديس) أو كوميديات (أريستوفان).
وتطور المسرح الغربي بعد عصر النهضة، وانتقل إلى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا وأصبحنا نتحدث عن أعلام كبار في مجال المسرح كشكسبير في انجلترا وموليير وراسين وكورناي في فرنساوكولدوني في إيطاليا ولوبي دي فيكا في إسبانيا. وقد ظهرت كذلك مجموعة من المدارس المسرحية الغربية كالمدرسة الكلاسيكية والمدرسة الرومانسية والمدرسة الواقعية، والرمزية، والبرناسية ، والدادائية، والسريالية، والوجودية، ومسرح اللامعقول، ومسرح القسوة، ومسرح الشارع، ومسرح العمال، والمسرح النفسي مع مورينو.....إلخ.
هذا، وقد أفرز تطور المسرح الغربي وتشكل مدارسه ظهور فن الإخراج المسرحي في أواخر القرن التاسع عشر، فأصبحنا نتحدث عن مخرجين كبار من أمثال: الدوق ساكس مينينجنSaxe Meiningen وبريختBrechtوستانسلافسكيStanislavskiوجروتوفسكيGrotowski و كولدون كريـج;G.Craig وماكس رينهاردتM.Reinhardt وأندريه أنطوانA.Antoine وجان فيلارJ.Vilar وأدولف أبياA.Appia.
وإذا انتقلنا إلى المسرح العربي، فإنه يثير عدة تساؤلات وإشكاليات يمكن صياغتها على الشكل التالي: متى عرف العرب المسرح؟ هل يمكن التأريخ له بسنة 1848م مع صدمة الحداثة وفترة الاستنبات الماروني أم بالرجوع إلى التراث العربي لاستقراء ظواهره الفنية الاجتماعية للبحث عن الأشكال الدرامية والطقوس الاحتفالية واللعبية؟ وبتعبير آخر ماهي أسباب غياب المسرح العربي أو أسباب حضوره؟ وماهي المراحل التي مر بها المسرح العربي؟ وماهي تجلياته التجريبية والتأصيلية؟
يذهب كثير من الدارسين إلى أن العرب عرفوا المسرح في الشام منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، وبالضبط في سنة 1848م عندما عاد مارون النقاش من أوربا( إيطاليا- فرنسا) إلى بيروت فأسس مسرحا في منزله فعرض أول نص درامي في تاريخ المسرح العربي الحديث هو" البخيل" لموليير، وبذلك كان أول من استنبت فنا غربيا جديدا في التربة العربية. ومن ثم، بدأ المسرح العربي يعتمد على عدة طرائق في استنبات المسرح الغربي كالترجمة والاقتباس والتعريب والتمصير والتأليف والتجريب وشرح نظريات المسرح الغربي ولاسيما نظريات الإخراج المسرحي وعرض المدارس
المسرحية الأوربية. وكان هذا الظهور المسرحي في البلاد العربية نتيجة للاحتكاك الثقافي مع الغرب عبر حملة نابليون بونابرت إلى مصر والشام وعن طريق الاطلاع والتعلم والرحلات العلمية والسياحية والسفارية .
أما في سورية ، فقد أسس أبو خليل القباني مسرحه الموسيقي والغنائي، وبدأ في تقديم فرجات تراثية وتاريخية؛ لكن رجال الدين المتزمتين وقفوا في وجه مسرحه بدعوى أنه يفسد أخلاق الشباب ويلهيهم عن الواجبات الدينية ويخل بآداب المجتمع مما اضطر السلطان عبد الحميد الثاني إلى إغلاق مسرحه وإحراقه . هذا هو الذي دفع أبا خليل القباني إلى هجرة بلده الذي طغى فيه الاستبداد التركي مع مجموعة من الممثلين والفنانين حيال مصر.
وفي مصر، سيزدهر فن المسرح خاصة مع الشاميين( أبوخليل القباني وأديب إسحق وفرح أنطون وسليم النقاش ويوسف الخياط وجورج أبيض)، والمبدعين المصريين (يعقوب صنوع ومحمد عثمان جلال وعبد الله النديم ومصطفى كامل ويوسف وهبي ومحمود تيمور وأحمد شوقي وعزيز أباضة وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ونجيب الريحاني...). وستظهر بعد ذلك فرق مسرحية وغنائية عديدة في القاهرة والإسكندرية( فرقة أحمد أبو خليل القباني،وفرقة إسكندر فرح، وفرقة سلامة حجازي ، وفرقة سليمان القرداحي، وفرقة فاطمة رشدي، وفرقة جورج أبيض، وفرقة يوسف وهبي)، وستنشأ قاعات للمسرح سواء أكانت قاعات عروض خاصة أم قاعات مسرحية أنشأتها الدولة لرعاية الفنون والآداب إبان المرحلة الملكية والثورة الناصرية على الرغم من الرسالة الانتقادية الخطيرة لهذا المسرح التي كانت تندد بالمستعمر وأصحاب السلطة والجاه. كما شيدت الدولة المصرية أول كونسرفتوار للفن الدرامي بالقاهرة في الوطن العربي علاوة علىالكليات والمدارس والمعاهد المتعلقة بالفن والتنشيط المسرحي والموسيقي والسينمائي.
ولقد انتقل المسرح إلى دول المغرب العربي من خلال التأثير المشرقي ولاسيما المصري منه عندما زارت مجموعة من الفرق المسرحية ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، دون أن ننسى التأثيرالثقافي والتقني الذي مارسه المستعمر الأجنبي( الفرنسي- الإسباني- الإيطالي) حينما شيد في هذه البلدان مجموعة من القاعات المسرحية التي كان يعرض فيها الريبرتوار المسرحي الغربي وخاصة مسرحيات موليير الكوميدية أو مسرحياته التي تصف الطباع والأخلاق. ففي ليبيا، بدأ المسرح سنة 1928م حينما أسس محمد عبد الهادي أول فرقة للتمثيل لما عاد من بلاد الشام. وسينتعش المسرح التونسي إثر الزيارات المتكررة للفرق المسرحية والغنائية المصرية للمدن التونسية ولاسيما فرقة سليمان القرداحي وفرقة أبي خليل القباني وفرقة سلامة حجازي وفرقة جورج أبيض.
وقد ظهر المسرح بالجزائر مبكرا مع الاحتلال الفرنسي الذي أنشأ كثيرا من القاعات المسرحية لعرض أهم النصوص الدرامية الغربية التي كانت توجه غالبا إلى المعمرين الفرنسيين مما ساعد المثقفين الجزائريين للاطلاع على المسرح الغربي وتقنياته وطرائقه السينوغرافية والإبداعية. ولما بدأ المسرح الجزائري اتكأ على الموروث المحلي، فقد كتب الممثلان علالو وداهمون مسرحيةعن مقالب جحا، بطل الحكايات العربية القديمة.
واشتهر رشيد قسنطيني كثيرا في البلد حتى لقب بموليير الجزائر. وتعتبر سنة 1928م لحظة ولادة المسرح الوطني الجزائري عندما أخرج رشيد قسنطيني مسرحية" بوبورما" لفرقة مسرحية صغيرة.
وإذا انتقلنا إلى المغرب الأقصى،فإنه لم يعرف المسرح إلا مع القرن العشرين إبان زيارة بعض الفرق المصرية للمغرب كفرقة محمد عز الدين التي عرضت مسرحية صلاح الدين الأيوبي منذ سنة 1923م، وفرقة فاطمة رشدي سنة 1932م التي ساهمت في انتعاش المسرح بمدينة تطوان. ونستحضر كذلك ما قام به قدماء ثانوية مولاي إدريس بفاس عندما أسسوا جمعية بتاريخ 15-9-1921 والذين نشطوا التمثيل المسرحي أيما تنشيط.
وقد أشاد علال الفاسي بأنشطتها الدرامية ذات الطابع التراثي التاريخي في نونيته. وبعد ذلك، تم تأسيس كثير من الفرق المسرحية المحلية بطنجة وتطوان والدار البيضاء وسلا والرباط ومراكش تتأرجح أعمالها الفنية والتمثيلية بين التغريب والتأصيل التراثي.
وإذا كان المسرح في العراق قد انبثق مبكرا مع قاسم محمد ويوسف العاني وآخرين، فإنه في الدول الخليجية مازال لم يعرف يقظته الحقيقية إلا في الكويت بعد تأسيس أول معهد للفنون المسرحية تحت إشراف زكي طليمات.
ولكن السؤال الذي يفرض علينا نفسه بإلحاح:هل كان هناك مسرح عربي قبل هذه الفترة التي تحدثنا عنها سالفا؟ فقد كان الجواب عنه من قبل الدارسين للمسرح العربي بالإثبات تارة والنفي تارة أخرى.
يرى كثير من الباحثين أن العرب لم يعرفوا المسرح بشكله الغربي وذلك لعدة عوائق: دينية وحضارية وتاريخية وعرقية ولغوية. وللتوضيح أكثر فالعرب لم يتعرفوا المسرح للأسباب التالية:
1- تخلف العقلية العربية المرتبطة بالبداوة والجزئيات والفكر البسيط والفكر المحسوس وانعدام الإبداع والتخييل المجرد ؛
2- لاتصلح اللغة العربية الكلاسيكية بجزالتها وفخامتها للحوار الدرامي ولا تنسجم مع مستويات التواصل في الخطاب المسرحي(جاك بيرك)؛
3- لم ير العرب في المآسي اليونانية إلا نصوصا بسيطة موزونة وأشعارا حوارية غريبة.( محمد عزيزة)؛
4- عدم فهم المصطلحات الدرامية اليونانية من قبل شراح أرسطو مما وقعوا في الترجمة الخاطئة لألفاظ" فن الشعر" من قبل المترجمين والفلاسفة العرب ( بشر بن متى بن يونس، ابن رشد...)، حيث ترجموا التراجيديا بالمديح والرثاء والكوميديا بالهجاء والدراما بالشعر( شكري عياد وعبد الرحمن بدوي...)؛
5- بداوة الحياة قبل الإسلام وارتحال الإنسان من مكان إلى آخر وعدم استقراره منعه ذلك من معرفة المسرح الذي يتطلب الاستقرار والاستيطان والتمدن الحضاري( زكي طليمات)؛
6- يمنع الدين الإسلامي التصوير والتشخيص والتمثيل، ويعد النص الديني الإسلامي كل من قام بذلك بالعقاب الشديد( أحمد أمين)؛
7- انعدام الصراع في المسرح العربي على غرار المسرح اليوناني الذي كان يعرف أنماطا من الصراعات الدرامية كالصراع العمودي" البشر في صراع مع الآلهة"، والصراع الأفقي" صراع الأفراد والجماعات فيما بينها"، والصراع الديناميكي" انهزام القدر" كما في مسرحية الفرس عند أسخيلوس، والصراع الداخلي كما في مسرحية أوديب( محمد عزيزة)؛
8- صعوبة تنظيم العروض المسرحية في مجتمع يحارب فيه رجال الأخلاق والمحافظين تمثيل الأدوار النسوية ويعود أكثر من ذلك إلى المعنى الأليم للقدر الإنساني( لويس غارديه)؛
9- يمنع الإسلام وقوع أي صراع درامي( فون جرونبوم)؛
10- إن الحضارة العربية لم تكن في حاجة إلى التعبير المسرحي(أحمد شمس الدين حجازي)؛
11- إن العرب لم يترجموا أدب اليونان وشعرهم، في الوقت الذي نقلت فلسفتهم، لإحساسهم بأن إبداعهم في الشعر والأدب يفوق كل إبداع؛
12- انعدام الحرية والديمقراطية في الدولة العربية القديمة القائمة على الاستبداد والقهر وإسكات الأصوات المنتقدة لسياسة الدولة ، وهذا لاينسجم مع الإبداع المسرحي القائم على النقد والتوجيه؛
13- انعدام الفكر الموضوعي وذلك بافتقاد الشاعر العربي لعنصر الإدراك المأساوي للحياة. فالشاعر وإن عبر عن عواطفه وأحاسيسه، فإنه لم يتطور من الموقف الفردي الذاتي إلى الموقف الجماعي العام الذي ينشأ عنه المسرح ( عز الدين إسماعيل)؛
14- غياب الفكر الأسطوري لدى العرب هو الذي يمنع من إبداع مسرحيات تراجيدية على غرار المسرح اليوناني.
وعلى عكس هذه الأطروحات، نجد بعض الدارسين يثبتون أن العرب قدعرفوا المسرح منذ مدة طويلة كما فعلت تمارا ألكسندروفنا بوتينتسافا عندما أرجعت المسرح العربي إلى جذور قديمة تمتد إلى ألف عام وعام" أفليس من الأسهل أن نبدأ من البرهان على أنه كان موجودا. موجودا منذ زمن بعيد جدا. منذ ألف سنة" . ويستثني الباحث التونسي محمد عزيزة من أطروحة نفي المسرح عند العرب التعازي الشيعية، إذ قال:" الاستثناء الوحيد لقاعدة الغياب المسرحي هذا هو التعازي الشيعية التي أعطت الإسلام اعتبارا من القرن السابع الشكل الدرامي الوحيد الذي يعرفه". وكانت التعازي الشيعية تتكون من ثلاث فصول أساسية ، وهي:
1- المشاهد التي تسبق معركة كربلاء.
2- مأساة كربلاء وآلام السيد الحسين.
3- عقب كربلاء.
ويذهب عبد الكريم برشيد إلى أن" المسرح العربي قد ولد يوم ولد المجتمع العربي... هذا الوليد لايشبه إلا ذاته، لأنه في تركيبه مخالف للمسرح اليوناني الغربي، وهذا شيء طبيعي، مادام أنه مرتبط بشروط جغرافية وتاريخية واجتماعية وذهنية ونفسية مختلفة...". وينحو هذا المنحى الدكتور عمر محمد الطالب في كتابه" ملامح المسرحية العربية الإسلامية" حينما قال:" إن المسرح فن أدبي وبصري يستمد أصوله من مقومات الأمة وثقافتها وأصولها ولا يشترط فيه أن يكون منسوخا عن المسرح اليوناني القديم أو المسرح الأوربي الحديث، إنما يجب أن تكون له مقوماته الخاصة المستمدة من ثقافة الأمة وحضارتها ومعتقداتها مادام الأصل في المسرح وجود المشاهدين بالدرجة الأولى، أما المكان فلا فرق أن يقدم العرض في مجلس أو خيمة أو ساحة أو فضاء، في شارع أو مقهى أو في قاعة يطلق عليها اسم مسرح." ويضيف الباحث:" أن هذه المحاولة لتأصيل الملامح العربية الإسلامية لفن التشخيص والتمثيل عند العرب والمسلمين ماهي إلا محاولة بسيطة تضاف إلى محاولات يوسف إدريس في مقالاته التي نشرها في الستينيات عن مسرح السامر وكتاب( العرب والمسرح) وكتاب( الإسلام والمسرح) وكتاب( فن التمثيل عند العرب) ومقال يوسف نجم ( صور من التمثيل في الحضارة العربية من الكرج حتى المقامات) المنشور في مجلة آفاق عربية العدد الثالث لعام 1977."
ومن أهم الظواهر التي استخلصها الدارسون العرب والدالة على وجود المسرح نذكر ظاهرة التعازي الشيعية والطقوس الصوفية والأعياد الدينية وأدب المقامات وخيال الظل والكراكيز ومسرح العرائس والمسرح الشعري في المعلقات وغزل عمر بن أبي ربيعة...والقصص الدرامية والمسرح الشعبي وسلطان الطلبة وسيدي الكتفي وفن البساط ومقالب جحا والنقائض( جرير والفرزدق والأخطل)، ناهيك عن الطقوس الدينية والطرقية والرقص وفن اللعب والغناء الدرامي....
هذا، وقد عرف المسرح العربي الحديث والمعاصر نوعين من التعامل مع المسرح:
1- استنبات المسرح الغربي في التربة العربية من خلال التقليد و الاقتباس والترجمة والتبيئة العربية: تمصيرا وتونسة ومغربة وسودنة... كما فعل مارون النقاش مع أول نص مسرحي وهو البخيل الذي استلهمه من موليير، وسيتابع كثير من المبدعين والمخرجين طريقته في الاقتباس والمحاكاة.
2- تأصيل المسرح العربي وذلك بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، أي التوفيق بين قوالب المسرح الغربي والمضمون التراثي.ومن المعلوم أن التأصيل الذي من مقوماته الأساسية الاشتغال على التراث وتوظيفه إما باعتباره مادة تراثية تاريخية أو صوفية أو أدبية أو دينية....وإما باعتباره موقفا إيديولوجيا وإما باعتباره قالبا فنيا لاحتواء المضمون أو الحبكة الدرامية عبر تمظهراتها الصراعية والجدلية. ومن ثم، يمكن الحديث عن التأصيل في المسرح العربي من خلال أربع محطات أساسية:
1- تأصيل المسرح العربي اعتمادا على المضمون التراثي.
2- تأصيل المسرح العربي ارتكازا على الشكل أو القالب التراثي.
3- التأصيل التنظري( بيانات وتصورات وورقات نظرية حول أصالة المسرح العربي).
4- التأصيل التطبيقي( نصوص وعروض مسرحية تأصيلية مضمونا وقالبا).
لقد ظهرت فكرة التأصيل في الساحة الفكرية بعد هزيمة العرب في حرب حزيران 1967م بعد مجموعة من الكتابات التي تدعو إلى النقد الذاتي وإعادة النظر في الهوية العربية وتحديث الفكر العربي من خلال التوفيق بين الأصالة ( احتواء التراث وغربلته والأخذ مما هو مفيد) والحداثة الغربية( استرفاد ما ينفع العرب لنهوضهم والسير بهم نحو الأمام)، ومن هذه الكتابات الداعية إلى تنقيح التراث والتفاعل معه حوارا وتناصا ونقدا وبناء ما كتبه عبد الله العروي والطيب التزيني وحسين مروة وعبد الكبير الخطيبي وحسن حنفي وأنور عبد المالك ومحمد عمارة وعابد الجابري وزكي نجيب محمود وغالي شكري وأدونيس ويوسف الخال....وعلى الرغم من هذا، فإن فكرة التأصيل ظهرت منذ القرن التاسع عشر موازية مع النصوص التغريبية ذات الوظيفة الاستنباتية وذلك لوجود الاستعمار الأجنبي الذي استهدف تغريب المجتمع العربي، والاستبداد التركي الذي استهدف تتريك المجتمع العربي وتجهيله، والدليل على ذلك النصوص التراثية التي كتبها مارون النقاش نفسه كمسرحية "الحسن المغفل" ومسرحية أبي خليل القباني " هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب". ويقول أستاذي الدكتور مصطفى رمضاني:" ولقد فطن رواد المسرح العربي منذ البداية إلى غربة الشكل المسرحي الغربي، كما فطنوا إلى أن المستعمر يسعى إلى فرض ثقافته لطمس كل ثقافة وطنية، لذلك لجأوا إلى البحث عن هويتهم وتميزهم، فكان التراث هو المصدرالشامل الذي وجدوا فيه ضالتهم، لأنه يمثل مقومات الأمة واستمرارية تميزها." إذا، ما هو التراث؟ وماهو التأصيل؟
إن التراث – حسب الدكتور عابد الجابري- هو" الموروث الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني" .
أما طرق التعامل مع التراث فتتخذ عدة صور منهجية:
أ- صورة تقليدية ترتكز على التعامل التراثي مع التراث مثل علماء المتخرجين من المعاهد الأصيلة كجامع القرويين بالمغرب والأزهر بمصر والزيتونة بتونس. ويتسم هذا التعامل بغياب الروح النقدية وفقدان النظرة التاريخية.
ب- صورة استشراقية كما يظهر لدى الدارسين الغربيين أو الدارسين العرب التابعين لهم، فتمتاز هذه الصورة بالاعتماد على إطار المركزية الأوربية انطلاقا من مناهج فيلولوجية أو تاريخية أو ذاتية، كما تعكس دراسات الباحثين العرب التي تزكي رؤى المستشرقين التبعية الثقافية والفكرية للغرب. وهذه الصورة تعتمد على الفهم الخارجي لمفهوم التراث.
ت- صورة ماركسية تعتمد على المادية التاريخية في تعاملها مع التراث، وهي صورة إيديولوجية لمفهوم التراث، ويمثل هذه النظرة: حسين مروة والطيب التزيني....
ث- صورة بنيوية تكوينية في قراءة التراث وهي تستند إلى ثلاث خطوات منهجية أساسية، وهي: الطرح البنيوي الداخلي، والطرح التاريخي، و الطرح الإيديولوجي، ويمثل هذه القراءة الدكتور محمد عابد الجابري.
ولكن ثمة قراءات أخرى للتراث كالقراءة السيميائية( عبد الفتاح كليطو) والقراءة التفكيكية( عبد الله الغذامي)... وكل قراءة تحمل في طياتها أبعادا إيديولوجية وتصل إلى حقائق نسيبية. وما يقالعن قراءة التراث الفكري بصفة عامة، يمكن قوله عن الإبداع المسرحي. فهناك تعامل درامي تراثي حرفي مع الموروث، وهناك تعامل درامي إيديولوجي مع التراث، وهناك تعامل درامي تناصي قائم على النقد والتفاعل والحوار. وبتعبير آخر هناك ثلاث قراءات مع التعامل الدرامي مع التراث:
1- قراءة اجترارية قائمة على المحاكاة والتقليد.
2- قراءة استلهامية تقوم على الاستفادة والتوظيف الفني.
3- قراءة حوارية قائمة على النقد والتناص والتفاعل البناء.
إذا كان التراث كل ما خلفه أجدادنا في الماضي من إنتاجات زاخرة في مجالات الأدب والدين والفن والتاريخ والفكر والعمارة ، فإن التأصيل هو احتواء التراث والتشبث بالهوية في مواجهة التغريب والحداثة الغربية التي تأتي على ابتلاع كل مقومات الإنسان العربي ولاسيما قيمه وأصالته والتشكيك في موروثه الثري باسم المركزية الأوربية والتقدم المادي. ويعني التأصيل الجمع بين الجانبين المادي والروحي من خلال صهرهما في بوتقة واحدة متوازنة. وقد يعني التأصيل مد الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي. كما قد يدل التأصيل على التجاوز والتقدم وتأسيس الحداثة من خلال المحافظة على الأصالة والقيم الروحية الموروثة الصالحة والنافعة.
فالأصالة: " هي الرؤية المعاصرة للتراث، لأننا حين نتعامل مع التراث، لانتعامل معه كمادة خام تنتمي إلى الماضي الذي انتهت وظيفته، وإنما نتعامل معه كمواقف وكحركة مستمرة، تساهم في تطوير البنيات التراثية التي فرضت وجودها انطلاقا من جدلية التأثر والتأثير. وكل تراث لا يؤكد استمراريته في حركة التاريخ لايعتبر أصلا..."
والتأصيل في المسرح ضد التجريب والتغريب؛ لأن التجريب هو الاستفادة من طرائق التشخيص الدرامي الغربي والانفتاح على مدارسه وتقنياته وتياراته السينوغرافية. فلقد استفاد توفيق الحكيم كثيرا من المسرح الغربي ولاسيما من المدرسة الرمزية كما نجدها لدى إبسن وبرنارد شو وموريس مترلنك، وتتجسد هذه الرمزية عند الحكيم في بيجماليون وشهرزاد وأهل الكهف ويا طالع الشجرة. كما كتب الحكيم مجموعة من المسرحيات على ضوء المدرسة الواقعية والفلسفة الاشتراكية كمسرحية الصفقة والأيدي الناعمة. كما استوحى كثير من رواد المسرح العربي كمارون النقاش وأبي خليل القباني وآخرين طرائق المسرح الكلاسيكي والمسرح الرومانسي أثناء اقتباس مسرحيات كورناي وراسين وموليير ومسرحيات فيكتور هيجو ولاسيما هرناني. وعلينا ألا نغض الطرف عن توظيف المسرح العمالي ومسرح اللامعقول من قبل الكثير من رواد الخشبة المسرحية وخاصة الطيب الصديقي في المغرب الذي عرض في بداية مسيرته الفنية والدرامية نصوصا وأعمالا في إطار قوالب غربية كتجريب مسرح العبث في" مومو بوخرصة" متأثرا بيونيسكو الذي كتب " أمديه أو كيف نتخلص منه"، كما استعار كثير من المخرجين العرب تقنيات المسرح الملحمي البريختي وأفكار جروتوفسكي حول المسرح الفقير و تعليمات ستانسلافسكي في تدريب الممثل وتأطيره وتوجيهه.
وإذا انتقلنا إلى عملية التأصيل، فلابد من احترام المحطات التي ذكرناها سالفا على النحو التالي:
1- تأصيل المسرح العربي اعتمادا على المضمون التراثي:
لقد وظفت كثير من المسرحيات العربية التراث ولكن في قالب غربي(كلاسيكي، رمزي، واقعي، عبثي، رومانسي، سوريالي...) من أجل الحفاظ على الهوية العربية وأصالتها من خلال استقراء الموروث الأدبي والتاريخي والديني والصوفي والشعبي والخرافي ، بله الموروث الفرعوني واليوناني كما نجد عند مارون النقاش الذي يستوحي تراث ألف ليلة وليلة في مسرحيته" أبو الحسن المغفل أو هارون الرشيد" أو عند أبي خليل القباني في" هارون الرشيد مع غانم بن أيوب وقوت القلوب"، أو عند الشيخ حسن القسطي الذي يستلهم تاريخ فارس في مسرحية" دهاء العقل"، أو لدى بطرس البستاني في" داود الملك" ،وهي مسرحية ذات الموروث الديني . أما ناصيف اليازجي فقد كتب تراجيدية شعرية عربية تحت عنوان" رواية المروءة والوفاء، أو الفرج بعد الضيق" ، ووكتب كذلك مسرحية أدبية وهي" قيس وليلى " سنة 1878م. وعند أحمد شوقي نجد مجموعة من المسرحيات التراثية كعنترة وكليوباترة وعلي بك الكبير وقيس وليلى وقمبيز...وكتب مصطفى كامل" فتح الأندلس" وكتب عزيز أباظة مجموعة من المسرحيات التراثية وهي على التوالي: قيس ولبنى، والعباسة، والناصر، وشجرة الدر، وغروب الأندلس، وشهريار. وألف توفيق الحكيم مسرحيات من الموروث الديني كأهل الكهف ومن الموروث الشعبي" شهرزاد" ومن الموروث اليوناني" بيجماليون" ومن الموروث الفرعوني" إيزيس". ومن الموروث الأسطوري، نذكر مسرحية محمد الكغاط" أساطير معاصرة"... ونكتفي بهذه الأمثلة لأن أغلب الريبرتوار العربي في الإبداع والتأليف المسرحي يعتمد على تشغيل التراث وتوظيفه كمادة تراثية أو كموقف إيديولوجي من بداية النهضة العربية إلى يومنا هذا كأن التراث جزء لا ينفصل عنا أي يضمنا ونضمه.
3- تأصيل المسرح العربي اعتمادا على الشكل أو القالب التراثي:
إن المضمون التراثي ليس كافيا لتأصيل المسرح العربي وتجديده، فلابد من اعتماد قالب عربي أصيل أو البحث عن شكل يرتبط بالأمة العربية أيما ارتباط كتوظيف أشكاله ماقبل المسرحية وقوالبه الاحتفالية وطقوسه الدينية واللعبية التي تحمل موروثا دراميا وتشخيصيا قابلا لمعالجته دراميا.
ومن القوالب الدرامية التراثية الأصيلة التي وظفها المسرحيون العرب نجد قالب السامر الذي يتبناه توفيق الحكيم في مسرحيته : "الصفقة"، ويوسف إدريس في مسرحية " الفرافير"، وقالب الليالي عند ألفرد فرج ومسرح المقهى والسهر عند سعد الله ونوس في مسرحيته" سهرة مع أبي خليل القباني" ، وطريقة مجالس التراث أو شكل الديوان الدائري عند قاسم محمد من العراق وفن المقامات عند الطيب الصديقي في "مقامات بديع الزمان الهمذاني" والذي وظف كذلك فن البساط في مسرحيته:" أبو حيان التوحيدي"، وخيال الظل الذي وظفه عبد الكريم برشيد في مسرحيته" ابن الرومي في مدن الصفيح"، والحلقة التي استعملها أحمد الطيب العلج في" القاضي في الحلقة" و الطيب الصديقي في " ديوان عبد الرحمن المجذوب"وعبد القادر البدوي في" الحلقة فيها وفيها"، و قالب سلطان الطلبة المستعمل في مسرحية الطيب الصديقي عرضت سنة 1966م تحت عنوان" سلطان الطلبة"،ونجد المسرح الشعبي أو الأوبريت الشعبية في مسرح كاكي الجزائري ومسرح " القوال" عند عبد القادر علولة بالجزائر.
وقد ساهم كل من محمد مندور وحسن المنيعي وسليمان قطاية ومحمد عزيزة وعلي عقلة عرسان ويوسف إدريس وعبد الفتاح قلعه جي و عمر محمد الطالب ومحمد يوسف نجم وعباس الجراري وحسن بحراوي ورشيد بنشنب وتمارا الكسندروفنا بوتينتسيفا...في استخلاص الظواهر الدرامية الشعبية والاحتفالية من خلال استقراء التراث العربي وإعدادها كقوالب وأشكال يمكن توظيفها دراميا وتشخيصيا.
3-التأصيل النظري:
ساهم كثير من المنظرين العرب في إصدار بيانات تنظيرية للمسرح العربي قصد السير به نحو الأمام بحثا عن حداثة حقيقية لا تتعارض مع الهوية لمواجهة التغريب والعولمة والمركزية الأوربية.
أصدر توفيق الحكيم في سنة 1967م تصورا تأصيليا جديدا للمسرح العربي تحت عنوان" قالبنا المسرحي" الذي يتمثل في بعث المداح والمقلداتي والحكواتي في بناء النصوص الدرامية وعرضها سينوغرافيا:" فنحن ببعثنا الحاكي والمقلد والمداح وجمعهم معا سنرى أن في استطاعتهم أن يحملوا آثار الأعلام من أسخيلوس وشكسبير وموليير إلى إبسن وتشيخوف حتى بيراندللو ودونمات...كما في استطاعتهم أن يحققوا الأمل الذي طالما تمناه الجميع في كل مكان وهو:" شعبية الثقافة العليا" أو بعبارة أخرى هدم الفاصل بين سواد الشعب وآثار الفن العالمي الكبرى...".
ويعد يوسف إدريس من السباقين إلى التفكير في التأصيل المسرحي من خلال البحث عن قالب مسرحي جديد، وذلك بتوظيف السامر في مسرحية" الفرافير" سنة 1964م ، حيث أشرك المتفرجين مع الممثلين في اللعبة المسرحية في إطار دائري مشكلا بذلك حلقة سينوغرافية . وقد استلهم الكاتب في مسرحيته خيال الظل والقراقوز والأدب الشعبي . وتعد مسرحية محمد دياب" ليالي الحصاد" سنة 1967 نموذجا تطبيقيا لتوظيف السامر الريفي. وفي هذا الصدد يقول جلال العشري: " غير أنه إذا كان محمود دياب قد استجاب لذلك التيار العام الذي بدأ يطالب بأشكال جديدة للمسرح،أشكال نابعة من فنوننا الشعبية المرتجلة ومن تقاليدنا المسرحية الفلكلورية، وهي الدعوة التي استجاب لها من قبل: يوسف إدريس، عندما قدم مسرحيته المثيرة" فرافير" بدعوى التعرف على ملامحنا المسرحية الأصيلة وإيجاد شخصيتنا المستقلة في المسرح. فثمة فارق كبير بين الكاتبين: يوسف إدريس ومحمود دياب، الأول تكلم عن السامر باعتباره الشكل المسرحي البدائي الأول الذي تبلور لدى الغالبية العظمى من جماهير شعبنا في الريف والقرى... أما محمود دياب، فمستفيد استفادة واضحة مما دعا إليه يوسف إدريس، مما أنجزه بالفعل، فقد استطاع في مسرحية" ليالي الحصاد" أن يتجه إلى التعبير الطبيعي المباشر، محافظا على السامر في شكله البدائي الأول...".
وفي المغرب، نجد الاحتفالية التي كان ينظر لها عبد الكريم برشيد وكانت هذه النظرية تهدف إلى إرساء فلسفة للإنسان والكون والوجود، و ترى المسرح احتفالا ولقاء جماهيريا بين الممثلين والجمهور. وبالتالي، تتمرد هذه النظرية عن الفضاءات المؤسساتية حيث ينقل العرض الاحتفالي إلى فضاءات مفتوحة شعبية كالأسواق والساحات العمومية. ويثور المسرح الاحتفالي على قواعد المسرح الأرسطي مستفيدا من تقنيات التراث العربي القديم و تقنيات المسرح العالمي. ومن أهم النصوص التطبيقية التي تمثل هذه النظرية مسرحية عبد الكريم برشيد" ابن الرومي في مدن الصفيح" التي وظف فيها خيال الظل والمسرح داخل المسرح وتركيب لوحات متنافرة متعددة الأحداث والأمكنة والأزمنة مع توظيف التراث الأدبي ومفارقاته الساخرة..
وقد اتخذت مجموعة من الفرق المسرحية العربية طابعا احتفاليا مثل: جماعة السرادق المصرية بزعامة صالح سعد التي أصدرت بيانها الأول سنة 1983م ، وجماعة المسرح الحكواتي برئاسة الفنان اللبناني روجيه عساف، ومسرح الشوك وعلى رأسه دريد لحام وعمر حجو ووظيفته انتقادية توجيهية، ومن الأعمال التي شخصها هذا المسرح السوري مسرحية سعد الله ونوس" حفلة سمر من أجل 5 حزيران"، وفرقة الفوانيس الأردنية ، وفرقة البحر الجزائرية التي أسسها قدور النعيمي التي اهتمت بالفرجة القديمة وتوظيف الحلقة والخروج إلى الفضاءات المفتوحة كالبحر، و فرقة المسرح الجديد بتونس.
وسعى سعد الله ونوس إلى تأسيس مسرح التسييس من خلال مسرحيته" مغامرة رأس المملوك جابر". والمقصود بمسرح التسييس عند سعد الله ونوس أن مفهوم التسييس يتحدد" من زاويتينمتكاملتين. الأولى فكرية وتعني، أننا نطرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية، وأننا نحاول في الوقت نفسه استشفاف أفق تقدمي لحل هذه المشاكل. إذا، بالتسييس أردت أن أمضي خطوة أعمق في تعريف المسرح السياسي. إنه المسرح الذي يحمل مضمونا سياسيا تقدميا. ومن نافل القول: إن الطبقات الفعلية التي تحتاج إلى التسييس هي الطبقات الشعبية لأن الطبقة الحاكمة مسيسة، سواء كانت الحاكمة بمعنى السيطرة على أدوات السلطة أو الحاكمة بمعنى السيطرة على وسائل الإنتاج الاقتصادي في البلد. إن الطبقات التي يتوجه إليها مسرح التسييس هي الطبقات الشعبية التي تتواطأ عليها القوى الحاكمة كي تظل جاهلة وغير مسيسة. الطبقات التي يؤمل أن تكون ذات يوم بطلة الثورة والتغيير. من هنا كان التسييس محاولة لإضفاء خيار تقدمي على المسرح السياسي." ويضيف الباحث :" أما الزاوية الثانية في مفهوم التسييس فهي تلك التي تهتم بالجانب الجمالي. إن مسرحا يريد أن يكون سياسيا تقدميا يتجه إلى جمهور محدد في هذا المجتمع، جمهور نحن نعلم سلفا أن وعيه مستلب، وأن ذائقته مخربة، وأن وسائله التعبيرية تزيف، وأن ثقافته الشعبية تسلب ويعاد توظيفها في أعمال سلطوية تعيد إنتاج الاستلاب والتخلف. إن هذا المسرح الذي يواجه مثل هذا الجمهور لابد له من البحث عن أشكال اتصال جديدة ومبكرة لايوفرها دائما التراث الموجود في المسرح العالمي أو العربي، حتى ولوكان هذا المسرح يحمل مضمونا سياسيا تقدميا."
وسوف نكتفي بهذه الاتجاهات التنظيرية ونرجئ الأخرى إلى وقت آخر للحديث عن مسرح الارتجال عند علي الراعي ، ومسرح النقد والشهادة عند محمد مسكين، ومسرح الثالث عند المسكيني الصغير، والمسرح الإسلامي كما يطرحه عماد خليل، ومسرح المرحلة عند الحوري الحسين.
4- التأصيل التطبيقي للنظريات الدرامية العربية:
وقد ساهم كثير من المخرجين في تأصيل المسرح العربي عن طريق الإخراج والتأليف والتطبيق الميداني دون حاجة إلى إصدار كتابات نظرية كما فعل الطيب الصديقي الذي وظف كثيرا من الظواهر الاحتفالية في مسرحياته العديدة ك" أبو حيان التوحيدي" و" ديوان سيدي عبد الرحمن المجذوب" و" مقامات بديع الزمان الهمذاني"... وألفرد فرج الذي سار على منوال المسرح الارتجالي أو الكوميديا دي لارطي الإيطالية كما عند بيراندللو في مسرحيته " جواز على ورقة طلاق" وممدوح عدوان" كيف تركت السيف"، و" ليل العبيد" ومحمود دياب في مسرحيته:" ليالي الحصاد" دون أن ننسى تطبيقات عز الدين المدني وعبد القادر علولة وكاكي الجزائري وقاسم محمد في" بغداد الجد والهزل" و" مجالس التراث" ويوسف العاني في " المفتاح" دون أن ننسى صلاح القصب وريمون جبارة.
تلكم هي نظرة موجزة عن إشكالية التأصيل في المسرح العربي الحديث والمعاصر في مواجهة التغريب والتجريب لتقنيات المسرح الأوربي بكل تياراته ومدارسه وتصوراته الإخراجية. وقد توصلنا إلى أن التأصيل المسرحي العربي تعامل مع التراث كمادة مضمونية وقالب شكلي وتنظيرات بيانية وتطبيقات تأليفية وسينوغرافية.
- الهوامــــــش:
1- " هذا النص... يعتبره الدارسون أول نص درامي عرفته البشرية مادامت النصوص التي سبقته قد فقدت." ، محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، دار البوكيلي للطباعة والنشر، القنيطرة، المغرب، ط1 ،1996، 46؛
- A Regarder Neitzche : Naissance de la tragédie
- انظر أرسطو: فن الشعر، ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ط1973،
- د. محمد الكغاط: المسرح وفضاءاته، صص:23-26؛
- انظر، د. نهاد صليحة: المدارس المسرحية المعاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب،ط1 ، 1986؛
- تمارا الكساندروفنا بوتينتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي، ترجمة: توفيق المؤذن،دار الفارابي، بيروت، لبنان ،ط2، 1990 ص:275؛
- أحمد بلخيري: دراسات في المسرح،مطبعة فضالة، المحمدية بالمغرب، ط1، 2001، ص:40؛
- تمارا اسكندرونا بوتينتسيفا: ألف عام وعام على المسرح العربي، ص: 202-203؛
- انظر د. محمد الكغاط: بنية التأليف المسرحي بالمغرب من البداية إلى الثمانينيات، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1986؛
- انظر تمارا اسكندرونا بوتينتسيفا: المرجع السابق؛3-ص:304-305؛
- د. محمد عزيزة: الإسلام والمسرح، ص:33؛
- د. محمد عزيزة: الإسلام والمسرح، ترجمة: رفيق الصبان، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، ط 1، 1988، ص:19-20؛
- المرجع السابق، ص: 24؛
- نفسه، ص:25؛
- انظر: أحمد شمس الدين حجازي: العرب والفن المسرحي؛
- د. عباس الجراري: الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، مكتبة المعارف، الرباط، ط2، 1979،ص:245؛
- د. عزالدين إسماعيل: قضايا الإنسان في الأدب المسرحي المعاصر،دار الفكر العربي، ط 1980، ص:49؛
- تمارا الكسندروفنا بوتينتسيفا: نفس المرجع السابق، ص: 25؛
- محمد عزيزة: نفس المرجع، ص: 28؛
- نفسه، ص: 83؛
- د. عبد الكريم برشيد: حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط1، 1985، ص:40؛
- د. عمر محمد الطالب: ملامح المسرحية العربية الإسلامية، منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب، ط1، 1987، ص:10؛
- نفس المرجع السابق، ونفس الصفحة؛
- د. مصطفى رمضاني: ( توظيف التراث وإشكالية التأصيل في المسرح العربي)، عالم الفكر، الكويت، مارس 1987، ص:80؛
- د. محمد عابد الجابري: ( التراث ومشكل المنهج)، المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، 1986، ص:74؛
- د. محمد عابد الجابري: نفس المقال السابق، ص: 77-87
- د. مصطفى رمضاني: ( توظيف التراث وإشكالية التأصيل في المسرح العربي)، ص: 79؛
- توفيق الحكيم: قالبنا المسرحي، مكتبة مصر، ط 1988، ص:16-17؛
- جلال العشري: المسرح أبو الفنون، دار النهضة العربية، ط 1971، ص: 265؛
- صالح سعد: الأنا- الآخر، عالم المعرفة، الكويت، العدد 274، ط1990،ص:222؛
- سعد الله ونوس: بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد،ط1988،صص:108-109؛
- نفسه، ص: 109.