أ. د. جلال أبو زيد هليل \ كلية الألسن - جامعة عين شمس عن صحيفة الرياض
1- أديب من زمن الحب:
عبدالله الجفري كاتب له مذاقه، وقلم له خصوصيته بأسلوبه الرشيق الذي يجمع بين روح الفيلسوف ووجدان الشاعر وذهن المصلح وشفافية الحالم الأبدي.
ومع هذه الخصوصية التي تجعلك تعرف عمله من لغته فإن الجفري يأخذك إلى زمن العظماء في عالم الكلمة حيث كان الحكيم وزكي نجيب محمود وإدريس.. تلمس وأنت تجوب أرض الجفري وتتجول في رياضه، تلك الأرواح التي حلقت في سماء الثقافة العربية واستمتع بها جيل هو الآن في قمة عطائه.
ويعد الجفري حلقة وصل مهمة بين جيلين في الأدب والإعلام معاً.. فقد استطاع ان يدعم الإعلام الأدبي بما يحتاج إليه هذا الإعلام من قضايا تمس اللحظة مثلما يكون لها بعدها الإنساني وتعتمد أيضاً على شاعرية الأداء والجمل السريعة المؤثرة غير المغرقة في المجاز وان كانت تسمح بتعدد المعاني طبقاً لتعدد مستويات القراء الذين يتابعون الإعلام الأدبي.
والجفري من هذه الناحية تلميذ وأستاذ.. تلميذ مخلص لاحسان عبدالقدوس وأنيس منصور وغيرهما ممن أعطى الأدب والثقافة عمراً وشارك مشاركة حقيقية وفعالة في إنماء الذوق وإثارة قضايا الحرية والالتزام والمسؤولية وسعى نحو بناء منظومة ثقافية لإنسان عربي يعيش في عصره.. وهو أستاذ أيضاً لمن أتى بعده من الكتاب والكاتبات وهم وهن كثر فالساحة الآن حافلة بالدوريات العربية الصادرة من كل صوب وحدب والتي استطاعت ان تجذب أعداداً كبيرة من القراء بما يمكن ان نطلق عليه الأسلوب العاطفي.. ولا نعني بهذا الأسلوب ان الكاتب يعالج قضايا عاطفية دائماً وإنما هو ينطلق من قضايا الإنسان بصفة عامة مع مقدرة على ربط هذه القضايا بالأبعاد الاجتماعية والنفسية والسياسية للبيئة العربية بكل ثوابتها ومتغيراتها من خلال لغة صحفية تخترق المشاعر وتتسلل من بين الوجدان حيث يتبناها القارئ وكأنها لغته التي يتمنى ان يقولها، ثم يفكر في تلك المعطيات الذهنية التي يطرحها الكاتب بعد ان يتجاوز حالة الانفعال العاطفي.
وهذا بالطبع يعد بلاغة إعلامية يجب ان يرصدها الدرس الأكاديمي من خلال مباحث نظريات التلقي التي نستمد منها الخصائص الأسلوبية المفضلة لدى القراء وهي تقنيات بلاغية ذات دلالات نفسية واجتماعية يتمتع بها بعض الكتاب الذين يشكلون ما أطلقنا عليه الأسلوب العاطفي في الإعلام الأدبي مع الوضع في الاعتبار ان أدبية هؤلاء الكتاب تكمن في أسلوبهم، أما من حيث الموضوعات فهم يعالجون كل الموضوعات التي تهم القراء وغالباً ما تكون قضية العلاقة بين الرجل والمرأة هي المدخل الذي يصلون من خلاله إلى وجدان القارئ ويمتلكون به حواسه ثم يستطيعون ان يجعلوا هذه العلاقة نموذجاً يعلن عن كل المشاكل التي تحيط بالمنظومة الثقافية للبيئة العربية فعلاقة الرجل بالمرأة من وجهة نظر هؤلاء الكتاب هي الممثل لموقفنا الحضاري والأخلاقي والإنساني.
ولعل الاقتباس الآتي يوضح تعلق الجفري بأدباء الزمن الجميل ويعكس في الوقت نفسه القضايا المحورية التي يناقشها في كتاباته:
"أنت المخلوق الرقيق الحساس المتدفق حيوية.. الممتلئ حباً وحناناً وتفهماً وادراكاً تكون قاسياً وعنيداً وعصبياً إلى حد لا يطاق؟!
هناك شيء مهم: أنت تكذب! ربما مثل ذلك البطل في قصة احسان عبدالقدوس الذي يتجمل بالكذب ولا يقصد الخداع أو الإساءة لأحد!" (1).
ومن الواضح ان قضية العلاقة بين الرجل والمرأة هي التي تنعكس من هذا الاقتباس وهي أيضاً تقدم إلينا من خلال قضية أخرى تتمثل في الصراحة والمواجهة والقدرة على كشف الذات دون خجل أو خوف.. أما الاقتباس التالي فيعرض لنا قضية أخرى مهمة من القضايا التي يلتزم بها عبدالله الجفري.
"ورغم طول المسافة.. فإنني لم أشعر بها لقد كنت بجانبي أنظر إليك وأحادثك واسألك عن قصة الدكتور "سهيل إدريس" الحي اللاتيني، التي حدثتني مرة عن اعجابك بها وأنها شدتك لتذهب إلى هناك. واسألك عن "عصفور من الشرق" وصورة "توفيق الحكيم" القديمة الرائعة. ورأيك في "توفيق الحكيم" بعد كتابه: عودة الوعي وفقدانه!!
أحس أنك تملؤني.. ترويني، تأخذ رأسي وتفلحه وتشذبه كأرض بور، ثم تحوله إلى عشرات الفدادين التي تطرح القطن طويل التيلة!
أحس ان كل كلمة تقولها لي: وعي وكل فكرة تناقشها معي: قضية وكل عبارة ترددها في مسمعي: ملحمة.
ووصلنا إلى الحي اللاتيني.. وكانت ليلة!" (2).
ومن الواضح ان القضية التي يقدمها هذا الاقتباس تتمثل في الأزمة الحضارية أو صراع الذات بين نمطين ثقافيين.
وهذه القضايا التي يعبر عنها الجفري تترابط معاً فالمواجهة بين الذات والآخر تتعلق بالأزمة الحضارية وتتصل هذه الأزمة بقضية المثقف العربي الذي يخشى كشف ذاته، وفي الوقت نفسه يتمنى ان يكون شريكه في الحياة العاطفية والاجتماعية على نحو مختلف عما هو قائم فيكون هذا الشريك قادراً على التعبير عن مشاعره وصادقاً وذكياً ومتعدد التجارب بحيث تكون شخصيته على درجة من النضج ولكن في قرارة نفس المثقف العربي الشرقي بصفة عامة، والسعودي بصفة خاصة توجد مجموعة من المفاهيم تجعله في حالة صراع بين الحلم والواقع.
ويتمثل هذا الصراع في أنه لا يستطيع الانسجام مع الحلم ولا يستطيع تخيل ان تكون هذه الشخصية التي يعجب بها ويراها خارج بلده موجودة في بلده.. انه يتمناها لنفسه ولكنه لا يتمناها للمرأة التي يعد مسؤولاً عنها في حياته الاقليمية وهذا ما جعل الجفري يكتب الرواية كلها تحت عنوان "جزء من حلم" فالحلم نفسه ليس كاملاً.. انه مختصر أو مختزل هو أمنية يبدو بعضها وعلى القارئ ان يستكمل الجزء الآخر والجزء الذي ظهر من الحلم جاء على لسان المرأة من قبل المؤلف الرجل وبالتالي أصبح واضحاً ان الجزء الذي لم يظهر في الحلم هو أمنية الرجل نفسه أو صورة الرجل عند المرأة الكاتبة، وهذا ما يجعل النص الأدبي جزءاً من السياق الثقافي وليس نصاً منعزلاً بين دفتي كتاب.
2- حلم المرأة أم حلم الرجل: في هذه الرواية يستخدم الجفري ضمير المتكلم الذي يظن البعض أنه يعبر عن شخصية المؤلف لكن المفارقة هنا ان ضمير المتكلم يعود على المرأة الأنثى التي تحب شخصاً مثقفاً فهل يمكن القول بأن هناك علاقة ما بين صوت المرأة وفكر الرجل؟
في الحقيقة أننا نبحث عن الاثنين معاً: الرجل والمرأة في هذا العمل، فقد جعل الجفري شخصية الرجل تنعكس في عين المرأة وصوتها بمعنى ان الحديث الذي وضعه بضمير المتكلم ينطق بصوت المرأة التي ترى الرجل أكثر مما ترى نفسها مما يجعل ذات المثقف حاضرة في النص، وان جاءت من خلال قناع المرأة ولكنه القناع الذي يشي بما تحته، ولتوضيح ذلك نمثل بالنص التالي:
"وفي كل صباح من صباحاتكم التي تبدأ عندك بعد الواحدة في منتصف الليل وقبل ان تنام ابعث لي بتحيتك ستصلني انني واثقة أنك تحمل لي في نفسك الكثير.
أعرف ان الزمن لن يعطيني منك سوى هذه الخطوات فقط فقط!! فهل ستنتظرني في قمة "ايفل" مع رسالتي القادمة؟!
أعرف أنك لا تنتظر شيئاً كما قلت لي مرة أتذكر؟!
يومها قلت لي: "لقد أصبحت طريقاً مسدوداً، لا يوصل إلى شيء ولا يصل بالآخرين إلى دروب.. إنني لم أعد انتظر شيئاً مما كنت أحلم به في حياتي ليغيرها ويحقق لي فيها أحلامي"!
ولكني أنا انتظرك كل مساء.. أجدك في كل خفقة تهب الحياة لي هذا هو الفارق بيننا.
لقد كنت أنا جزءاً من حلمك.. أما انت فمازلت وطن أحلامي وحدودها.. والإنسان لا يبدل الوطن.. يبقى له وطن واحد!!" (3).
إن النص يعطينا معلومات عن الرجل العربي الذي يمارس مهنة الأدب، وهي صورة رومانسية لهذا البطل أصبحت كلاسيكية بحكم رسوخها فهو الأديب الذي يعيش في فرنسا بلد الفكر والثقافة والحرية وهو يبدأ حياته بعد الواحدة صباحاً وهو محبط لأن أحلامه لا تتحقق وهو الذي تحفظ النساء أقواله المأثورة ويحلمن به بما يجعله وطناً لهن، أما هو فحلمه أكبر من كل النساء.. تلك هي الصورة التي يقدمها الجفري للأديب العربي من خلال صوت المرأة ووجهة نظرها.
ان المرأة التي تظهر في الحكاية هي صورة متخيلة أو ممكن ان نقول انها نمطية للمرأة التي تعشق الفنان المثقف يقول النص الحكائي عند عبدالله الجفري:
"انت بيتي وشغلي الشاغل، وحياتي.. أنت محورها وأملها.. أريدك لي، وأطمع في الزمن الذي يوحدنا، وحديث بيننا يطول.
هذا لن يكون.. ولأنه لن يكون فلن يتغير شيء.
ستبقى أنت هنا بين الضلوع.
خاطر لا يهزأ، وأحلام تتجدد، وأمان لا أعذب ولا أحلى.
قد أموت.. وقد تباعد بيننا الأيام والظروف وتظل ذكرى جميلة لأيام جميلة.. وعمر أكبر من الزمان وحضور أقوى من أي مكان.
إن كنت أنا أو غيري من قبل أو من بعد لم نكن ما تمنيت وحلمت وتصورت - تلك الأنثى التي لم توجد - أو أنها وجدت ولم تلتق بها بعد.. فأنت هذا الرجل الذي حلمت به وأردته" (4).
إن النص السابق يتعرض لموضوع الإنسان الحلم بصورة مباشرة، فهو يحدد بداية رؤية المرأة للرجل المثقف الفنان، وهي رؤية نمطية مفادها ان هذا الرجل لا يمنح نفسه لمرأة واحدة، وأنه حلم النساء، وان قلبه أكبر من ان يخصصه لصالح قضية عاطفية مرتبطة بالمرأة الحقيقية، لأن المرأة عنده رمز وفن ووطن وحقيقة انها المرأة التي تساوي الحياة أو تحقق الإبداع وهذه المرأة لا يوجد لها نظير في عالم النساء الموجودات في الواقع من حول الرجل الفنان.