عالمي الرَحْب والخيالي، ثمَرة حصاد سنوات طويلة، أمْضَيتها بالقراءة والتجريب والنتاج والبحث عن هوية بالكتابة تُجسد حصيلة بحث وتقصي وسَبْر غوْر الحياة حولي مجربًا التعبير عن محيطٍ مكاني وزمني، انعَكسَت هذه التجربة بنتاجٍ مهما صادفتُ خلالها من مرارة وإنهاك لكنَّها بمرارتها تلك تشكِل معاناة جميلة لا أنفَك أعمقها كلمّا وجدتُ الفرصة في الغوص بمزيدٍ من السرد المُعبِّر عن ذاتي الموضوعية والباطنيّة، بمّا يشكل الواقع حوْلي من إرهاصات وزخم للتجربة التي أعيشها.
عندما أُنْهَك من السياسة ودهاليزها الخبيثة ومساوماتها، ابْتكِر العزلة لأيامٍ ولأسابيع بحجمِ المعاناة ذاتها وأغوص في عالم الرواية لتنزعني من تيهٍ لتيه أجمل وأروع حينما أغرق في مغامرة احْبكُها مع شخوص وأبطال الرواية الذين هم بالنهاية مزيجٌ من الواقع حوْلي ومن خيالٍ انسِجهُ مستوحيًا من الواقع ذاته، فكثيراً ما اسْتعَرتُ ملامح الشخوص وسِماتهم وسلوكياتهم وتعقيداتهم من شخصياتٍ أُجالسُها بحياتي اليومية، أسْتوحي مظاهر الكذب والتزييف وكذلك العفوية والبساطة من بعضهم، حينما اندَمج في نسيج الحياة اليومية أتأمّل الأشخاص من حولي وأمتَص ذروة ما يشعُ منهم من مشاعر وأفكار وسلوك، هي في الحقيقة تصرفات لا يدركونها ولا يمكنهم التنبؤ بها من قِبلهِم طالمّا يعيشونها، وقد اسْتَقطَبت رواية (الخراف الضالة) كثير من صوّرٍ مستوْحاة من أشخاص عاديين يوميين، منهم من أقرب الأصدقاء والمعارف منهم عابرون، وهي الرواية التي هتَكَت أحداث 14 فبراير 2011 الداميّة وردود أفعال عصبية وعشوائيّة تجاه الأزمة، فهناك انتهازي وخائن لمبادئهِ وآراءه وأصدقائه لدرجة أن هناك من حسبتهُ أحد الأصدقاء، أو هكذا ظنَّنتُ ع.د الذي طالمّا تغني معي بالليبرالية وحتى بالعلمانيّة! من خلال علاقتهِ، بالثقافي وكتاباته ولست في موقف أذَكِّرهُ بوقفتي معه بدعْمهِ ونشر كتاباته التي كان يُروِّج أنّها تغيضُ المرْاجع الدينية، فجَّر خلال الأحداث الدامية، صدمة في التحاقه بالحركة الخمينية وتنظيره للثورة الولائية اللاهوتية. أذكُّر فقط بأن هذا نموج من نماذج الأشخاص والزملاء والأصدقاء الذين فضَحتهُم الأحداث وعرَّت ليبراليتهم وعلمانيتهم الزائفتين. هذا المشهد نموذجًا للصوَّر المتداخِلة لرواية (الخراف الضالة) وطبعاً ذلك لا يُلغي الطرف الآخر الذي كان محسوبًا على الضفة الأخرى، وخاصة من التيار الديني السني الذي اسْتدرَجتهُ الانتهازية وهو شريحة من الخراف الضالة.
بالعودة للوراء للسنوات الأولى بالتأليف الروائي، كانت أغلب الشخوص في رواياتي، تنْسج ذاتها خلال الكتابة وتنصَهر في محتوى السَّرد من دون تدخل مباشر يذْكر وحرِصتُ على النأي بنفسي عن السَّرد التقريري الذي وقع فيه بعض الكتاب أو القصّ الغامض المُبْهم الأقرب للنصوص والنثر منه للدراما الروائية وأدواتها الفنية. لا أريد في هذه السطور السريعة أخذ مكانة الناقد، فلستُ بصاحب منهج نقدي ولا أريد حشْرَ نفسي بهذا الطابور، لكن الكاتب القارئ يدرك من متابعاته ورصْده تنوُّع المناهج والمدارس والمذاهب الأدبيّة والنقدية، لذا كنت أكتفي بمراقبة النقد الذي يُكْتب ولم أُسْهم فيه ليقيني بأنَّها ليست مهمة الروائي، ولكني من منطلق اهتماماتي عرَّجتُ على عالم الكاتبة الفكرية والدراسية فأصدرت (دراسة كرة الرماد) ودراسة (الديمقراطية الالكترونيّة) ودراسة فنية نقديّة لسينما المخرج يوسف شاهين بعنوان (سينما التحولات) بالإضافة لدراسة سياسية حول المشروع الإصلاحي في البحرين بعنوان ( الديمقراطية الانقلابية) مع عددٌ من المسرحيات من أهمها (أبونواس يرقص الديسكو) و(فنجان قهوة للرئيس) من إصدارات دار الفارابي بيروت، هذه الأعمال وغيرها كانت حصيلة سنوات العمل الأدبي والثقافي ولا أذْكُّر خلال مسيرة هذه السنوات الطويلة أن الْتفَتُ نحو ردود الأفعال حول هذه الأعمال، كنت خلالها أكتفي بالتأليف وأمضي دون شغف بالأضواء والتوقيع بالمؤتمرات ومهرجانات ومعارض الكتب، ليقيني بأن الكاتب ليس سلعة كباقي السلع تُعرَّض للمشترين! وما زلتُ حتى الساعة اقطع طريقي بلا توقُّف أو وهَن ما دام الفكر يشتعل بالأفكار والرؤى والرغبة الصاخِبة بداخلي للكتابة.
تأثير ذلك كلّه على حياتي، تمثَّل بحالةٍ من الاستقرار الذهني والنفسي وهدوء داخلي تجَسَّد في عزلةِ المجتمع لحدٍّ ما، فلم أكن من المُلتَحمين في المناخ الاجتماعي الواسع المضْطرِب ولم انْخرِط في البيئة الاجتماعيّة العامة، فمنذ سنوات الدراسة الأولى بالابتدائي والإعدادي والثانوي كنت انغَمِسُ بالقراءة ومشاهدة السينما والاستماع للموسيقى الكلاسيكيّة التي رافقتني برحلةِ العمر منذ أيام أسطوانات الفونوغراف التقليدية ثم الكاسيت إلى الأقراص المُدْمجَة والفلاش، ظلَّت الموسيقى الكلاسيكية تلازمني وقت الكتابة والتأمُّل وفي الليل والنهار وحتى عند الشعور بالوحدة والتوتر أو القلق من حالة ما...من أهم الأعمال العالمية التي تمثل زادي اليومي في الاستماع (موسيقى (شهرزاد) لرمسكي كورساكوف وبقية أعماله وكلّ أعمال تشايكوفسكي ومنها أعمال الباليه والكونشرتو وخاصة كونشرتو رقم (1) وباليه الأميرة النائمة بالإضافة لأعمال بتهوفن وبيتر شتراوس ويوهان شتراوس وتحديدًا (بلو دانوب) وهناك فوكنر وشوبرت وباخ موزارت وبوسي وأسماء كثيرة شكّلت كلّها عالمي الجميل الذي ألجَأ إليه وقت الشعور بالتواصل مع عالمي الداخلي والإحساس بالوجود في هذه الحياة، فالرغبة أن تعيش الحياة تدفعك لأن تنْسجِم مع كلّ الإبداعات الفكريّة والفنيّة العالمية نتَجَت من أرواح بشر مبدعين على مرِّ العصور شكَّلت هذه النتاجات العالمية أهم ما في أعماقهم من مشاعر خرجَت في شكل أعمال عالمية خالدة مبْدِعة توَزَّعت بين كتاب وموسيقيين وشعراء ورسامين وسينمائيين معاصرين، مثلوا هذه الحضارة الإنسانية التي يدمِرُها اليوم بشر من أولئك المتشدّدين والمتطرفين في الدين والسياسية.
السرعة التي عَبَرَت بها الحياة من أمامي صدمتني فجأة وأنا أقف على منتصف الستين، مع خمسة أبناء وأربعة من الأحفاد، ورصيد من الكتب التي بمثابة أبناء وكلّ منهم وُلِد بفترةٍ هي حقبة من زمن قضيتهُ أعمل وأراقب وارْصد وأتعلم ثم أفْرغ كلّ تلك الأفكار والمشاعر والمعلومات والتجارب والرؤى على الورق ثم الكيبورد، فكانت ثَمرَة تلك الأوقات والمراحل هذه المؤلفات التي اعتز بها واعتني فيها كما لو كانت بمثابة أبنائي فكلّ مؤلف له قصة ورمزيتها عندي وأضعها جميعاً برفٍ واحد على نضد خاص أتأمّلُها طوال الوقت وبين فترة وأخرى ينظر مؤلف منها نحوي ويتأمّلني ككائنٍ حيّ، ثم أعبر لمؤلف جديد ينتظر مكانه على النضد المذكور ومع كلّ ولادة تكْمن سعادة ذات نكهة مختلفة عن سابقتها بحسب الولادة والموقف والحالة التي يمثلها الكاتب... ولا أخفي سرًا أن اعتَرفتُ أن هناك في كلِّ رواية الفْتُها، جزءٌ من حياة عشتُها أضفتُ عليها من الخيال بما في ذلك شخصيات الرواية، فالشيخ سيار في رواية (بيضة القمر) له نكْهتهُ السحريّة المُميَّزة عالمه الكهنوتي الكهفي مع كائناته الغيبيّة، والشيخ خلف الفرض جزءٌ من واقع عايشتُ بعض وقائعه خاصة تلك المتعلقة بالبحر والساحل والرطوبة والغبار وتأثيرها على السلوك والعاطفة، وهناك شخصية نسيمة التي لا تغيب عن بالي في رواية (قمر باريسي) وخلود في (رقصة أخيرة على قمر أزرق)!! وبوعلي الهوى برواية(الخراف الضالة) وقمة الشخصيات المكَوِّنة لمشاعري وارتباطي الشخصي والخيالي بها في شخصيّة يسرا القرمزي من رواية (يسرا البريطانية) التي حاصَرتني فترة ما قبل كتابتها وخلال الكتابة وبعد الولادة القيصريّة لها وحتى اللحظة، فكلمّا افتح عيني كلّ يوم بالصباح أصحو على وجه يسرا القرمزي يُطلُّ بشْرفَة الصباح ويخبرني كم الحياة صديقة وليست عدوَّة وتسْتحِق أن تُعاش دون معاناة نجْلِبُها لأنفُّسنا أو نلتقطها بالطريق صدفة ونربطها بمسيرة الحياة... وجود يسرا القرمزي بحياتي علمني الكثير من حيث ألا نُغامِر دون أن معرفَة النتيجة، وإن أردنا المُجازَفة فلابد أن ندفع الثمن، لا شيء مجانيًا في الحياة، حتى الحب له سعره مع اقرب الناس إلينا... قصة يسرا مكثّفَة معقدة محوريّة في حياتي اذكُّر كيف كنت اقضي الوقت بجدالٍ مع ابنتي شروق القارئة الأولي لي والتي اختَلفَت معي في رؤيّة جانب يسرا، ربما معها حق لكوْنِها امرأة تدرك خفايا النساء ومشاعرهنّ وألغازهنّ الغامِضَة والتي قد يبدو ظاهرها غيْر داخلها، في النهاية يسرا القرمزي المرأة الوحيدة في رواياتي التي سلبتني أرادة الحياد في الحكم عليها...
ولا يغيب عن ذهني بصورةٍ متلاحِقة، شخصية الشيخ الرئيس سيلمان بن احمد السليط الهلالي في رواية حرب البنفسج ومرافقتهِ في البحر والحرب والقرصنة، في الموت والحياة، الفتاة بنفسج...تلك الْملحَمة التي تُسلط ضوءٌ شرس على تجارة الرقيق، وحياة الرق التي عاناها لأجيالٍ منصرِمة أبناء المنطقة خلال فترات الاحتلال البرتغالي والبريطاني...وانتفاضات الجوع...
كما هناك بطليّ الرواية أبو العلاء المعري الآتي من زمنٍ ومكانٍ سديميين وخليل مطر الباحث وراء الأدب والتاريخ الذي يتوَرَّط بعلاقة عشقية مُسْتعرة تقوده للزواج من فتاة حلبيّة اثناء دراسته هناك وتسْقطهُ للزواجِ منها ثم إصابته بالعمي نتيجة حادث حريق يفقد فيها ابنته نيزك فتَتحَوّل حياته إلى جحيمٍ ليتوَحَّد بعدها مع عمى المعري ويخوضان مجازفة وجوديّة ممّا يعقد حياته مع زوجته تغاني التي تهجرهُ، ليقبع في عزلةٍ مع الظلام برحلةٍ انزوائية هدفه بلوغ الحقيقة النورانية- فهل يصل؟!
وهناك شخصيات عديدة برواياتي ذات علاقة وثيقة معي يعيشون طوال الوقت حوْليّ ولا يغادرون عالمي منهنَّ نعوم وخديجة وشريفة وفرخندة في بيضة القمر وخليفة وعيسى في رواية (رقصة أخيرة على قمر أزرق)
بالنهاية أنا مُخْلُص ووَفيٌ لكلِّ شخصيات رواياتي سواء الذين اسْتدرجْتُهم من الواقع أو أولئك الذين أفرَزَهم خيالي الجامح فكلّ هؤلاء البشر الأقوياء منهم أو الضعفاء، سعداء أو يائسين، فكلّهم يعيشون معي حتى بعد مرور تلك السنوات على تسْطيرَهم، فهناك وفاء لهم بقدْرِ ما خلقتهم على الورق وعايشتهم، ففي عالمي لا يمثلون بالنسبة لي شخصيات تمرُّ على القارئ وتنتهي، فهم أسرتي الحميمة الوهميّة!!
تظلُّ أخطر الشخصيات على الإطلاق وأعْمقها وأكثرها تعقيدًا ورمزيّة، هي تلك التي تناولتها رواياتي الثلاث الأخيرة (خريف الكرز) و(حرب البنفسج) و(لص القمر- سنمار الإخباري) برواية خريف الكرز لا يُمكن تخيُّل ولا تحَمُل مصير كلّ من جوري العاهرة الطاهرة، ولا يمكن الوقوف على الحياد أو الانحياز لها أو ضدها كمّا يرتبط مصيرها بمصير الزمان والمكان الذي أنتَج تلك الشخصية من قاع المدينة إبان الاحتلال البريطاني عبورًا بالزمن التالي، ترافقها شخصيتي سفيان الابن والأب تقي المرجاني وهما يعبُران حافَة الهاويّة قبل الانزلاق بأتون الزمن وقاع مدينة الضباب لندن، كانا بمثابةِ الهروب من الوطن حين يضيق، فالحياة الداميّة التي عبَراها ومعهما طيف جوري شكَلت تلك الشخصيات الثلاث بالرواية ولادة عسيرة لدي تأليفها وتحديدًا تطفو شخصية شيري بالرواية ذاتها توازي بما تملكتني ما يوازي ما عانيْتهُ بيسرا القرمزي برواية يسرا البريطانية.
تظلُ شخصيّة قرصان البحر والمحيطات الشيخ الرئيس سليمان بن احمد السليط الهلالي مع شخصية بنفسج ربانة الحرب برواية حرب البنفسج تفوقان الخيال بحدِ ذاته، لن أروي هنا وأشرح أو أفسر تلك الشخصيتين بما تختزلانهُ من موروث كفاحي يتعدى الواقع ويفوق الخيال، لقد ظلَّلتُ لأكثرِ من ثلاث سنوات أختَزل تلك الشخصيتين برأسي وأكثر من سنتين أتصَفَح وأُدقّق بالوثائق والمستندات التاريخية لأيام الاحتلال البريطاني للمنطقة لسَبر أغوار ما جرى بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى خرج منها السليط وبنفسج. أما شخصيتي أفيين والملك الأعور برواية (لص القمر، سنمار الإخباري) فلن أفْسِدُهما بالحديث هنا وأترك للقارئ تفاجئانه رغم هيمنة وتحكم شخصية أفيين بي حتى الساعة.