سطع نجمه حاملا لواء التجديد في الشعر العربي منذ صدور ديوانه الأول (الناس في بلادي) عام 1957م ثائرا على الأشكال النمطية والتقليدية للشعر، ورائدا أرسى قواعد الشعر الحر ومبادئ الحداثة في الشعر العربي الحديث، فانضوى خلف لوائه جيلٌ من الرواد في هذه المدرسة الشعرية الوليدة في مصر وفى شتى الأقطار العربية،
إنه الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور المولود بمحافظة الشرقية في 3 مايو عام 1931م.
تخرج من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1951م، بدأ نشر أشعاره في الصحف متخذا بناءً جديدا للشعر متمثلا في شعر التفعيلة الذي صنع إطارا جديدا يختلف في بنائه عن الأوزان الخليلية المعروفة في ترتيب جديد ونظم مبتكر، تزامن مع ما أصدره شعراء العراق (نازك الملائكة) و(بدر شاكر السياب) و(عبد الوهاب البياتي) وفى سوريا الشاعر (على أحمد سعيد أدونيس) ليصبح لهذه المدرسة قاعدة عربية أسست لأجيال تالية سارت على النهج بل وأبدعت وتفردت أصواتها الشعرية مثل أمل دنقل ومحمود درويش.
لم تكن ريادة الشاعر صلاح عبد الصبور فقط في قصائده ودواوينه بل امتد إبداعه إلى المسرح الشاعري الذي خبا وتوارى بعد وفاة أمير الشعراء ولم تعد نهضته إلا بإبداعات شاعرنا الكبير واستلهامه التراث الصوفي العربي وتأثره بالمسرح العالمي في نصوص مسرحية أشاد بها النقاد واحتلت مكانتها في الفن المسرحي ورأى فيها القارئ بوحا صادقا للمتغيرات الفكرية والسياسية بعد ثورة يوليو ونصر أكتوبر.
تأثر شاعرنا إلى حد كبير بالشاعر الإنجليزي توماس ستيرن إليوت(1888-1965م) ودعوته إلى المعادل الموضوعي، وتوظيف التراث، والاستناد إلى الأسطورة والرمز.
وانطلاقا من تلك المبادئ صاغ صلاح عبد الصبور أروع أعماله الشعرية والمسرحية فقد كان له في قصيدة (الخروج) تجربة مبتكرة لاستخدام القناع، ويوظف عبد الصبور في قصيدة “الخروج” هجرة الرّسول صلى الله عليه وسلم، وخروجه من مكة إلى المدينة كمعادل موضوعي أو كقناع للبوح عن رغبة شخصية يصور من خلالها تجربة ذاتية وهي محاولة الشّاعر الهروب من واقع حياته المرير إلى واقع أكثر إشراقا وصفاء، والفرار من زيف المجتمع المتلون وشروره، بل والهروب من ذاته شخصيا الّتي تعانى من هذا الزّيف، الذي جثم على القلوب التائقة إلى بلوغ الحياة الصافية النقية:
أخرج من مدينتي من موطني القديم
مطرحا أثقال عيشي الأليم
فيها، وتحت الثّوب قد حملت السّرى
دفنته ببابها، ثمّ اشتملت بالسّماء والنّجوم.
وفى المسرح كان التراث الصوفي واحدا من أهم المصادر التراثية الّتي استمد منها الشّاعر صلاح عبد الصبور يستلهم منها رموزا وأحداثا يطلق من خلالها العنان لخياله في بث فكره ونقده لسلبيات تؤرق وجدانه من منطلق حرصه وحبه لوطنه في أبرز أعماله المسرحية (مأساة الحلاج).
فكانت شخصية الحلاج قناعا ثريا صوبه شاعرنا لبلورة صراع الكلمة وانتصاره للفكرة، الحلاج(858-922م) الشاعر الصوفي الشهير الذي مات في سبيل الكلمة، مصلوبًا بعد محاكمتِهِ من عدد من القضاة في بغداد.
قسّم صلاح عبد الصبور مسرحيتَهُ قسمين وأسماهما: الأول بعنوان الكلمة، والثاني بعنوان الموت.
قائلا على لسان الحجاج:
لا أبكي حزنًا يا ولدي، بل حيرة
من عجزي يقطر دمعي،
من حيرة رأيي وضلال ظنوني
يأتي شجوي، ينسكب أنيني.
هل عاقبني ربي في روحي ويقيني؟
إذ أخفى عني نوره،
أم عن عيني حجبته غيوم الألفاظ المشتبهة،
والأفكار المشتبهة؟
أم هو يدعوني أن أختار لنفسي؟
هبني اخترت لنفسي، ماذا أختار؟
هل أرفع صوتي
أم أرفع سيفي؟
ماذا أختار؟ …
وبذلك بدت قدرة الشاعر صلاح عبد الصبور أن يوظِّف الأقنعة التراثية كي تكون تصويرا له ولرؤيته الذاتية، وصوتا واعيا مستنيرا يبث فيه أشجانه الخاصة والعامة.