مقاربة نقدية سيسيولوجية نفسية
اختلف علماء النفس في تعاطيهم مع موضوع الصدمة وكل إتجاه لكلٍ منهم قد فتح أبوابا كثيرة في مجالات العلوم والفنون؛ ومن ذلك ما أورده الأستاذ الدكتور سامح مهران في مقال له بعنوان "الأداء والذاكرة (١) حول موضوع نظرية الصدمة لفرويد إذ يقول: (تنحاز القراءات الفرويدية الخاصة بنظرية الصدمة النفسية إلى الحكاية بوصفها الشكل الجوهرى لتذكر التجارب الصادمة والتعبير عنها بوضوح. وقد عقبت الطبيبة النفسية والمتخصصة في الصدمات "جوديث هيرمان "على فرويد فقالت: إن أحد أهم أهداف التعافي هو صياغة القصة بما في ذلك صورتها المجازية في كلمات. فالقدرة على سرد الماضي في سلسلة منتظمة ومتماسكة من الأفكار والأحداث تمثل انتصارا على كبت الماضي. "ومع ذلك فإن الأمر المثير للمفارقة هنا؛ أن هذا النموذج قد يكبت ما هو جسدي من غير قصد؛ أو يلجأ إلى تأطير الممارسة المجسدة بصورة تختزلها أكثر مما ينبغي إلى التصرفات غير المناسبة؛ أو في المظهر غير الواعي؛وذلك فى محاولة للحفاظ على استقامة الحكاية وسلامتها.
في حقيقة الأمر قد يخلق التوسع في نظريات فرويد حول الصدمة النفسية انفصالا بين الأجساد والكلمات عند نقل خبرات الماضي. علاوة على هذا فعند إدراج حكايات الصدمات الجماعية داخل الخطاب الرسمى؛ فقد تعزز رسائل معيارية للمصالحة مع ماجرى؛ رسائل من شأنها أن تحجب النماذج والميول الأخرى للتجربة المجسدة؛ والتي تساهم فى تشكيل السجالات المحيطة بسياسات الذاكرة.
ويؤكد "هايدن وايت" أن الحكايات التاريخية تكون ضرورية عندما تصير أحداث الماضي موضوع خلاف؛ هنا تفتح أحداث الماضي المتنازع عليها المجال لظهور العديد من الحكايات المتنافسة لرسم مخطط للذاكرة يتسم بالتعقيد؛ ليصبح فضاء الذاكرة فضاء صراع سياسي؛ مع ملاحظة أن لكل ذاكرة نسيانها الخاص المتعمد. فكل من الساسة والفنانين ورجال الدين يتصرفون بوصفهم عملاء للذاكرة أو متعهدين لها؛ إذ يدافعون عن حكاياتهم المتباينة للماضي؛ ويساهمون فى خلق مناخ مشحون للذاكرة.
وقد أكد وايت أن ثمة دافعا أخلاقيا ووعظيا ملازما لطبيعة تلك الحكايات؛وقد أثر تأكيده هذا على الدراسات التي أجريت حول دور الحكاية فى أعقاب وقوع فواجع جماعية. فقد تقصى "جوزيف سلوتر " العلاقة بين حقوق الإنسان وبين شكل الحكاية التى تروي النمو النفسي والأخلاقي للشخصية الرئيسية؛ وهو ما يعكس خيالية الحكاية ذاتها.
وكذلك يشير "الان فيلدمان " إلى أن هناك تقسيما زمنيا له طابع أخلاقي وتوجيهي متضمن فى تصوير أحداث العنف بعد انقضائها؛ ويحترز فيلدمان من التلاعب المؤسسي بحكايات بعد العنف بهدف تحقيق أبعاد تطهيرية وعلاجية تحجب عنف الحكاية وعدم إعلان قرار نهائي بشأنها.
تعيق فنون الأداء سيادة الشكل الحكائي بتوريطها الأجساد فى التجسيد الواعي لسيناريوهات الذاكرة؛ وهي بذلك تعبد سبلا للمعرفة؛ فلطاقة التحويلية في فنون الأداء أهمية مركزية؛ والشخصيات تحاول مقاومة الأدوار المفروضة عليها والمرسومة سلفا؛ ساعية للتحرر منها. فمن خلال إقتباسات بنيوية وإحالات تناص وإشارات إلى اخفاق الإتحاد والتآلف؛ يتم خلق توتر ما بين اللغة اللفظية واللغة غير اللفظية؛ بما يكشف التناقض الأساس بين اللغة والتجربة". انتهى الاقتباس.
في جدول بريخت كان أرسطو يشدد على ضرورة تماهي الفنان في الشخصية و لدى بريخت فإن على الفنان الابتعاد عن التماهي. وبعيدا عن رأي أرسطو و بريخت يمكن أن نؤكد على أن الجوهر في المسرح هو التفاعل و المشاركة بأنواعها الثلاثة وجدانية و حركية و إدراكية و نعزز ذلك بخصائص الحكاية التي تتطلب التداعيات لإحداث التفاعل و المشاركة لدى المتلقي بل و التأثير الذي قد يستمر لديه لأوقات طويلة و يحثه كدافع خارجي لفعل أشياء كثيرة و هذه كلها سمات عصرية و حيوية؛ ومن الأمثلة الحيوية في منطقتنا العربية توجهات مسرح الجلسة الذي أسسه الفنان العربي غنام غنام ومسرحياته التي يقدمها على النسق ذاته مثل مسرحية سأموت في المنفى ومسرحيته بأم عيني ١٩٤٨ والتي تعرض قريبا وكذلك مدرسة الفنان والمخرج والحكاء الماهر أ. د. جمال ياقوت، وعروضه الحكائية ومسرح بلا إنتاج الذي أثث له وأسسه، وغيرهم أيضا العديد من النماذج..
وقد كانت العرب قديماً، تسمي الشيخ الكبير بالشيخ الكنتي ( مِن كنتُ ) لأنه يحكي قصصه، يحكي كثيرا، يحكي أكثر من الذي لا يجد ما يحكي لأنه لا يزال في دوامة الأحداث . و يحكي أكثر ليعيد بناء هوية قوامها صنع الحدث، لكنها اليوم بعيدة عن تلك الفاعلية، هي، بعبارة محددة، مهددة بالفناء و تريد البقاء و ( الوجود ).
وفي بعض قبائل أفريقيا يوجد تقليد يسمونه “تقليد أكين” و الأكين هو الذاكرة التي تحفظ و تحكي حكايات القبيلة و عندما يشعر بأنه سيموت يختار أكيناً آخر و يخبره بكل أسرار القبيلة و حكاياتها و هكذا تحفظ القبيلة أمجادها و انتصاراتها..
إن الفرد مثل الجماعة يحكي ليجدد هويته، وليستبصرها عميقا، وليمدها بمعرفة تبدو – وهماً – معروفة من قبل لكنها تغدو معروفة- حقاً- عبر التشفير الرمزي ؛ أي تحويلها إلى أشكال رمزية كما يرى السيميائي كاسيرر. وبذلك تنتقل من هلام مفكك يتمدد في الوعي واللاوعي إلى صور محددة في الإدراك المتعيّن باللغة.
تمارس الذوات المفردة حكاياتها لتعلن عن وجودها ( أنا أحكي إذن أنا موجود) ، فوجودها بدون الحكي يعني الوجود غير المبين. اللغة داخل خطاب السرد هي من يهبنا صورةً بنيوية، و إلا فنحن حكايات مشتتة ؛ حكايات لا هوية لها ، ولا تأخذ هويتها إلا بالسرد.
هكذا يرتبط الحكي بالجماعة كما يرتبط بالفرد. أيّ جماعة تحكي لتشكل هويتها، تحكي لتكون، وفي عوالم أقطاب الدراسات الثقافية فإن الحكي هو الأمة The Narration Is The Nation، و كل حكي يشمل ” مجموعة قصص وصور ومشاهد وسيناريوهات وحوادث تاريخية ورموز وطقوس قومية ترمز إلى أو تمثل التجارب المشتركة والمآسي والانتصارات والويلات التي تضفي على الأمة معنى. و إذا كان الأمر كذلك ، فالأمة تحكي لتعيد تشكيل ذاتها ؛ لترسم معالم هويتها ؛ لماذا يحكي السود رحلة العذاب والعبودية بين أفريقيا والعالم الجديد ؟ ولماذا يحكي اليهود الشتات ؟ ولماذا يحكي العرب سيرة أجدادهم في هذا الزمن بالذات ؟.
السؤال: لماذا نحكي ؟
الإجابة على هذا السؤال تقول أن هناك
أسئلة لا يجاب عنها إلا بأسئلة أخرى وللإجابة عليه نتسائل:
لماذا الحب؟ لماذا الإنسانية؟ لماذا المجتمع؟ و لماذا تنتظم الأكوان و تتحرك و تسير إلى غاية؟
هنا يحين الجواب:
إن طلب التجمع أصيل في أعماق كل موجود، فهو عنوان على الوحدة، و على وجود المتنوع من أبناء الأسرة الواحدة، و على رجوع الذرية إلى أمها الكبرى ” الأرض”..
ذلك فيما يخص الحكاية أما نظرية الصدمة فيمكن التعليق على ما جاء حولها في مقال الدكتور سامح مهران بالقول:
إذا كان فرويد قد ذهب نحو العلاج بالحكاية فنظيره غوستاف كارل يونغ يقدم طريقة أخرى في التعاطي معها ويفتح أبوابا أخرى للعلوم والفنون، إذ يقول: إن الفرد الذي يتعرض لصدمة قد يفقد توازنه لفترة ما، ثم قد يستجيب لها بنوعين من الإستجابة: الأولى النكوص إلى الماضي لاستعادته والثانية، تقبل هذه الصدمة والإعتراف بها ثم محاولة التغلب عليها، فيكون في هذه الحالة انبساطيا. فالحالة الأولى تعتبر استجابة سلبية، والثانية إيجابية بالنسبة لعلم النفس.
من هذه الحيثيات انطلق المؤرخ وعالم الاجتماع البريطاني آرنولد توينبي في نظريته الشهيرة "التحدي والاستجابة" ويعترف باستلهامه لها من تفسير جوستاف يونغ. وقد أفادت نظرية توينبي في التفسير الذي قدمه، بناء على معطياتها، لنشوء الحضارات؛ فيقول إن المجتمعات البدائية لدى مواجهتها تحديات بيئية أو بشرية معينة فإنها تستجيب إستجابات مختلفة، أي إنها تواجه ذلك الحافز بردود فعل تختلف من جماعة إلى أخرى، بعضها سلبية وبعضها إيجابية.
وعلى ضوء نظرية التحدي والاستجابة التي يمكن مقاربتها مع نظريات علم الأحياء التطوري ونظريات علم الإدارة والتسويق وكذلك مخرجات عصر المعرفة وعلومه، وكذلك ما تفرضه التحولات الفنية والثقافية وكذلك التكنولوجيا على الصناعات الفنية بما فيها المسرحية سنجد هنالك ثلاثة مستويات من التحديات سيكون لزاما على المشتغل بالصناعة المسرحية الاستجابة لها بالضرورة تلبية لدواعي العصر ومتغيراته، تلك التحديات هي: الأول "إعادة التموقع" في خارطة الصناعة المسرحية؛ والثاني: إعادة الضبط، والثالث: التأقلم والتكيف. وبغض النظر عن شكل القالب الذي يمكن التعاطي معه لمواجهة صدمة التحول وبغض النظر عماذا يمكن أن تكون ماهيته حكائيا تفاعليا أو غير ذلك لإن ما يجب التركيز عليه بجدية هو تلك الرؤية التي يطرحها علم الأحياء التطوري حول مسألة التحدي وطريقة الاستجابة لها وهي أنه عندما تواجه الكائنات تغيرا في بيئتها فهي أمام ثلاثة خيارات: الأول هو الهجرة من بيئتها إلى موئل بيئي جديد والثاني: هو التأقلم والتكيف مع المتغيرات الحاصلة في بيئتها ويحدث ذلك نتيجة تغير جيني "كاصطفاء طبيعي"؛ والثالث: الإنقراض. وهذا ما يجب أن يدركه كل مشتغل بصناعة فنية وكل ذي مهنة أو حرفة لمواجهة صدمة الأتمتة حيث يمكن أن تحل محلها الآلات.
وبالعودة إلى موضوع التعافي بالحكاية لنجد أنه سيكون لزاما علينا الذهاب إلى المستقبل في هذه المرة ومحاولة سرده وتذكره لاستيعابه للتعافي من صدمته بدلا من الذهاب إلى الماضي وحكيه للتعافي من صدماته كما يصف فرويد. أي أننا أمام صدمة قادمة من المستقبل وليس من الماضي وهنا لابد ان تختلف أدوات وشكل التعاطي معها.
بلا شك ستظل الحكاية دائما ثابتة وراسخة وتمثل مكونا أصيلا من مكونات الحضارة الإنسانية.. لكن لابد من التأثيث للحكاية التي نريد روايتها عن المستقبل للتعافي من صدمته وربما يلزمنا استخدام الخيال لإنقاذ أنفسنا به كما عبر دانتي أليجيري لكن بالمقابل لابد من الحديث عن المستويات الثلاثة للتحديات التي ذكرتها آنفا وآلية الاستجابة لها للتخفيف من وطأة "صدمة الأتمتة" القادمة من المستقبل..