ظل فن السينما دائماً هو المعبر الأبرز عن طموح الإنسان في اقتناص الحلم و دمجه بالواقع، في ممارسة السحر الحلال لفك غموض الكون وفتح بوابات الروح على مصراعيها، في اللعب بين الوعي واللاوعي ..باختصار، في مراقبة ذاته والتلصص على نفسه في مرآة تلون عيونه بالبهجة و المتعة..و ظلت السينما في مصر واحدة من أهم مكونات الوجدان المصري من ساعة أن هَلَّ وأنار هذا الفن حياة المصريين متزامناً مع بداياته العالمية.. وبما أن السينما جزء حي وصادق في الذاكرة الجمعية المصرية، كان من الطبيعي أن تتأثر بكل ما يعتري الواقع المصري من تحولات حادة أو طفيفة، فإذا حدث ارتباك سياسي أو مجتمعي ما، يخفت صوت السينما، لكنها تكون في حال يشبه الظل الرابض إلى جوار حائط، كي يختزن ويحلل ثم بعد أن يمضي الوقت المخاتل، يفرش هذا الظل الحي كله.. لهذا تبقى مقولة تراجع صناعة السينما في مصر دائماً مقولة غير دقيقة، حيث أننا في الفترة الأخيرة مثلاً، ونتيجة للتطور المهول في الإمكانات التقنية، ونتيجة لاكتساح وسائل التواصل الفضاء بما أتاحته ورسخته من قيم الحرية والجرأة، أصبحنا نتقابل مع أفلام نُفذت بإنتاج ضخم جداً واستخدمَ صانعوها وسائل تكنولوجية خلقت الإبهار مع المشاهدين وجعلتهم في حالة مقارنة مع السينما العالمية، هذا مع مقاربة موضوعات كانت شائكة ومحرمة من قبل.. لقد كانت هناك سينما تعني بالمضمون طول الوقت، جنباً إلى جنب مع الأفلام التجارية التي تكتسح دور العرض السينمائي ثم المجال السينمائي كله لكن الجديد هو بعض التداخل الذي يفرض إعادة النظر والنقاشات حول كل عمل على حدة..
و كما لا يمكن إنفاذ مقولة تراجع أو انهيار أو موت السينما المصرية، لا يمكن كذلك الموافقة على استمرار فكرة صدارة السينما المصرية للسينما العربية كما كان يمكن القول بأريحية من قبل، وذلك لصعود وتميز صناعة السينما في البلدان العربية الأخرى وخاصة المرتبطة بتجارب السينما المستقلة حيث استمتعنا بالإنتاج السينمائي المبهر لأصحاب التجارب الطليعية في بلاد المغرب العربي الثلاثة ولبنان بالإضافة إلى الصعود العظيم للسينما الإيرانية وتميز التجارب الإفريقية لتختلف بالتالي مسألة قيادة السينما المصرية لمنطقة الشرق الأوسط اختلافاً جذرياً عن السابق..
لقد وصل الكثير من الأفلام المصرية القديمة والحديثة للعالمية، بالطبع مع مثيلاتها العربية، نتيجة لاستثمارها الشرط الفني الإنساني العالمي وهو مناقشة قضايا الإنسان في كل مكان أو طرح الأسئلة الخالدة في كل مكان وزمان أو تميز الإخراج واتساع رؤيته الإبداعية أو حتى للجودة التقنية لكن أظن أن الأفلام التي قد تصل للعالمية بالأساس تكون هي التي تنتمي لواقعنا الضيق البسيط بشكل عميق وحقيقي، فلا يحتاج الغرب لما يعرفه وإنما دائماً يبحث عما هو مجهول بالنسبة إليه ولكن بشرط الصدق وعدم الافتعال..
يظل الإنتاج هو أبرز العقبات التي تقف حائلاً دون تقديم سينما جيدة ترضي طموحات الفنانين المؤمنين بأهمية السينما كوسيط إبداعي عظيم و الذين يسعون للتعبير عن رؤاهم وتطلعاتهم وأحلامهم عن طريق هذا الفن.. بعد ذلك تظهر الرقابة الفوقية من الدولة، وكذلك الرقابة المجتمعية في حالة أن يكون الفكر المهيمن على المجتمع محافظاً تقليدياً، وهي الأمور التي تتعاضد لخنق صناعة السينما لكن في كل أزمنة الضعف تبقى المبادرات الفردية الشجاعة كبصيص النور الذي يشد غيره لتدخل الشمس رغماً عن هيمنة الظلام..
أظن أن هناك دائماً أملاً فيما يخص صناعة السينما في مصر ويرجع ذلك بالأساس لطبيعة فن السينما ذاته وهو الفن الذي يواكب كل جديد وكذلك لكون هذا الفن متغلغل في وجدان المصريين طوال أكثر من قرن من الزمان، لهذا فقد ظهرت مهرجانات للأفلام التسجيلية وللأفلام القصيرة وسينما الموبايل مثلاً، بشكل أوسع من السابق، بما يجعلها في حالة تجاور مع الأفلام ذات الإنتاج الضخم أو الأفلام التي تعني بالمضمون أو حتى الأفلام التجارية.. كل المطلوب دائماً هو صنع حالة الحراك السينمائي وفتح الأبواب على مصراعيها أمام الإبداع بلا قيود أو محاذير.. وعندما يكون الواقع السينمائي مزدهراً يسهل الفرز والانتخاب وبهذا تستمر و تظل متعة السينما من أولويات المواطن المصري