بقلم : محمد سمير عبد السلام
تزول " الحواجز التكوينية " بين حساسية الموسيقى المجردة ، وصخب أمواج البحر ، والإحساس بوجود " الذات " فى العالم ، فى مجموعة " البغدادية " للكاتب الأستاذ " سعيد الكفراوي " ، فدائماً ما يبحر الوعي المبدع للسارد فى تأويل الأحداث والظواهر والشخوص ، وفق سرد موسيقي ، لا غاية له ، سوى القدرة على تحويل مدلولات الجسد والواقع ، إلى علامات تشكيلية للصورة تتجاوز الإحساس بالدهشة ، أو الرغبة فى المعرفة خارج مجال الظواهر ، فالوعي ليس منفصلاً عن فضاءات المتاهة المكانية للموت أو أصوات فرجينيا وولف اللاواعية ، إذ يحمل الجسد فى ذاكرته هذه الآثار كبديل للمعرفة وأسلوب حضاري للحياة في البنية الأسطورية للواقع نفسه .
إن السرد عند الكفراوى يحيل إلى حركة الأثر أو الصورة في ديناميكيتها ،و لا يشير إلى الأثر نفسه ، تلك الحركة المنتجة لذاكرة أخرى يختلف فيها تتابع الإيحاءات والانفعالات طبقاً لموقع القارئ فى مجال التناثر التصويري للأشياء والظواهر والنصوص في كون واحد محتمل . فى نص ( ما لا يليق بقاتل أجير ) يؤسس السارد لخطاب ، يبدأ من حقيقة فعل القتل فى عقل البطل ، عندما يرى رجلاً له رقبة جمل يقتاد أباه ويقتله ، ثم نكتشف أن هذا الخطاب يدور فى حلقة دموية عنيفة لا تهدأ فى فصول المسرح السردي . لا شئ فى الفراغ سوى تلك الحلقة التى تعبث وتتراقص ، كأنها خارجة عن مركزية إرادة السارد ، لتصير تأويلاً إيحائياً لخطاب الحقيقة والانتقام من قاتل الأب فى ( النص ) .
لم يبق إذا – من المركز سوى مراقبة حركة الدماء ، وتنفيذها بواسطة ( جسد البطل ) حين يغرق القتلة فى الدم والماء ويظل عشرين عاماً يعمل كقاتل أجير . هل يحمل الماء نبوءة تكرار الأب فى اللاوعي ؟ فيعيد البطل تمثيل الصورة ، ينفذها كأنما تتطاول من كتفيه رقبة ذلك الرجل / الجمل ؟ أم أنها سخرية من الوجود ورغبة فى الاختفاء من هيمنة الإرادة ، ومن ثم الانتحار ؟ يؤكد هذا التصور دوائر الدم على جسده من جراء رصاصات القتلة..... ومن متاهة المعابر الفرعونية ، والذاكرة الجمعية للطفولة يبرز القط أمام ( البطل ) فى نص ( القط والعصفور ) ، فى وقت يرغب الرجل فى الجماع لإنجاب طفل ، فيتحول مساره إلى سياق القط وآثاره ومؤولاته ، إذ يشعر البطل أنه يعبر جسراً تحته الماء يصخب مندفعاً ، لقد استدعى القط (الماء) كمادة حية للجسد تندفع فيستبدل بعضها بعضاً مثل تكرار صورة القط وتهديده للإرادة أو التحول إلى لون فى لوحة المستحمات لجوجان ... لقد صار المكان قاعة عرض يخرجها القط وينفصل فيها السارد عن وجوهه الأخرى ، وعندما ينجح فى قتل القط يجتاز الممرات غير خائف فى حركة تعيد تمثيل اللوحات والأساطير المتناثرة ، عقب استعادة البطل للإرادة التى غرقت فى حضور القط ، ولكن تلك الحركة تحمل عند المتلقي مدلولاً كامناً يحاكى فيه السارد طقس العبور إلى متاهة السيد / القط المقدسة ، دون جدوى فى امتلاك الذات الأولى السابقة على حضوره.
وفى سياق حضاري جديد ومختلف يظهر بهلول مجذوب أمام السارد فى طريق الجبانة عقب وفاة صديقه ( مصطفى أبو النصر ) وينذر المجذوب بأن يوم القيامة حاضر فى نص ( مشهد من ظهيرة القيامة ) ، بينما يحمل فى تكوينه أمواجاً إيحائية من رسوم ما قبل التاريخ وعظام شائهة وعروس ملونة وشمروخ له رأس نحاسي على هيئة ابن آوى . هذا التشكيل الانفعالي يفجر الزمن فى وعى ولا وعى البطل ، كمواجهة حضارية غير واعية للموت . الذات هنا تقاوم منحنى الزمن فى صورة ضد – تعاقبية تقع فى هذا البهلول ، والبنية الأسطورية للعمائر فى شارع رمسيس كأنها رؤوس جنيات . هل يصير الجسد فراغاً حياً كأثر مؤول للموت ... هل كان عمود الغبار فى خلاء الشارع مجازاً لتفتيت الحضور الآني ، كاستجابة انفعالية / موسيقية صاخبة لرتابة الموت ؟ . هكذا امتزج موت ( عبد الفتاح ) فى نص ( ملكوت الظل ) بقداسة الفراغ ، ومتاهات الموت الأسطورية فى ممرات المستشفى ، ليطرح السارد تأويلاً حضارياً آخر للموت يتجاوز الممكنات المعرفية العقلية ، من حيث قبول المتناقضات وديمومة التحول التى تحاكى موسيقى ( يوهان باخ ) . فقد رأى ( عبد الفتاح ) أباه قبل الموت يعبر البحيرة رغم أنها مكسوة بالجليد مصاحباً من كتب عنهم فى قصصه . لقد صارت الذات لوناً أو صوتاً ، أو شبحاً ، يحاكى مجازات الأدب من خلال الموت كمعبر ثقافي لتحول موسيقى دائم فى مسألة الهوية والوجود وتجمع شخصية ( الخضرا ) بين الأضداد الدلالية فى ( نص ) ( الخضرا أم الحلبى ) ، فقد تولدت رائحة الخصوبة المقدسة فيها من مشهد أكل النار لولديها . إن الخضرا إذ تلتحم بالبطل وتبعث فيه وابنه الباكى الحياة ، تعيد تكرار الحلبي وذكرى الموت ، فهى تمنح الحياة من أطراف النيران وقدرتها على توليد روائح المياه واللبن فى الصورة المكررة للحلبي .
وتعشق السيدة ( نيرمين ) العراقية ( بول فاليرى ) في نص ( البغدادية ) ، وفى هذا إشارة إلى اقترانها بلعب الدوال والأصوات مزدوجاً بمحاولة يائسة لتكوين معنى للوجود . كتب ( فاليرى ) فى Tel Quel أن القصيدة تتردد بين الاعتقاد بالوصف الصحيح ، بخلق الأشياء بالكلمات والتلاعب الحر بالألفاظ ، لإنتاج معرفة متشظية ، كما يقر بذلك دارسوه ( راجع / إيمانويل فريس / قضايا أدبية عامة / ت / لطيف زيوتنى / عالم المعرفة 2004 م ) هكذا تفشل نرمين ومعها السارد فى الإحالة إلى مدلول يحدد هويتها ، فقد ماتت عقب معاناة الطرد ومشاهد البؤس والتشيؤ فى أمريكا ، بينما تلح على السارد صورة تمساح يلتهم عجلة صغيرة وتنفجر الدماء فى المياه ، لإحياء ضياع الهوية ، وبقاء الصورة المؤولة كصوت انفعالي متكرر ، يسلم السارد إلى تناثر أشكال كاوبوى عجوز وبنوك الرهن والأناشيد الأصولية الزاعقة ، وأفخاذ بشرية تؤكل فيفقد مدلوله الأول ، ولا يقاوم إغراء 0 بول فاليرى ) رغم دفن ( البغدادية فى القرية ) ، ويتوتر ( خطاب السارد ) فى نص ( ساعات فرجينيا الأخيرة ) بين تحديد إحساس ( فرجينيا ) بالجنون ، والإغراق الموسيقى فى ممارسة الفعل التصويري المقاوم للخطاب المعرفى الخارج عن نطاق سيولة الوعي المبدع ، المنتج لتلك الأصوات فى وعى ولا وعى فرجينيا ، فقد يدفعها موت الطائر وتقطيع اللحوم إلى تأجيل مفهوم الحياة إلى ما بعد معبر الموت ، كأنهما شئ واحد . إن فرجينيا التى تسند رأسها على الشجرة وتستسلم للأصوات ، تحرك فى المتلقي وجوداً آخر للرأس نفسه ، وانتشاراً لا نهائياً لتلك الأصوات فى أبطال النصوص الأدبية ، فقد استعاد ( إدوارد أولبى ) أشباحها فى خلق طفل من تداعيات حوار بين زوج وزوجته .
أما الكفراوى فيكتب بموسيقى ( باخ ) وأبطال ( فرجينيا ً) شخصياته كمؤولات سردية فى حركة ( أمواج ) لا تنتهى فالقط فى نص ( القط والعصفور ) يستعيد قطاً بلا ذيل رأته فرجينيا فأدركت أنه رمية صائبة للاوعي ، أما السمكة الصغيرة على سنارة الصياد فتتقافز ، كلجة من الأفكار ، تذكرك بدائرة الدماء فى نص ( ما لا يليق بقاتل أجير ) – ( ذكرت فرجينيا وولف ما سبق من صور فى ( غرفة تخص المرء وحده / ت / سمية رمضان / المجلس الأعلى للثقافة / مصر 99 ) . وتصل ذكرى فرجينيا إلى ذروتها فى نص ( مدينة الموت الجميل ) فى مجموعة الكفراوي ( كشك الموسيقى 2003 ) إذ تسعى عناصر اللوحة ( المرأة والنورس والبحر والفتاة ) إلى اكتمال موسيقى / سردي فتخرج المرأة التى تبحث عن الفتاة التى صاحبت البحر من اللوحة وتحور جسد السارد ووجوده إلى ( مدينة ) الفن أو الموت الجميل ، مثلما يقترن تشكيل عذراء مستحمة بـ ( فرقة كشك الموسيقى ) الفقيرة فى حديقة أتت من عوالم الوعي وأصوات فرجينيا الغائبة حيث يكون الاختفاء لمراقبة السرد الموسيقي هو شرط المعاينة .