ليلي الراعي
يبدو هنا الروائي سعيد الكفراوي متعاطفا مع الجيل الجديد من الكتاب والمبدعين.. فهو يلتمس لهم العذر ويتفهم صعوبة الظرف العام الذي يفرض نفسه علي الساحة.
هناك فارق كبير بين جيل الستينات والسبعينات وجيل هذه الأيام.. ولكن في كل الأحوال تبقي الأعمال الجيدة وتفرض نفسها الموهبة الحقيقية أيا كانت الظروف والأزمنة هذا ما أكده في حواره معنا.. يقول لنا:
اخر ماقرأته الأعمال الكاملة لانطون تشيكوف الصادرة عن دار الشروق بترجمة د.أبو بكر يوسف.. علاقتي بأدب تشيكوف علاقة قديمة قائمة علي المودة والاختيار الحسن.. بدأت مع أول الاهتمام بالتكوين الثقافي والانشغال بأول الاسئلة, ومن ثم تحديد الاختيارات التي في النهاية تفرض وجودها علي الكائن وتحول بالضرورة حياته حيث قدر لها أن تكون.
اختيار أول العمر في الفن يحدد النهاية حتي مشهدها الأخير.
كان لهذا الروسي البديع الذي همس في أذن أخته قبل رحيله عن العالم بوصية كتبها:( ساعدي الفقراء, واعتني بالأم, وعيشي في سلام) ذلك الروح الأمين الذي مس سحره كل أرواح من اقتربوا من عالمه الباهر ومن كتبوا أدبا عن الإنسان وأحوال الإنسان.
كان يوسف إدريس عليه رحمة الله قبسا من نور أنطون تشيكوف, وكان شرط الإبداع عند يوسف إدريس وداخل بنية عمله الفني بل وفي الكثير من سياقاته في القصة والمسرحية والرواية هو مانبهه له هذا الروسي العظيم: الاقتراب من روح المصريين واكتشاف المناطق الغاضمة من أحلامهم وتقديم الشخصية المصرية عبر بناء وشكل ولغة تقود إلي الفهم والتعاطف.. عبر تأمل ومحاولة فهم الأدب والأدباء وما أنجزوه باعتبار أن الأدب إعادة لاكتشاف الواقع وسعيا للاسهام في تغييره.
كان لانطون تشيكوف حضورا إبداعيا فاعلا حيث أدرك هؤلاء ماقدمته تجربة هذا الأديب في الفن والحياة. كان تشيكوف دائما يردد أن طفولته كانت خالية من العطف حتي انه كان ينظر لذلك العطف باعتباره حالة لم تقترب منه.. وكان يحمل في قلبه دائما نوعا من الشجن, ويظل يردد أنه أمضي حياته يستقطر من عروقه دم العبودية بسبب أن جده كان من الرقيق.
ذلك الروح الطيب هو من أبدع أجمل القصص.. تلك القصص التي مست قلوبنا ونورت أمامنا الطريق.
هو من قدم تلك العوالم التي انحازت للفئات المغمورة: الفلاحون, العمال, الممرضات وخادمات البيوت والجند والمصورون.. كل هؤلاء الأشخاص الذين بلا بطولة, وكانت قصصه تنهض علي الحفاوة بتلك الجماعات التي كانت أسري للنسيان ولايتذكرها أحدهم.
عندما جاء تشيكوف ليكتب نصه كانت رؤيته تختلف تماما عما هو موجود بالساحة.
سعي دائما لأن يكتب عن الألم وكان تولوستوي العظيم يصفه قائلا: إن تشيكوف هو بوشكين في النثر وكان يضيف قائلا: بفضل صدقه صاغ تشيكوف أشكال كتابة جديدة كل الجدة بالنسبة للعالم.
نقرأ الكاتب اليوم ونحن في آخر العمر وقد تجاوزنا الزمن, وحين انتهيت من قراءة قصص هذا المبدع العظيم تذكرت قراءتي له وأنا صبي ثم وأنا شاب والآن في آخر أيام العمر لأقف علي عتبة ذلك البناء الذي احتفي بالانسان وألمه وواجه عبر قصصه العبودية والزيف والسوقية.
نقرأ أربعة مجلدات صدرت أخيرا: مجلد للقصص.. مجلد للروايات القصيرة.. مجلد للروايات.. مجلد للمسرحيات.
عالم زاخر من المواقف رصده انطون بابلوفيتش تشيكوف الذي كتب من أجل الإنسان وحملت قصصه كل المعاني النبيلة التي خطها هذا الروسي الذي عاش عمره بأكمله يقيم قيم العدل والحق والجمال.
* الانتماء الذي عشناه وحربنا من أجله في سنوات الستينات والسبعينات يختلف عن انتماء هذه الأيام.. حينها كنا مهتمين بالقضايا الكبري القومية, قضايا الدور المصري فنحن أبناء الثورة, لكننا كنا أيضا المعارضين للثورة, وبالتالي جاءت الكتابة في هذا الزمن لتعبر عن أحوال الوطن, وتعكس سعينا لمساعدة هذا الوطن للانتقال من حالة الضرورة إلي أفق من الحرية.. لقد تنبأ جيلنا بما جري في يونيو1967 هناك أعمال أدبية عديدة استشرفت ماجري نذكر منها: البكاء بين يدي زرقاء اليمامة لأمل دنقل, والنهر يلبس الأقنعة لعفيفي مطر, وحادث النصف متر لصبري موسي وصوت من الطابق الثالث لمحمد البساطي ورواية تلك الرائحة لصنع الله إبراهيم كلها أعمال كانت تشير إلي أن ثمة حدثا هائلا سوف يقع.
شباب هذه الأيام لاتشغله كثيرا تلك القضايا الكبري.. فهو مهموم بمشاكله الخاصة( توفير سكن ـ الزواج ـ متطلبات الأسرة.. الخ) لذلك فهو لايحتفي بتلك القضايا التي كان جيلنا مشغولا بها( حرية الوطن ـ الانتماء.. القومية العربية) نحن أيضا عشنا المصادرة والرقابة وكان هناك دافع للمقاومة.. هناك بالتأكيد فارق في الظرف العام. تعكس الكتابة الروائية اليوم المتغيرات العديدة التي تشهدها بلادنا.. فهي توصف أحوال اللحظة الابداعية الراهنة في مصر.
وأنا أقف الي جوار الجيد منها.. هناك أعمال متميزة للعديد من الكتاب مثل حمدي أبو جليل ميرال الطحاوي, حمدي الجزار, هناء عطية وغيرهم..
* من خلال قراءاتي لاعمال ابداعية جديدة اري أن ثمة اختلافا في النص الروائي عن جيل الستينات والسبعينات.. والاختلاف هنا ضروري بسبب المتغير الذي جري في حياتنا..
لقد تربينا علي الكتابة بالقلم والورقة اما هذا الجيل فهو محاصر مابين الصورة والكمبيوتر والوسائط التكنولوجية الحديثة وهذا يبدو واضحا في أعماله الابداعية.. الساحة الآن تزدحم بالأصوات.. منها الجيد ومنها الرديء علي مستوي القصة والرواية وقصيدة الشعر..
وهذا مايحدث مع كل الأجيال.. إذ تأتي التصفية الحقيقية ليبقي من هو قادر علي البقاء والعطاء وغير القادر يختفي..
كنا أربعين كاتبا نلتف حول نجيب محفوظ في مقهي ريش وانتهي الأمر بعدد محدود واصل المشوار الابداعي.. وهم أصحاب الموهبة الحقيقية والخيال الابداعي الخصب.. فالكتابة الجيدة برأيي تتفاعل وتتواصل جيلا بعد جيل.. ومانقرأه اليوم من بعض الكتابات يبعث علي الفرح ويطمئننا علي أحوالنا الابداعية في مصر حتي إن بدا مختلفا في الصياغة والمتن..
* المناخ العام الذي يعيشه هذا الجيل مناخ سلبي.. يحتفي بالتسلية والاهتمامات السطحية تتصدره ثقافة الكورة والسينما الهابطة والمسلسلات العقيمة.. فهو معذور.. يحارب ضد التيار.. ويخوض معارك عاتية من أجل أن يقدم عملا جيدا يفرض نفسه علي ساحة تسودها ثقافة ضعيفة وسطحية وخاوية..
وتندهش بالرغم من الأحوال التي تعيشها الثقافة المصرية أنها تعطيك كل عام أكثر من30 رواية وأكثر من15 ديوان شعر وأكثر من عشر مجموعات قصصية نصفها جيد ومعبر ويعول الحاضر الي مستقبل نأمل نحن أن يكون مبشرا او علي أقل تقدير مفتوحا علي الاحتمالات.. نأمل هذا
** منشور بصحيفة “الاهرام” 9 ديسمبر 2009