في تلك اللحظة الفاصلة بين الحياه والموت . في هذا النهار المظلم بفعل العصابة. وهذا الشعور بالضياع في ظل وخزات البنادق الآلية. وشعور بالإهانة بعد كل صفعة.بدا له المستقبل معتم مثل عينيه الآن .وأحس بالندم يلسعه مثلما تلسعه آشعة الشمس بدون أن يراها ، لو أنه فقط سمع كلام أبيه عندما حذره من الخروج لما غادر المخيم . ولو أنه سمع كلام صديقه صالح لانطلق معه في سبيل الكفاح .حتى ولو تحول إلى لغم متحرك . أليس الموت في سبيل القضية أفضل من الموت هكذا كالضعفاء على عينيه العصابة ومؤخرة رأسه يدمي من الصفعات في إنتظار المصير الغامض ؟ أي كلب من هؤلاء سيضع أصبعه على الزناد فيقتله هو وباقي من رماهم حظهم التعس أمام دبابات الإحتلال اليوم ،وما التهمة؟لا شئ ، هو نفسه لم يكن يفعل أي شئ سوى التسكع في إنتظار حبيبته هيفاء.. رباه ..هيفاء..فجأه قفزت إلى رأسه فكرة سوداء، هل تكون معهم الآن وهو لا يدري؟ وهل سيسمع صراخها وهي تموت ؟وربما فعلوا بها شئ قبل ذلك...لا...الموت أفضل له من أن يمسها سوء ..هل سيقف عاجزاً هكذا ويسمع أنينها يشق أذنه ويسحق قلبه؟ يجب أن يفعل شيئاً ،ولكن..كيف؟ ويداه مقيدتان ولا يرى سوى الظلام....... أحس بالإرتباك فتباطأت حركته بفعل إنغماسه في التفكير فاصطدم به الشخص الذي يسير خلفه وشعر بأنه دهس قدم شخص آخر على يمينه فصرخ فيه هذا .. ثم ألهبته يد أحد الجنود عل مؤخرة رأسه يأمره بالمسير فانفجر البركان بداخله ، وبدون أن يشعر استدار إلى مصدر الصوت وركله بقوه فأصاب هدفه وسمع صوت الأنين... ساد بعض الهرج وصيحات الغضب وتهليل بعض مواطنيه فوقف مترقباً منتظراً مصيره ثم شعر بقدم ثقيلة تقترب وبلكمة على أنفه ثم ركلة بين فخذيه فنزل على ركبتيه من الألم فركل أحدهم وجهه مثل الكرة فطار جسده كله من شدة الركلة وشعر بالدم ساخناً أسفل أنفه وفوق حاجبه،وشعر بطعمه داخل فمه، ومرت عليه لحظة شعر بأنه يريد أن يبكي فرفع رأسه إلى المكان الذي يظن أن جلاديه فيه وكأنه يسترحمهم لكن الرصاص انهمر عليه فشعر بآلام مبرحة و اكتشف أن العصابة طارت من على عينيه ولكنه لم ير ما توقعه فكل ما هنالك كان صالح صديقه ومعه جمع من الرجال والنساء يرتدون ألوانا زاهية ويبتسمون له مرحبين
**************************
رغم كل شئ الحمد لله أن مروان لم يكن بالمخيم،لولا أنه أصر على مغادرته هذا الصباح لكان معنا الآن ينتظر مصيره ، يا إلهي ...لماذا كتب علينا دائما أن نداس بالأحذية ؟لماذا منذ أن ولدت لم أحس يوماً بمعنى كلمة وطن ؟ والعدالة والكرامة والفرح والأمل أما لنا مصير أن نراهم ولو برهة؟ كان دائماً أملي أن تمضي أيامي بلا إهانة أو جريمة ،كان أملي أن أرى مروان متزوجاً وألعب مع اولاده،يا ولدي..لقد تحملت دوماً الإهانة والصفعات من أجلك ، خلعوا مرة ملابسي وأخذ قائدهم اللوطي يتحسسني ولم أنبس بكلمة لأجل أن أعود إليك حياً ،لم ألتفت لأصحابي وهم يقولون لا حياة بدون كرامة ...قلت لحظتها لا.. تضيع الكرامة ويبقى ولدي سعيداً ، الأعمار بيد الله لكن لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ،ولماذا يذوق مروان اليتم؟ لماذا لا أحيا بجانبه أحميه من نفسه وممن يغرون الشباب بالكفاح؟ ولكن... ولكن كل شئ انتهى، والسير بجانب الحائط أسفر عن نفس النتيجة ..الموت على أيدي هؤلاء الخنازير ..وسيعود مروان إلى المخيم ولن يجد أحداً قط وسيذهب مع صديقه صالح لينتقم، ويفجر نفسه أو يفتح النيران عليهم .
قطعت عليه أفكاره ضجة آتية عن يساره ،فأرهف السمع عسى أن يعرف ماذا حدث لكنه لم يسمع سوى تهليلاً وبعض السباب بالعبرية التي يعرف بعضاً منها ثم صوت رصاص أفزعه رغم تعوده على سماعه من زمن ،ولكن الخبر سار من صف إلى صف بأن أحدهم ركل الجندي فقتلوه، أحس بالحزن لأجل الفتى ،وتمنى لو أنه يعلم من هو ومن أبوه الذي ربما معهم الآن ولا يعلم أأبنه الشهيد أم لا.. ولكن في نفس الوقت شعر ثانية بالطمأنينة لأن مروان خرج من الصباح الباكر وليس معهم الآن وإلا لربما كان مصيره مثل ذلك المسكين، ألا هربت يا مروان إلى بلد آخر لتحيا حياة كريمة؟كنت دوما أبغض أخي سعيد لأنه هرب وهو شاب ونسيني كأنني لست بأخيه ،ثم علمت بعد ذلك أنه يشارك يهودي في ملهى ليلي في فرنسا ،وقتها اتهمته بالخيانة لأنه باعني وارتمى في أحضان عفنة من أجل المال والحياة الناعمة ونسي الوطن فاعتبرته مات ،ليتك يا بني تهرب إلى أي بلد آخر ولا تنسى وطنك ولاتتعفن مثل بقية من سافروا ونسيوا تراب القدس و سماء بيت لحم وعبير الورد في كل مكان على أرضك ياوطن،هربوا وتاجروا بكل شئ حتى الأعراض،من باع وطنه يابني باع روحه فلا تبعه.. فقط اهرب وكن للقضية من بعيد وانس رائحه الدم والإرهاب والبارود،آه يامروان هل تسمعني؟
أفاق على صوت يأمرهم بالتوقف فأحس لأول مره بالعالم من حول و أدرك لأول مره أنه مبتل وأن قدماه ذابا من المشي على الرمال الحارة،سيقتلون بالصحراء إذن...كلها أرض الله، ولكن الأمر صدر إليهم أن ينزلوا على الأرض فبدأ يشعر بالدهشة ..ولكن لا دهشه مع هؤلاء الأوغاد..كله موت ،صدر أمر آخر بالرقود على الأرض ،ما أصعب أن ترقد على رمال الصحراء..ما أصعب أن ترقد على وجهك وأنت مكبل اليدين ..تسقط وجهك في رمال ملتهبة ثم لاتستطيع منع الرمال بيديك من أن تلسع وجهك وتدخل في أنفك وفمك ،أخد يتنفس بصعوبه ويرجو أن يقتلوه لينتهي عذابه,حقاً الموت أيسر من عذاب إنتظاره فمتى ينتهي الأمر؟
سمع فجأه صوت محركات،كان الصوت مألوفاً لديه،يسمعه كل يوم منذ أن تعلم ما معنى كلمة طغيان ، كان صوت دبابة .ولكن لم الدبابة ؟! ألن يقتلوا بالرصاص؟ هل ستقذفهم الدبابة مرة واحدة؟ كان الأسئلة تزدحم برأسه عندما سمع أصوات قادمه من أقصي يساره .كانت أصوات صراخ ،أحس بالشلل وبعقله يكاد يتوقف ،كانت الأصوات تعلو درجتها كلما ازداد اقتراب الدبابة ،ليس هناك إلا معنى واحد ... إنهم يدهسون بالدبابة ... يالشيطان ،لو أن الشيطان يقتلهم لاختار طريقة أرحم بهم ..أخذ كل من حوله يصرخون إذ تبين لهم الأمر فلم يسعه من اضطرابه إلا ان يصرخ معهم ،كان يشعر بالخوف لا من الموت بل من اقترابه البطئ.. يشعر بالعجز من انتظاره هكذا بدون أدنى مقاومة ..الصوت يقترب أكثر وبدأ يشعر بانسحاق عظام قريباً منه ..ولا يدري هل هذا الشعور صحيح ام محض أوهام خلقها ذعره ،كانت عينيه تزداد اتساعاً وتحديقاً رغم العصابة التي عليها ..كان يتمنى أن يرى فربما خف ألمه وأدرك متى يأتي الموت اللعين ،أخذت انفاسه تضطرب وقلبه يكاد يشق ضلوعه وهو يصرخ وهم يصرخون ،كان الصوت أصبح قريباً جداً بل انه بدأ يشعر بسخونة الدبابه فاستطاع بحدسه أن يعلم انها على بعد أشخاص قليلة منه ،إنها تقترب وتقترب ..وداعاً مروان وأراك بعد عمرٍ طويل، إنها على بعد شخص واحد.. سمع عظام بجانبه تتهشم وحشرجة ثم أطبق عليه الكائن الضخم إذ شعر بظل يمنع عنه حر الشمس ثم بلهيب من نوع آخر..
لماذا لا يشعر بالألم ؟.. وما هذه اليد ،وهذه الرائحة كأنه في يافا ..وجد يده حرة ففك العصابة ووجد أمامه مروان ..ابتسم له إبنه واحتضنه.. فاحتضنه وأخذ يضحك ..ثم نظر فوجد جمع كثيف ينظرون إليه سعداء بقدومه وعرف فيهم زملاء المخيم وأصحاب لم يرهم من سنين طويلة
ووجد خلفهم طريقاً طويلا مفروشاً بالورد ومحاطاً بأشجار الفاكهة فعرف سر الرائحة الجميلة
ولكن ما تلك اليد التي شعر بها؟
**************************
سامحني يا مروان ...اغفر لي تأخري عليك ..فأنا على موعد مع الشهادة اليوم ..لم أشأ أن أزعجك برغبتي قي الإنتقام فأنت لا تهتم سوى بأن ترضي أبيك وتبقى بدون كفاح..رغم كل شئ مروان أنا احبك .. ولكن الحب كيف يحيا وسط الدم والشظايا ؟كيف ينمو والجرافات تهدم كل شئ؟ كيف افرح وذكرى أخي غارقاً في دمائه تؤرقني .
مروان ..الحياةليس لها معنى سوى كل معاني القهر والتدني والهوان ، رغم وجود حبك في حياتي .ورغم أني أود أن أحيا بجانبك حتى مماتي ولكني لا أستطيع أن أحيا كل يوم وأعلم انه ربما آخر يوم لي .أعلم أن الأعمار بيد الله ولكن لم أنتظر الموت كالأرانب ؟لم أترك الفرصة لعدوي ليقتلني ؟ لا وألف لا فلأقتله أنا حتى لو مت معه ،نعم يا حبيبي سأحظى بالشهادة وأنتقم من قاتلي أخي ..سأقتلهم حتى لو كان القتلى بلا سلاح ..فنحن نموت كل يوم بدون سبب ..حتى الأطفال لا يرحموهم فلماذا نرحم نحن أطفالهم؟ أليس في كتابهم المقدس أن العين بالعين؟ تلك شريعة الغاب التي خلقوها هم فليتحملوا عواقبها
مروان ..عندما تكون واقفاً في انتظاري أكون أنا في مكان آخر أقدم روحي لوطني ،وعندما يصلك هذا الخطاب أكن أنا عند بارئي ..
مروان ..لا أدري هل أتمنى لك عمر مديد أم أتمنى أن تفعل مثلي..لا أدري هل أقول انسني وابحث عن أخرى أم أقول كن لي وحدي كما كنت لك وحدك. لا أريد أن أكون أنانية وكل ما أستطيع قوله لك هو أحبك ..ولا إله إلا الله .محمد رسول الله
هيفاء
***************
المكان لا نهائي .وما مضى ضئيل وما آت لا يقلق . أنا وأنت.. وكل الأهل والرفاق معنا فماذا نريد أكثر لنشعر بالسعادة؟تلك إذن هي السعادة التي سمعنا عنها دوماً ،سعادة لانهائيه مثل رحمة الله ،كان كل شئ يوحي بالفرح. الجميع في ملابس نورانية عدا هو وهي فكما كان الأمل دوماً في حلة وثوب زفاف فها هي الأحلام تتحقق وأي أحلام سوف تتحقق ،وسيحيا معها كما أرادا للأبد
بدأت الموسيقى السماوية تنبعث والأنوار القادمة من اللامنتهى تلون كل شئ بألوان الطيف ،قاما معا ورقصا على صوت موسيقى الكون وأخذا يتماشيان برشاقة فوق القمر تارة وفوق النجوم تارة والجميع يحيط بهما مصفقين ويرددون أغنية واحدة بلغة سماوية لم يعرفوها من قبل ،وكان الكل مستمتع بالكلمات والكل يمنع نفسه عن الرقص حتى تكون لهما المجرة بأكملها حلبة رقص ولكنهما وقفا وأشارا إليهم فجرى الجميع ضاحكين راقصين على وتيرة واحدة