قرأت منذ عدة أيام ، عن مطالبة بعض جمعيات حقوق الإنسان ، وجمعيات حقوق النساء ، بضرورة إصدار تشريع أو قانون عاجل ، يعتبر " التحرش الجنسى " بالمرأة ، بمثابة جريمة " هتك االعرض " ، وأن تكون العقوبة أغلظ وأشد ما يمكن .
وقرأت أيضاً ، رأى بعض الشخصيات العامة فى مجالات الإعلام ، والاجتماع ، وعلم النفس ، والثقافة فى قضية " التحرش الجنسى " بالمرأة . والتى يؤكدون وفقاً للدراسات ، والبحوث الميدانية ، وبناء على متابعة مستمرة لصفحة الحوادث فى المجلات والجرائد ، أنها أصبحت " ظاهرة " ، وتحتاج التدخل السريع ، بالقانون .
يقولون أن " التحرش الجنسى " بالمرأة ، أصبح نمطاً شائعاً فى السلوك اليومى . فى الشوارع ، فى وسائل المواصلات ، فى أماكن العمل ، فى المصالح الحكومية ، التى ترتادها النساء لقضاء مصالحهن ، وكذلك فى البيت .
هناك أنواع مألوفة مستترة من "التحرش الجنسى " بالمرأة والأطفال الإناث ، تتم من قبل ذكور العائلة ، والذكور ، الأقارب . والبعض تكلم عن التحرش بالنساء من جانب الأزواج .
وهى أنواع أكثر صعوبة من التعقب ، والمتابعة ، وبالتالى للرصد . لأن المرأة ، فى ثقافتنا تخاف من مجرد التلميح عنها ، إما تجنباً للإيذاء من الذكور المعتدين ، أو ستراً للفضيحة ، أو لشعورها بالخجل ، والذنب ، والعار.
والجميع ، يتفقون على وصف مجتمعنا ، نتيجة هذه الظاهرة ، بالانحدار الأخلاقى المزرى ، غير المسبوق وبانهيار فى القيم ، فاق كل معدل مألوف . لست بالطبع ، أنكر هذا السلوك العنيف ، ولا أستهين " بالتحرش الجنسى " ، الذى تتعرض له المرأة فى جميع مراحل عمرها ، وفى كل أشكاله ودرجاته ، ولا أقلل من حجم الحالات التى نراها ، ونسمع عنها ونقرأ نتائجها . ولست أيضاً ، ضد الجمعيات التى طالبت بقانون وعقوبة غليظة ، تعاقب " التحرش الجنسى " كجريمة هتك العرض ، باسم حقوق الإنسان ، أو باسم حقوق النساء. وبالطبع مؤشراته ، أنه " انحدار أخلاقى " من الطراز الأول ، وغير مسبوق فى بلادنا .
ومع ذلك ، لست مرتاحاً إلى هذه الضجة الإعلامية ، تعلو مع كل حالة تحرش ، والتى تدين " التحرش الجنسى " بالمرأة، وتتهم الشباب الذكور بـ " الانحدار الأخلاقى " غير المسبوق .
هؤلاء الذكور من صناعتنا نحن . والسبب ، أننا نتعامل مع قضية " التحرش الجنسى " بالمرأة ، كعادتنا فى التعامل مع جميع القضايا ، بمنطق الاستسهال ، وإصدار قرارات وعقوبات ، تتناول النتائج ، وتقوم بـ " تسكين " الأعراض ، والأعراض ، وتخدير الألم .
لكننا لا نتعرض إلى التشخيص الجذرى عن أصل المرض ، حتى يتم استئصاله ، وإبادته على المدى القصير والمدى الطويل .
دائماً نمسك فى الفروع ، والذيول .. ونترك الجذور ، والرءوس .
إن " التحرش الجنسى " بالمرأة ، ليس إلا عرضاً للمرض الأصلى المتوطن ، وهو العقلية السائدة منذ آلاف السنوات ، التى تختصر المرأة إلى " كتلة لحم " ، تسبب الهياج الجنسى للذكور ، الذين تبقى غرائزهم ساكنة ، كامنة ، إلا إذا رأوا أمامهم " كتلة اللحم " المثيرة .
المرض الأصلى ، الذى لم يطالب أحد بإصدار تشريع لإلغائه ، وتجريمه ، هو الثقافة الأخلاقية غير العادلة ، ذات المقاييس الأخلاقية المزدوجة ، التى تُورث للنساء ، والرجال.
المرض الأصلى ، ألا وهو التفرقة الجنسية ، والإنسانية ، بين الرجال والنساء ، فى جميع مراحل أعمارهم ، هى التى خلقت لنا الرجل الذئب ، الذى لا هم له إلا تعقب الفريسة الأنثى " كتلة اللحم " ، ليصطادها ، أو يتسلى بها ، أو يأكلها .
وخلقت لنا ، المرأة التى لا تنظر إلى نفسها ، إلا باعتبارها محرضاً لأحط غرائز الذكور ، غير المتحكم بها ، التى إن طالتها ، لن تتركها إلا فاقدة العذرية ، فاقدة الوعى ، فاقدة الكرامة ، وربما فاقدة الحياة . ومن أجل تفادى الأذى ، ارتدت الحجاب والنقاب ، كما حاصرها الفكر الاسلامى الوهابى المتغلغل فى مصر ، منذ منتصف سبعينات القرن الماضى .
إن " التحرش الجنسى " بالمرأة عنف ، وإرهاب ، وجريمة ، وقلة أدب ، وانحطاط أخلاقى ، وانفلات شهوانى حيوانى . ولكن كل هذه الأمور ، ما هى إلا نتائج طبيعية ، واردة ، متوقعة ، للثقافة الذكورية السائدة ، التى تتمسك بها مجتمعاتنا ، كأنها لا بديل لها .
إن " التحرش الجنسى " بالمرأة ، بمثابة " حفرة " صغيرة ، الجميع يتشطرون عليها . لكن هذه " الحفرة " . لا تقارن بــ " البئر " العميقة ، التى نحن مُلقون فيها . وهى التفرقة التاريخية المزمنة ، بين الرجال ، والنساء ، لصالح هيمنة الذكور على أرواح ومصير وأجساد النساء .
إن المرأة التى يتم التحرش بها جنسياً ، قد خضعت قبل ذلك ، إلى أنواع عديدة ، وكثيرة من التحرشات الثقافية والاجتماعية والإنسانية .
تحرشات إنسانية يعتبرها البعض طبيعية ، منشقة من التفسيرات الدينية . متلائمة مع طبيعة المرأة القاصرة الشيطانية ، متوافقة مع غاية خلقها ، فى طاعة الذكور وأتباعهم . منسجمة مع احتواء المرأة لجميع الشهوات المتدنية . وتمهد المرأة لتكون ملكية خاصة فى الزواج ، والأسرة . ومن حق الذكر فعل أى شىء ، فى ملكيته الخاصة .
إن " التحرش الجنسى " بالمرأة لهو مجرد " الصدى " .
لكنه ليس " الصوت " . عليكم بالصوت الذى يجب أن نخرسه الى الأبد ، .. حتى لا نسمع الصدى أبداً ، وخاصة ، أن العقوبات القانونية ، لا تحل الأمراض المتوطنة.
ماذا يفعل القانون المغلظ ، حتى لو كان رادعا ، حازما ، سريع الانجاز ، أمام ثقافة
وهابية سلفية ، مازلت مسيطرة ، ولديها امكانات ضخمة فى الاعلام ، والتعليم ،
ونشر الكتب الدينية غير صالحة للانسانية والعدالة والمنطق . ثقافة لا نواجهها
بثقافة مضادة مغايرة ، تبتر الفكرة من جذورها ، وتستأصل بقاياها ، وترش مبيدات قاتلة لسمومها .
من المحزن أن مصر لم تعرف " التحرش الجنسى " من قبل ، والذى بدأ فى ثمانينات القرن الماضى . بالطبع كانت هناك معاكسات فى الشوارع ، لكنها لم تكن تتطور الى لمس جسد الفتاة أو المرأة ، أو الانقضاض عليها واغتصابها .
وكلما زادت تغطية المرأة ، زاد التحرش . هذه حقيقة تثبتها الأرقام والاحصائيات فى بلادنا ، وفى المنطقة العربية ، وغيرها من الدول التى تفرض على النساء الاختفاء عن الأعين ، تطبيقا للاسلام النسخة الوهابية والسلفية .
اصدروا ما شئتم من قوانين . لكن تغيير الثقافة هو المناعة الحقيقية الدائمة ،
لأنسنة المرأة ، وتهذيب أخلاق الرجل تجاه النساء .