ظلَّت (القناة الثانية) من التلفاز المصري، لمدة عشرين سنة متَّصلة، تقدِّم برنامجاً أسبوعياً ذائع الصيت، هو (عالم البحار). وكان مقدِّمُ البرنامج يختلف تماماً عن "نموذج" مقدِّمي البرامج الذين اعتاد المشاهدون رؤيتهم .. كان شيخاً ذا لحية رمادية وقور، لعينيه زرقة ماء البحر؛ لا يبتسم، ولكنه غير عابس الوجه؛ لا ينطق حرف (الراء) نطقاً سليماً، بل أقرب إلى (الواو)، غير أنه كانت له جاذبية خاصة تربط المشاهدين ببرنامجه، حيث كان حديثه الأسبوعي ينساب حيَّـاً – على الهــواء – في لغة بسيطة سليمة، لا تستعصي على الصغار، ويأنس لها الكبار؛ ويجد الجميع أنهم – أسبوعاً بعد أسبوع – يحصلون على وجبة علمية شهية، ويضيفون المزيد إلى رصيدهم من المعلومات عن أسرار وخبايا البحار والمحيطــات.
إنه رائـد علــم البحــار، العالم العربي الكبير، عاشق البحر الأحمر، الأستاذ الدكتور حامد عبد الفتَّاح جوهر، الذي رحل عن عالمنا في السابع عشر من يونية، عام 1992 .
في العام 1929 ، حصل حامد جوهر على وظيفة معيد بقسم علم الحيوان، في كلية العلوم، جامعة القاهرة؛ وكان مغرماً بالسباحة ورياضة التجديف والقوارب الشراعية؛ ولكنه لم يخطر بباله، يوماً، أن يتجه إلى دراسة البحر؛ حتى لعبت المصادفة دورها، حين أراد أستاذه أن يكافئه على نجاحه الباهر في دراسة الماجستير، فرتَّب له رحلةً إلى محطة الأحياء المائية، بمدينة "الغردقة" المطلَّة على البحر الأحمر، إلى الجنوب من خليج السويس؛ فأعجب جوهر بالمكان، وتكررت زياراته للمحطة، التي كانت - في ذلك الوقت – تابعة لجامعة القاهرة، ولم يلبث أن طلب نقله ليعمل في محطة أبحاث الغردقة للأحياء المائية. لقد كانت تلك الرحلة السبب في أن يتعلَّق العالم الشاب حامد جوهر بالبحر الأحمر؛ وهناك أقام جوهر إقامةً دائمة، ثم أصبح أول رئيس مصري للمحطة ، وبدأ تفرُّغُه لأبحاثه، التي تناولت الشعــــــاب المرجانية، والأسماك، والرخويات، وعروس البحر !.
وللدكتور جوهر، مع الحيوان المسمى بعروس البحر، حكاية طويلة .. فقد قادته المصادفة وحدها إلى بعض عظامه، متناثرةً على الشاطئ؛ فجمعها وعكف على دراستها؛ وأصرَّ على الحصول على نموذج حيٍّ منها، فصمم لها شبكة خاصة أمسكت بها؛ وظل يدرسها لمدة 14 سنة!. ونشرت المجلات العلمية العالمية نتائج أبحاث ودراسات جوهر عن ذلك الحيوان البحري اللبونــي العجيب .
واشتهر الدكتور جوهر بتحـرِّي الدقة الشديدة في عمله، ولا بد أن ذلك كان أحد عوامل نجاحه كعالم كبير. ويروي تلاميذه حكايات عديدة، في هذا المجال، منها (حكاية فك الحـوت)، وملخصها أنه، في عام 1949 ، علم الدكتور جوهر باصطيــاد حوت ضخم في مدينة السويس، فأسرع إلى هناك، حيث وجد أن الحوت قد تم تقطيعه، فاحتجَّ على ذلك، وأخذ يجمع الحوت، قطعةً بقطعةٍ؛ واكتشف أن أحد فكَّي الحوت مفقودٌ، فنشر إعلاناً في الصحف، ورصد مكافأةً لمن يعيد الفك الضائع؛ ونجح في استعادته !.
وقد شارك الدكتور حامد عبد الفتاح جوهر، برأيه وجهده، في تأسيس كثير من الهيئات والمؤسسات والجمعيات العلمية، عربيةً وعالمية. وحصل، في عام 1973، على مقعد في (مجمع الخالدين) – مجمع اللغة العربية ، بالقاهرة – ولا غرابة في ذلك، فقد كان اهتمامه باللغة العربية واضحاً، بالرغم من أن اللغة الإنجليزية كانت لغته العلمية. وقد بدأ اهتمامه باللغة الأم مبكراً؛ فكان – في سنوات التنشئة – يحفظ كثيراً من الشعر العربي القديم، إلى جانب بعض أشعار أمير الشعراء (أحمد شوقي)، و(حافظ إبراهيم)؛ وكان – بالإضافة إلى ذلك – يهوى الموسيقى والتصوير الفوتوغرافي !
وقد اكتسب الدكتور جوهر احترام وتقدير عديد من المؤسسات العلمية العالمية، التي منحته درجة (دكتــوراه العلـــوم) - بالرغم من أنه لم يحصل على درجة دكتوراة الفلسفة، بعد الماجستير --وهي أعلى درجة علمية في العالم ، وتمنحها جامعات العالم العريقة للعلماء الذين أضافوا للعلم إضافات حقيقية، أسهمت في تطوره وتقدمه. كما نال جوهر جائزة الدولة التشجيعية في العلوم، في العام 1953 ، ثم جائزة الدولة التقديرية في العام 1974. . وحظي الدكتور جوهر بصداقة بعض ملوك ورؤساء الدول.
أما التقدير الأكبر – في رأينا – فهو مشاعر الحب، التي كانت تحيط به أسبوعياً، في مساء كل ثلاثاء، حين كان يدخل إلى بيوتنا، ويطل علينا، من خلال أجهزة التلفاز، بادئاً برنامجه بتحيته التقليدية :
_"مســــاء الخيـــر ..".