(1)
مثلما تدهشني قدرة الإنسان على القتل وانتقال نقطة من ماء البحر إلى أنف طفل في مخيم وفشل الفراشات في مقاومة أغنية اللهب الجهنمية، وكلام الريح رغم أن قلبها أخرس الخ ظَلَّ الحب يحيرني كمفهوم وفلسفة ومعنى وإرادة ومعرفة ويقين وكذلك كقدرة فريدة على اقتحام أبواب بالغة الشدة وأزمان صلدة ونفوس كأنها الصخر، هذا الفعل المعنوي العجيب يصنع آثاراً مادية مبهرة ويحول مصائر ووجهات سير في الحياة وزوايا بصر وبصيرة، كأنهُ مارد وكأنهُ ريشة خفيفة وكأنهُ لا شيء وحيناً كل شيء.. ومثلما احترتُ في كُنْه غالبية الأفعال الإنسانية، تهتُ كذلك في قدرتنا على القيام بفعل الحب وكذلك في القدرة على مقاومته حتى أنني أفسدتُ على نفسي دوماً كوني داخل التجربة وفي القلب من تجلياتها وآلائها .. أن توقف أسئلتك الدوارة بلا انتهاء لتحس وتشعر فقط.. أن تستمع بالدوامة وعَظَمة قرار عدم مقاومتك للغرق.. هي أمور رائعة فشلت فيها للأسف، في كل مرة وفي كل مرحلة عمرية ..كنتُ دائماً شكاكاً وخائفاً من أن أفرح وأسأل سريعاً ماهي السعادة وأحتار في شعور الانجذاب لكائن آخر جميل، إن كان في حقيقته خطراً كونياً أو فخاً من الأقدار المتربصة، بدلاً من التمتع بشفافية الشعور وطراوة الإحساس وجنة الخِفَّة.. كذلك كنتُ أقع دائماً تحت نيْر لعبة المقارنات و شرورها فكنت أسأل مثلاً إن كانت محبتي للكتب والشعر أعمق أم تعلقي بهذه الإنسانة الذي تطالبني برمزية أن أكونَ مُسْتَلَباً جرَّاء الفتنة حتى تَصْدُقَ الحكاية مع أنه لا تعارض أبداً بين أنماط وأشكال ما نحب ونهوى، وكل الأمور لو تدري، تخرج من معين واحد هو روحي ونفسي المرهَقَة دوماً.. وكأنني بهذه الأوهام أجرُّ الفتى ثم الشاب إلى الهرب، الذي أدمنه بعدها، لهذا كلما فرحتُ ارتعشتُ وعَدَوتُ بعيداً وكلما ضَحِكَت عيوني برؤيا الحبيب انتَصَبت أمامي فكرة أنني سأموت وسأتركه وهذا ظلمٌ لا يليق، فالأوفق إذن هو قتل الابتسامة قبل أن يستفحل خطرها وتصير فرحةً أو سعادة.. هل الطفولة التي وُئدت في الصحراء هي المجرمة والمسؤولة عن تلك القسوة في الروح الظمآنة لموتها أم أن تكوين الشاعر الذي سمح للشعر أن يحتله بشراسة، فتماهى الخيال عنده مع الواقع وتساوت الدراما الحقيقية الملموسة مع الهلاوس والضلالات؟ قد يكون ذلك وقد لا يكون المهم أن التباس الحب عندي ومعي انسربَ إلى نصوصي بفداحة مرعبة– وقد تكون فنياً موفقة!- فمرة تكون الحبيبة هي البهاء الحسي العظيم و المُوحي، فقط، ومرةً تكون روحها هي النافخ في روحي لأعود حياً ..مرةً تطاردني كقبر مفتوحٍ يودُّ أن يلبي نداء التعاويذ التي انتخبتني من الجحيم وأخرى أجدها أختي وأمي ورفيقتي في شيخوخةٍ دائمةٍ هي حياتنا بين الحروب.. لكن ماذا عن حبي لنفسي؟ بالتأكيد هو أكثر التباساً في وعيي وفي قصائدي، و ماذا عن حبي لأبي و أمي و للتاريخ الحي والميت والقادم والماشي والطائر الخ كلها قيم وأحلام وأسئلة وتجارب تزيد من صعوبة الاستيعاب لكن الأمور التي لم تتغير مطلقاً هي يقيني وانتمائي النهائي للمتألمين والفقراء والمظلومين وللوردة التي تتنفسُّ حتى هذه الساعة في لوحةٍ نسوها في مخزن رطب..
(2)
كان الحافز الحقيقي لكتابة قصائد ديوان "سلة إيروتيكا تحت نافذتك"، هو تلك المحاولة المرتعشة للتجرؤ حتى الجنوح والخطر والتلاشي، في رغبة اصطياد ومحاصرة الأنوثة، تلك الفكرة التي راوغتني في قصائد الدواوين السابقة وأخَذَت أنماطاً وتجليات متعددة من أشكال العلاقة مع هذا الكيان المغوي الذي هو الأنثى، حتى تربى داخلي الحافز الذي نما على مدى سنوات من تعاطي الشعر، مع هذا الرائع وعنه وفيه، باعتباره آخَر، حافز وغاية الاستعاضة الكاملة عن العالم بواسطة وجوده هو– ذلك الفادح- ووضعه تحت سماء البصر والبصيرة، بتكريس عمل متكامل عنه في لحظة خاصة وصافية لا تملك الأنثى معها إلا خلع أردية المجتمع والخوف وما إلى ذلك من ستائر على الرؤية، لتتجلى الروح المحاصَرة وتصدح النفس وتبوح.. و لكن بتجربة أن يكون هذا الآخر "هو أنا"...كأنني أنا قد صرتُ هو، وهو قد تجلى للعالم في صورة أنا، والعالم مفقود، وكلما اكتشفنا مدى الاتصال والواحدية: ينكشف جزء من العالم...ربما كانت طريقتي في كتابة هذه النصوص تشبه جلسات "اليوجا"، حيث لم أكن أجلس للكتابة إلا إذا غامت عيوني عن كل مفردات وأصوات وروائح الدنيا، لتهل الأنثى المجردة والتي هي كل أنثى، ويملأ رحيقها الكون وتحتل الهواء والسماء والأرض وغرفتي وملابسي و ماضيَّ وحاضري ..حينها فقط كنت أرى حواسي تنضغم مع الكلمات التي تبزغ على شاشة الكمبيوتر وكأنها تلمسها وتحكي معها، وتصير نقرات أصابعي على الكيبورد وكأنها نبضات جسدين في جسد.. أما عنوان الديوان، فمنذ اللحظات الأولى أدرَكَ داخلي أنه لا يحق له أن يكون جملة شعرية من أحد القصائد ولا عنواناً لنص معين داخل الديوان، وأدرَكَ كذلك أنهُ لم يستطع إلا أن يكون لافتة مرنة تملك القدرة على الاتساع وتحاول أن تسرق عيون وروح المتلقي بغاية أن يُستَقبل الكتاب كجسد واحد ممتد طول الصفحات، بل وتعبر كذلك عن غايته العليا التي هي توصيل هذه السلة، من المشاعر الجارحة والبدائية والعارية من أي رداء من أردية الحضارة الهشة والكاذبة، والقاسية.. لم يكن في ذهني إذن وأنا في حالة الكتابة تلك، أي أمر بخلاف الكتابة ذاتها وتجلياتها داخلي وفي حواسي وبالتالي فلم أستهدف جمهوراً معيناً ولا طبقة معينة من المتلقين ولكني كنت أتمنى أن تحسني الأنثى، بمعناها الخام، ويبقى صدى همسي في آبارها الأعمق.. تستطيع القول يا صديقي العَشَّاق الدائم الحيرة، إنني لم أرجو إلا أن تهز رأسها برفق لأفهم أن هديتي قد قُبلت..
لا أظن أن هناك جديداً، بشكل كلي، في أي كتابة مهما كان تصنيفها و لكن حلم وغاية ومحاولة الخصوصية، تظهر في اختلاف زوايا النظر ومناطق الرؤية ومنطق الكتابة وجمالياتها ولو بغير تخطيط.. لهذا فقد كَرَّستُ كتابي ببساطة وباندفاعٍ ودون حَذَر قد يتخلَّق من الخبرة، للنظر في الأنثى كَتَجَلٍّ كونيٍّ يجمع الواقع والأساطير و الحكايات والخيال والموت والحياة في أتون واحدٍ، وهذه النظرة هي ما في داخلي بالضبط، حتى وإن ذلك كان بصورة مشوشة، وما الكتابة في حقيقتها إلا رغبة في رتق الأجزاء ولفق الملامح ..هذا الكائن الإشكالي: جميلٌ على الدوام إلا أنه قد يكون غامضاً ومرعباً كذلك في أحيانٍ ثانية.. مقدس على الدوام، يكشف الطريق الأسلم لصعود جبل اللاهوت البعيد القريب، بالضبط كما يقبض على الإنساني الخالص واليومي والمعيش و يصيغه في كل لمسة.. لهذا أظن أن ديواني هذا حاول وطمح وابتهل أن يحاور الأنثى في أصدق تجلياتها وأكثرها وعورة وغموضاً وبهاءً ساطعاً: في الرقصة الحسية الجسدانية الغامرة وفي تماهي الأرواح بعد عبور عتبة الجسد، هذه العتبة المكتنزة بالعطر والشظايا والعسل والدم.. وربما لهذ ، قيل أنني قد طمحت لأن أتخلي عن كل محظور صنعته الثقافة العربية وأنا ألهث يميناً ويساراً في محاولة الإمساك بيقين يخص تلك المغوية الدائمة وذلك السؤال السحري المراوغ: سؤال الأنثى وسرها الخالد...
(3)
كنتُ و ما زلتُ، أرحب بنشر مسودات ومخطوطات أعمالي في صورتها الأولى، طبعاً، ولكن في حالة أن تكون مازالت موجودة، تنظر لي بتحدٍّ لتحاسبني على يقينياتي الفنية التي تتحول دائماً ولا تثبت أبداً !! دائماً و أبداً، كان اشتغالي بالإبداع واحداً من أهم أسباب قلقي وتوتري الدائم ورعبي بل ومرضي أحياناً.. لهذا أحرق مسوداتي باستمرار لأتخلص من عبء لحظة المخاض وآلامها و عبورها المؤذي مرة أخرى لروحي المثقلة.. وكانت المرة الثورية الأولى- اللحظة الجبانة بالأحرى- هي لحظة النظر إلى كرتونة ضخمة تحتوي كل ما كتبته من القصائد العمودية والتفعيلية ثم التقدم بخطى مرتبكة وإشعال النيران فيها، فيما يشبه الحفل الدموي، وذلك بعد أن اقتنعت بعد مفاوضات كثيرة مع نفسي، أن السكة التي بها يمكن أن أقرأ نفسي ثم أعريها ، بدون أشباح يقيمونَ منذ الأزل في دمي، هي قصيدة النثر.. ثم استمرأتُ حالة القتل تلك مع كل ورقة فيها قصيدة جديدة بعد كتابتها بسطور مرتعشة ومهتزة و خط غريب عني ولا يرى السطور.. في الإبداع، دائماً ما تسيطر عليَّ فكرة أن أكون بلا ذاكرة، حتى أتمكن من الحلم بالتحديق في بحار أخرى والخروج بنفثة حياة جديدة وولوج لأراضٍ بعيدة عن طريق زوايا نظر أخرى... أكتب حتى اليوم على الورق، في أي مكان وفي أي زمان وبعد أن أقاوم التدوين لفترة، وكأني أطلب من الفكرة أن تلح وتناضل وتقهرني حتى تخرج للنور، ثم أُبيِّض العمل على الكمبيوتر ليخرج في الغالب، مختلفاً عن فكرته الأولى، باعتبار أنه لا قداسة مطلقاً، للفكرة الرومانسية التي تضفي وجاهةً وحلاوةً على الفكرة الأولى ومن ثَمَّ الكتابة الأولى وترى اللعب فيها نوعاً من الافتعال.. أوقن أن مرحلة التدوين هي مرحلة ينضغم فيها الفنان الذي يتعامل مع الكون برهافة ليسلب منه لمحة ربما تكون غائمة أو مخفية، مع الصنايعي صاحب الخبرة، الأكثر برودةً والأقل انفعالاً.. قدمت دواويني الأولى للنشر على هيئة مخطوطات بخط اليد وكان الأمر غالباً ما يصنع كوارثَ في الجمع لهذا فطريقة تقديم عمل للناشر بصيغة البي دي إف هي الأفضل والأكثر أماناً.. ورغم كل هذا فأنا أستمتع بعمل الباحثين الأدبيين الذين يقارنون المسودات مع الأعمال المنشورة بهدف اكتشاف الفروق وهي التي تصلح لأن توضح طريقة تفكير المبدع وتحول أولوياته وقناعاته الوعيية و اللغوية.. المبدع يكون في هذه الحالة وخصوصاً بعد وفاته- قد تحول إلى قيمة فنية من اللائق والمجدي أن نحاول طول الوقت التحاور معها لنفهم ونقرأه بشكل أوفق، لكن أثناء حياته أظنه يصير أقرب إلى القيمة التي مازالت أطوارها تتشكل وتنتظر لحظة ما يتوقف فيها المدد لنُشرع نحن مشارطنا البيضاء، الطيبة الماكرة..