من رواية الغانية والبحر عن دار اسكرايب للنشر والتوزيع- القاهرة
عاشتْ جوري منذ بَلغتْ الرابعة عشرة بتلك الدار ورَمتْ وراءها كلّ العالم الذي لم تعرف منه سوى اسمها... وخضعتْ كلية لرعاية المرأة الأربعينية البيضاء المدعُوّة دلال التي انقذتها من العمل بالمنازل والتعرض للتحرش وقدمت لها الطعام والشراب واللباس والمنام والحرية! ولكن أخذت منها فقط الجسد...وهذا ليس بالكثير مقابل ما نالتهُ من حياةٍ هانئة، فماذا يعني الجسد وهي التي لا تَذكّر حتى متى وكيف وُلِدتْ...؟
موسمُ الخريف يشبهُ مَوسِم الثلج الذي أضحكها وجعلها تكتمُّ السرّ عن زوجها صالح عندما قدّمَ لها الثلج أول مرّة باعتبارهِ اكتشافهُ السحري...عَرفتْ الثلج قبلهُ بسنواتٍ في بيت دلال، وعرفتْ معهُ مواسِم الصمتْ في بيوتٍ لا يتَخلّلها الهواء وتَعبقُ بدخان السجائر وعدم البوح بكلِّ ما يجري فيها، فشعارها الصمت والعمى، فمن شروط من يحيا ببيتِ دلال ألا يتكلم ولا يرى... شَمِلَ جوري الصمت مثل غيرها من فتيات الدار. اخْتَفتْ كمّا الغيم حين يسبح، غابتْ عن البيوت والخدمة والتسكع... لم يترك غيابها أثرًا في أحدٍ فهي وحيدة، كانت في حياة أخرى زوجة وفي حياة أخرى أيضًا زوجة...! فمن رواية إلى أخرى تَبَدَّلتْ حياة جوري! وهذا غير مفهوم للقارئ! أصبح غياب جوري مُسَوْغاً لعالمٍ آخر يُدِلّ على تناسخ الروايات... رأى فيها البعض ذريعة للفرار من الواقع المُرّ وهو ما لم يفسرُ سرّ اختفائها! لغز جوري سيبقى شاهدًا على عصرٍ بحاجةٍ لقراءة أخرى مختلفة!!
"عندما تُولد بلا اسم ولا بيت ولا أسْرَة...حين تَجدْ نفسك وحيدًا في الدنيا بلا أمَّل ولا عنوان أو مكان... حين تُجَرّدُكَ شدّة الألم من الشعور بهِ عندها تَقْبل بكلّ ما يُعرض عليك...لا تهمك سمعة ولا كرامة ولا أقوال الناس فيك...هذا ما واجهتهُ منذ وَعَيتُ الحياة. اسْتَسْلمتُ لمصيري وجَريتُ وراء رزقي للعيش فقط وليس لأي شيء آخر. لم أفكّرَ بنوع الملابس وقيمتها ولا بمذاقِ الطعام بل بما يَسدّ الرمق... لا يعنيني أن بدَوّتُ جميلة أو قبيحة ولا يهمني إن تزوجت أو تشردت... المهم ألا أنام ليلة بجوعي...كنتُ وحيدة في مدينةٍ ضبابية لا ترحم. تهتُ بين أزقة وأحياء وطرقات، طاردني كلَّ أنواع الرجال وكأن ملامح وجهي تنبئ بأني سَهْلة المنال رغم أنني ظلّلتُ لسنواتٍ محافظة على عفتي حتى بلغتُ الرابعة عشرة، فقدتُ حينها إيماني بأن الله قد ينتشلني من مستنقع فيه كلّ الفطريات التي خلّفتها مدينة المحرق..."