توجد إحصائيات تقول إن ربع المنخرطين في العملية التعليمية الدراسية في مصر اليوم من تلاميذ وطلاب إنما يدرسون في مؤسسات تعليمية دينية( مدارس ومعاهد وكليات أزهرية). كما أن هناك احصائيات أخري تنخفض بهذا العدد إلى الخمس. وأخيرا فقد رأيت إحصائيات تنخفض بهذا العدد إلي السدس. وبإفتراض أن الاحصائية التي تعبر عن الواقع هي السدس( أكثر قليلا من16%)(وهي أقل الاحصائيات) فإن ذلك يعني أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين تلميذ وطالب يتلقون تعليمهم من البداية إلي النهاية في مؤسسات تعليمية دينية. وقد يزداد هذا الرقم إلي أربعة ملايين أو خمسة ملايين إذا أخذنا بالإحصائيات الأخري. ولاشك اننا هنا أمام ظاهرة تعليمية( ذات أبعاد وانعكاسات ونتائج اجتماعية وسياسية واقتصادية) تستحق التأمل والتحليل(بل والدراسة).
وهذه الحقيقة تملي علي الناظر فيها سؤالا بالغ الأهمية: لماذا!.. وأعني لماذا يقوم مجتمع مثل المجتمع المصري بتوجيه هذه الأعداد الكبيرة لمؤسسات تعليمية دينية؟... ومع السؤال لماذا؟ يبرز التخطيط الاستراتيجي وإنما وجود واقع أملته ردود الفعل والبيروقراطية؟
أما عن لماذا؟.. فمن الواجب أن نعرف أنه بإستثناء السعودية وإيران وأفغانستان وباكستان والسودان واليمن السعيد, فإن باقي دول العالم(أكثر من مائتي دولة) لا توجد فيها مثل هذه الظاهرة ولا مثل10% منها. وبالتالي فإن السؤال يكون: إذا كنا نفعل ذلك, فهل معناه اننا لا نريد أن نكون( تعليميا وبالتالي ثقافيا) مثل اليابان وسنغافورة وفرنسا وكندا واسبانيا وإنما نريد أن نكون( تعليميا وبالتالي ثقافيا) مثل السعودية وإيران وافغانستان وباكستان والسودان واليمن؟ هل هذا ما نريده؟ وهل هذا ما صغناه في سياسة استراتيجية للتعليم ندرك معناها ومغزاها وإفرازاتها؟
أغلب الظن اننا لم تكن لنا سياسة استراتيجية تعليمية تهدف لأن يصبح ربع أو خمس أو سدس المنخرطين في العملية التعليمية لدينا من تلاميذ وطلاب المؤسسات التعليمية الدينية. بل أكاد أجزم أنه لم تكن لدينا مثل هذه السياسة الاستراتيجية التعليمية: لا هي ولا غيرها. وأكاد أجزم باننا وصلنا لهذا الحال بفعل تداعيات الأمر الواقع والبيروقراطية. فقد أوجدنا تلك الغابة الواسعة الشاسعة من المؤسسات التعليمية الدينية كرد فعل عشوائي لمشكلات مثل: إيجاد مؤسسات تعليمية قريبة من أبناء وبنات سكان المدن الصغيرة والقري والنجوع... وأيضا كمكان لإيواء( تعليمي) للتلاميذ الذين لم يكن بوسعهم( ماديا) أو( تعليميا) الانخراط في التعليم العام. وإذا كان الأمر كذلك( وأظن أنه كان كذلك) فإننا نكون هنا منسجمين مع طريقتنا في التعامل مع أشياء أخري عديدة.
لقد تكونت لدي مجموعة من الحقائق المخيفة. من أهمها اننا أنشأنا تلك الشبكة من التعليم الديني فيما يمكن وصفه بالحل الأدني لمشكلات الطبقات الأدني في المجتمع والطوائف الأقل نجاحا في التحصيل والتعلي. وإذا كان ذلك كذلك, فمعناه(استراتيجيا) اننا نضخ أعدادا كبيرة من المطحونين اقتصاديا واجتماعيا والأقل في القدرات التحصيلية داخل منظومة تعليمية دينية ديناصورية الحجم. وأغلب الظن اننا فعلنا ذلك دون أن نبذل أي جهد لاستقراء ودراسة النتائج الاستراتيجية( السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لمثل هذا الخيار علي كل مجتمعنا وعلي حال ومستقبل هذا المجتمع.
لسنوات طويلة كنت أسأل العشرات بل المئات من صغار الموظفين والعاملين: هل يذهب أولادكم للتعليم الأزهري؟.. وكان الجواب عادة ما يأتي بالاستنكار والاستنكاف والرفض. وهو ما أعطاني شعورا قويا( وقد أكون مخطئا) بأن التعليم الديني لدينا هو ملجأ من لم يكن أمامه( من حيث القدرات الاجتماعية أو الذهنية) إلا هذا الملجأ الأخير. ومرة أخري أقول: إذا كان الأمر كذلك, فإن النتائج الاستراتيجية ستكون وخيمة العاقبة. وإذا كان مجتمعنا قد ضربته خلال العقود الأخيرة موجة عاتية لفهم بدائي وماضوي للدين.. فهل قام بعضنا بدراسة العلاقة بين هذه الموجة وبين الفلول الكبيرة التي درست في المؤسسات التعليمية الدينية وكانت ـ من الأساس ـ مؤهلة للانضواء في هذه الموجة من الفهم المحدود والبسيط والماضوي للدين؟
و ما هو أثر إنخراط تلك الأعداد الهائلة من المصريين والمصريات في التعليم الديني علي أحوالنا العلمية والتكنولوجية والصناعية والتجارية؟ وإذا كانت دول أخري قد توسعت في التعليم الديني بما أوجد في النهاية كادر من رجال الدين يحولون دون انخراط المجتمع في مسيرة التقدم, فإن السؤال يكون: هل نري كم أصبحنا غير بعيدين عن تلك الحالة؟
وهل تأملنا التعليم الديني لدينا من المنظور التالي: إن قيم التقدم هي مجموعة من القيم التي لا يخلو منها مجتمع ذو حظ طيب من الازدهار, ومن أهمها الإيمان بالتعددية والإنسانية والغيرية وعالمية المعرفة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة. وقد قضيت عشرات الساعات أراجع المقررات والبرامج الدراسية للتعليم الأزهري لاسيما في مجالات النصوص والثقافة والأدب واللغات, فوجدت هذه البرامج والمقررات إما خالية من عملية بذر وغرس تلك القيم خلوا تاما, وإما انها تقدم وتغرس قيما مناقضة. فهل درسنا حجم المشكلة التي نخلقها بأيدينا لأنفسنا عندما نفرز خريجين وخريجات قد غرست في ضمائرهم وعقولهم قيما تناقض قيم التقدم التي كان علينا أن نعمل علي غرسها؟
وهل درس أحد(من المنظور السياسي الاستراتيجي) احتمالأننا نكون(بتبني هذا الحجم الكبير من المؤسسات التعليمية الدينية) إنما نخدم في النهاية توجهات تعلن الدولة( وهي في هذا محقة تماما) أنهاأي التوجهات أعدي أعداء المجتمع المدني لدينا؟ وهل نظر أحد في مجتمعنا لعواقب وجود هذا الحجم من المؤسسات التعليمية الدينية علي المناخ الثقافي العام وعلي السلام الاجتماعي وعلي طبيعة مجتمعنا المصري كمجتمع من مجتمعات البحر المتوسط؟.. إن كل ذلك لم يحظ بأي اهتمام من أي أحد ومن أي جهة.
التعليم الديني في الميزان
بقلم: طارق حجي - في: الأربعاء 15 نوفمبر 2017 - التصنيف: فلسفة وأديان
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...