" تنطبق مقولة ( الفن تعبير ) في كل الأزمنة، وتسري علي كافة وجوه الإبداع ( الأدب، الشعر، الموسيقي، التمثيل .......الخ ) لكني سأقصر حديثي علي الإبداع البصري.
إختلفت الوسائط بإختلاف العصور، ففي البداية كان السناج والدم والأسطح الملساء تمثل وسائط المصور البدائي في الكهوف، ومع تطور المجتمعات ورُقِيهَا أستُحْدِثَتْ وسائط متنوعة ومتعددة.
عندما توفرت في القرن التاسع عشر، ألوان الأنابيب بدرجاتها المختلفة، والفراجين باشكالها المتنوعة، إستخدمها المصورون في أعمالهم الفنية، ومع حلول القرن العشرين وما تحقق فيه من تطور معرفي وعلمي، إستحدثت خامات ومواد لم تكن معروفة من قبل، وكذلك أساليب وتقنيات لم تكن مألوفة سلفا ........ فتوفرت للمصور وسائطا جديدة للتعبير بجانب الوسائط التقليدية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت تباشير إختراعات جديدة، ومنها أجهزة الديجيتال (الفيديو والكومبيوتر......الخ ) فاستحدثت مسالك أوحت للفنانين فكرة إستخدامها في التعبير الفني.
وفدت الينا فنون الديجيتال في الربع الآخير من القرن العشرين - في الوقت الذي سبقنا فيه الغرب - في البداية كان الأمر يخص العلماء ورجال الصناعة فقط، لكن بعض الفنانين حاولوا إستخدامه فنيا، فقوبلوا بمعارضة شديدة في البداية ......... لكن بمرور الوقت تبدل الحال، وإستطاعت الفنون الرقمية ترسيخ أقدامها، وأعتبرت شكلا من أشكال الفنون البصرية، وبدأت متاحف الفن وقاعات العرض تعترف وتهتم بهذه النوعية من الأعمال الفنية.
لم نكن في مصر بعيدين عن هذا التطور ......... لقد تسرب الينا عن طريق إستخدامنا لآلات الفيديو، والحاسبات بأنواعها، والهواتف الذكية .......الخ, التي أصبحت وسائل الإتصال الحديثة في متناول كافة فئات المصريين ........... وبالتالي أتيحت وسائط جديدة إستخدمها فنانونا في تعبيرهم الفني.
كانت الفنانة (العربية / البريطانية) مني حاطوم من أوائل الفنانين العرب الذين إستخدموا الفيديو آرت في نهاية الثمانينيات ....... أما في مصر فقد بدأ الفنانون المصريون الإهتمام بهذا الوسيط الجديد منذ منتصف التسعينيات، ويعد كل من الفنان حسن خان ( 1975) وصديقه الفنان شريف العظمة (1975) من رواد فن الفيديو آرت في مصر.
إجتذب الفديو كوسيط للتعبير عدد من الفنانين المصريين ومنهم : آمال قناوي (1974- 2012)، وائل شوقي (1971)، هالة القوصي ( 1974)، معتز نصر (1961)، خالد حافظ ( 1963)، سوزان هيفونا المصرية/ الألمانية ( 1962) ، أحمد بسيوني ( 1978-2011)، شادي النشوقاتي ( 1971)، حسام هدهد (1978) ، هيثم نوار ( 1978) ......وآخرون لا يتسع المجال لحصرهم.
لقد وجدت أعمالهم طريقها الي المعرض العام في بعض السنوات، لكنها لم تلق قبولا واسعا حتي الآن، وما زالت تصادف هجوما، وإعتراضات من فئة المدافعين عن اللوحة والتمثال، الرافضين لما أستجد بالحركة الفنية العالمية من تطورات....... لكن الزمن والتطور الطبيعي للحياة سيفرض واقعا جديدا، سيرضخون له عاجلا أو آجلا.
لقد سقطت الحدود بين أفرع المعرفة، وتداخل العلم مع الفن، وتوسعت دائرة الفكر والمعرفة الإنسانية........ وأصبح علينا الإنفتاح علي الجديد والمستحدث بكل ما يحيطه ويكتنفه من متغيرات.
لقد تغير مفهوم الفنون البصرية، وبرز فنانون يمزجون بين العلم والفن يستخدمون علوم الحاسبات ( الكومبيوتر ) لتنفيذ أعمالا فنية، وبدأنا نسمع عن الفن السيبراني Cybernetic Art ........... و أصبح هذا النوع من الفن معروفا ومقبولا في الحركة البصرية العالمية المعاصرة، تقام لها المعارض بالجاليريهات وتقتنيها المتاحف.
لم يعد غريبا أن يستخدم الفنان العصري الكمبيوتر كوسيط لإنتاج أعمال فنية ........... هذا شيئ لا يروق للكثيرين، لكنا جميعا سنمتثل للواقع، فالتكيف هو سنة الحياة.
قد يتساءل البعض، هل تعرف مصر هذا النوع من الفن ؟ ... للإجابة أقول أن هناك عدد قليل للغاية من المحاولات الفردية لبعض الفنانين المصريين ........... ومنهم الفنان الراحل الشهيد أحمد بسيوني (1978- 2011 ) الذي كان رائدا في هذا المجال الفني، إذ جرب تحويل الطاقة الجسدية لصور مرئية مستعينا بالمجسات والكومبيوتر، في عمله الذي عرضه قبل وفاته والمسمي "الجري في المكان"، وهو نفس العمل الذي عرض تكريما له بعد رحيله (ببينالي فينسيا عام 2004 ).
كما وأن للفنان شادي النشوقاتي ( 1971 ) أعمالا تفاعلية يجوز وصفها بالفن السيبراني .......... وفيها اذا تحرك المشاهد (المتلقي ) جسديا أمام مصفوفة من المصابيح الكهربائية يأتي رد فعل في شكل أضواء تبثها المصابيح تتوهج مع حركة الجسد.. ولا تفوتني الإشارة الي الفنان أحمد الشاعر ( 1981) الذي ينشط في هذا المجال.
ما زالت الحركة الفنية المصرية عازفة عن الإنشغال بهذا النوع من الفن، ويرجع ذلك في تقديري للعوامل الآتية:
1- إحتياج هذا النوع من الفن لتمويل مادي كبير.
2- يلزم إنجازها وجود فريق من المتخصصين في
الألكترونيات، الصوت ، الضوء .......الخ ، يقوم الفنان
بتوجيههم والإشراف العام عليهم.
3- قلة الجمهور المشجع لمثل تلك الأعمال.
لذلك لا تتحمس قاعات العرض والجهات التي ترعي الفنون لإقامة عروض لمثل تلك الأعمال. ورغم ذلك ما زلت آملا في أن تلقي فنون عصر المعلومات التشجيع المناسب.