عبد السلام صحراوي أكاديمي من الجزائر
تفردت الكاتبة والشاعرة الجزائرية "أحلام مستغانمي" وتميزت في تجربتها الكتابية لكونها أول كاتبة جزائرية وتميزت في تجربتها الكتابية لكونها اول تخوض مغامرة الكتابة الروائية باللغة العربية، وهي دون شك مغامرة صعبة سيما حين نعلم ان جل الأدبا، والأديبات في الجزائر (الجزائريين) كتبوا بالفرنسية وترجمت أعمالهم بعد ذلك الى العربية. والأديبة "أحلام " تشير الى هذا الموضوع اشارة بليغة للغاية حينما تهدي روايتها الأولى "الى مالك حداد.. ابن قسنطينة، اذ تقول في اهداء روايتها "ذاكرة الجسد": "الي مالك حداد.. ابن قسنطينة " الذي أقسم بعد استقلال الجزائر الا يكتب بلغة ليست لغته.. فاغتالته الصفحة البيضاء.. ومات متأثرا بسلطان صمته ليصبح شهيد اللغة العربية، واول كاتب قرر أن يموت صمتا وقهرا وعشقا لها": وتقول أيضا في هذا الاهداء: "والى أبي.. عساه يجد هناك من يتقن العربية، فيقرأ له أخيرا هذا الكتاب.. كتابه " ا`ا. وليس عبثا ان تضمن "أحلام " هذا الاهداء لروايتها فالامع لا محالة متعلق بعشقها وحبها للغة العربية وهي تبعا لهذا تتجه نحو خرق القاعدة وتصدر روايتها الأولى باللغة العربية في الجزائر سنة 1993عن دار الآداب ببيروت، ويعاد طبعها عام 1996 في طبعة ثانية وفي طبعات أخرى فيما بعد.
غير إن الطبعة الثانية لرواية "ذاكرة الجسد" يكتب مقدمتها الشاعر العربي الكبير نزار قباني.. وبعد سنوات من كتابتها "ذاكرة الجسد" تعود فتطل علينا من جديد برواية ثانية هي "فوضى الحواس" هذا العنوان الثاني لأعمالها الروائية الذي ارادته الكاتبة عنوانا للمرحلة الثانية من عملها الروائي الذي اشارت الكاتبة الى انه سيكون على ثلاث مراحل أي في شكل ثلاثية. فهي بذلك تعد بعمل روائي ثالث في المستقبل. اما "فوضى الحواس" فقد كان صدورها عام 1998 عن دار الآداب ببيروت (2). وقد اعتمد هذان العملان الروائيان للتدريس في كثير من الجامعات والمعاهد العربية، منها جامعة بيروت الامريكية وكذا معاهد الآداب في الجامعات الجزائرية من خلال اجتهاد بعض الاساتذة والطلاب. كما ان للكاتبة بعض الاصدارات الاخري خارج الرواية وفي الشعر تحديدا منها "على مرفأ الأيام "- الجزائر 1973، و"الكتابة في لحظة عري" عن دار الآداب 1976، وكتاب صدر لها في باريس يحمل عنوان "الجزائر- المرأة والكتابة "(سنة1985).
والمقام لا يتسع هنا للحديث عن مضمون هذين العملين الروائيين لهذه الكاتبة، فليس موضوعنا هوا لتعرض للمضمون وانما أردناه حول: "لغة الكاتبة في كتابتها الروائية كما هي واضحة في عمليها الروائيين "ذاكرة الجسد" و"فوضى الحواس ". ولعل أفضل ما يلخص مضمون العملين ما قاله نزار قباني عن "ذاكرة الجسد" وهو ينطبق على "فوضى الحواس" لكونها استمرارا ومرحلة ثانية لـ"لذاكرة الجسد" قال نزار عن "ذاكرة الجسد". وعن الكاتبة "أحلام ": "روايتها دوختني. وأنا نادرا ما أدوخ أمام رواية من الروايات، وسبب الدوخة ان النص الذي قرأته يشبهني الى درجة التطابق فهو مجنون، ومتوتر، واقتحامي، ومتوحش، وانساني، وشهواني.. وخارج على القانون مثلي. ولو ان أحدا طلب مني أن أوقع اسمي تحت هذه الرواية الاستثنائية المغتسلة بأمطار الشعر.. لما ترددت لحظة واحدة ". ويتابع نزار قباني قائلا: "هل كانت أحلام مستغانمي في روايتها (تكتبني) دون أن تدري.. لقد كانت مثلي متهجمة على الورقة البيضاء، بجمالية لا حد لها.. وشراسة لا حد لها.. وجنون لا حد له. الرواية قصيدة مكتوبة على كل البخور.. بحر الحب، وبحر الجنس، وبحر الايديولوجيا، وبحر الثورة الجزائرية بمناضليها، ومرتزقيها، وأبطالها وقاتليها، وملائكتها وشياطينها، وأنبيائها، وسارقيها..
هذه الرواية لا تختصر "ذاكرة الجسد" فحسب ولكنها تختصر تاريخ الوجع الجزائري، والحزن الجزائري والجاهلية الجزائرية التي آن لها أن تنتهي..."(3).
والذي يعود الى"ذاكرة الجسد" و" فوضى الحواس"سيقف على مدى صدق نزار قباني عندما علق على ما كتبته أحلام بهذه الكلمات الموحية، ويقف على الأحداث التي ضمنتها الكاتبة روايتها، وهي الأحداث التي طبعت تاريخ الجزائر أثناء الثورة الجزائرية المظفرة، وبعد الاستقلال وصولا الى الأزمة والمأساة التي لطخت تاريخ هذا البلد الشامخ باسم الديمقراطية والتعددية وايديولوجيات شرقية وغربية دفعت بأبناء البلاد الى التناحر، والتطاحن والقتال والاقتتال والسبية كانت "الجزائر" هذا البلد العزيز على قلوب الوطنيين والغيورين، والبلد المقدس في عيون الشهداء الأبرار.
ان ما يهمنا في هذا البحث المتواضع هو الوقوف على لغة الكتابة الروائية لهذه الكاتبة التي فاجأت القواء بعملين روائيين هما مفخرة الأدب الجزائري الروائي.. اذ تمثل الكاتبة نموذجا فريدا للكتابة الروائية "النسائية " في الجزائر. وهي التي ترفض أن تحاكم ككاتبة وتعتبر مصطلح "الأدب النسائي" نوعا من الاهانة للمرأة اذ تقول في حوار أجرته معها مجلة "زهرة الخليج ": "أنا أريد أن أحاكم ككاتبة بدون تاء التأنيث وأن يحاكم نصي منفصلا عن أنوثتي، ودون مراعاة أي شيء"(4).
وتقول في موضع آخر: "ان الكتابة بالنسبة لي متعة، ولا أمارسها الا من هذا المنطلق..." غير ان من أجمل ما كتبته فيما يتعلق باللغة والكلمات والكتابة يرد في نصوصها الروائية ومن ذلك ما تحدثنا به في رواية "فوضى الحواس" اذ تقول: " يحدث للغة أن تكون أجمل منا، بل نحن نتجمل بالكلمات، نختارها كما نختار ثيابنا، حسب مزاجنا ونوايانا". وتتابع قائلة: "هنالك أيضا، تلك الكلمات التي لا لون لها ذات الشفافية الفاضحة كامرأة خارجة توا من البحر، بثوب خفيف ملتصق بجسدها إنها الأخطر حتما لأنها ملتصقة بنا حد تقمصنا". ان عناية الكاتبة بلغتها الروائية يفوق كل توقع، حتى ليخيل للقارئ ان لغة الخطاب الروائي عند "أحلام" هو موضوع النص ذاته، وهذا ليس غريبا حين نعلم أن الكاتبة عاشقة للغة العربية وهي تريد أن تصل باللغة الى مجدها أو تعيد لها فطرتها الاولي بعيدا عن الدنس والابتذال. وهذا الاحتفال والاحتفاء باللغة في الكتابة الروائية عند أحلام يتبدى في كل مقاطع النصوص التي يصدم بها القارئ وهو يقرأ في "فوضى الحواس" أو في "ذاكرة الجسد". ان "أحلام " يمتد بها سرورها باللغة الى جعلها "بطل" النص كما يذهب الى القول أحد الباحثين.(5)
وقد ذهب عبدالله الغدامي في ترضيه العلاقة بين الكاتبة أحلام ولغتها الروائية الى حد القول ان الكاتبة استطاعت ان تكسر سلطة الرجل على اللغة، هذه اللغة التي كانت منذ أزمنة طويلة حكرا على الرجل واتسمت بفحولته، وهو الذي يقرر ألفاظها ومعانيها فكانت دائما تقرأ وتكتب من خلال فحولة الرجل الذي احتكر كل شيء حتى اللغة ذاتها. واذا كانت أحلام تريد أن تحاكم ككاتبة بدون تاء التأنيث فان روايتيها ملتصقتان بالأنوثة وهذا الالتصاق هو الذي جعل عملها الروائي يحظى بالتقدير والتفوق، حيث استطاعت ان تصنع من عادتها اللغوية نصوصا تكسر فيها عادات التعبير المألوف المبتذل وتجعل منها مواد اغراء وشهية، وراحت وهي تكتب تحتفل بهذه اللغة التي أصبحت مؤنثة كأنوثتها، وأقامت معها علاقة حب وعشق دلا على أن اللغة ليست حكرا على فحولة الرجال بل تستطيع أن تكون أيضا الى جانب الانوثة، فصارت اللغة حرة من القيد والثابوهات وصار للمرأة مجال "لأن تداخل الفعل اللغوي وتصبح فاعلة فيه فاستردت بذلك حريتها وحرية اللغة. وكل ذلك من خلال علاقة جديدة حميمية بين المؤلفة واللفة وبالأحرى بين الكاتبة ونسغ الخطاب اللغوي المتألق والمغري كما يبدو عند أحلام.
"فأحلام" هي مؤلفة الرواية، وأحلام هي ايضا بطلة النص، واللغة فيما كتبته أحلام هي الأخرى بطلة، بحيث ان اللغة الروائية في هذين العملين تطغى على كل شيء وتتحول الى موضوع الخطاب وموضوع النص. فامتزجت بذلك انوثة اللغة المستعادة مع انوثة المؤلفة وكذا انوثة "أحلام " البطلة في الروايتين ووحدة العلاقة بين الانثى خارج النص والانثى التي في داخل النص تعني عضوية العلاقة بين المؤلفة ولغتها. وتمتد هذه العلاقة من خلال "اتحاد الانثى (أحلام مع كل العناصر الاساسية في الروايتين فأحلام هي أحلام، وهي المدينة وهي قسنطينة، وهي البطل وهي الوطن وهي الذاكرة وهي الحياة، لأنها في البداية كان اسمها حياة، وهي النص وهي المنصوص، وهي الكاتبة وهي المكتوبة وهي العاشقة وهي المعشوقة وهي اللغة وهي الحلم وهي الألم لأن الحلم والألم: أحلام تساوي حلما وألما.(6)
في الروايتين تحررت المرأة "البطلة " وتحررت معها "اللغة" وتولد من ذلك نص روائي جديد يمجد اللغة بالدرجة الأولى ويحتفي بها. الأدب فن اداته اللغة، فاللغة هي الاداة الرئيسية لكل خطاب أدبي، وكيفية وأسلوب التعامل مع اللغة هو الذي يحدد قيمة وطبيعة الخطاب، فعلاقة الأديب باللغة هي في كل الحالات علاقة خاصة واستثنائية ومن هنا تصبح هذه العلاقة الخاصة، عبارة عن ممارسة للغة pratiqlje) ,(Une تكتسب ابعادا مختلفة وترتقي الى مستوى الحميمية (L'intirnite) ومن ثم فان الخطاب الأدبي من هذا المنطلق، ومن كونه يعتمد على اللغة بل هو اللغة ذاتها يصبح خطابا خاصا باعتبار خصوصية العلاقة ما بين اللغة وصاحب الخطاب، ومادام الأدب فنا، فالفن ينتج عادة للتأثير في الآخرين شعوريا وجماليا، والجمالية L'esthe'tique) لا تتأتى للخطاب الأدبي الا من خلال لغته، ومن ثم فان الكتابة الأدبية تتحول لدى الأدباء الى عملية إغراء (Se'duction) طريق اللغة(DiscoLirs se'ductelir) التي هي الأداة الاساسية لديهم. وهذه العلاقة الخاصة مع اللغة تكتسي أهمية خاصة في التأثير وجلب انتباه الآخرين واهتمامهم ثم تقديرهم. ان الأدب لا يتأتى له ذلك الا بفضل ما للغة من امكانيات هائلة في التعبير التي مصدرها الأساسي هو (المجاز) داخل الاستعمال اللغوي في مجال التعبير الأدبي. ففي الكتابة الأدبية تتحول اللغة من كونها تؤدي وظيفة الاتصال والابلاغ فحسب الى مستويات تعبيرية أخرى، وذلك بتفجير طاقاتها الكامنة عن طريق المجاز وبطرق لم يسبق لها مثيل. ولو ان الأدب كان مجرد كلام عادي لكان ككل كلام. غير أن الادب هو ان تعبر عن الأشياء على غير منوال سابق وهو "السمو بتعبيرية الأشياء والسعي الى احداث عملية تشويش مقصودة في قاموس اللغة..." (8).
والأديبة الروائية "أحلام مستغانمي" تمارس علاقة خاصة مع اللغة، هذه العلاقة الخاصة مع لغتها تجعلها تكسر تلك المعادلة التقليدية والكلاسيكية بين الدال والمدلول، ناهيك ان اللغة في كتابات "أحلام" تتحول الى أداة "اغراء" (Se'duction ) ان "احلام " تتألق في "ذاكرة الجسد" وفي "فوضى الحواس " بل انها تتأنق وتمتاز بلغتها الساحرة المغرية للقارئ، حيث تمارس نوعا من العشق والمحبة للغة، وتصنع من هذا العشق وهذه اللغة أشكالا تعبيرية مريعة ومغرية للقارئ. والأكثر من ذلك أنها - ولا شك - تستمتع وهي تكتب وتبدي نوعا من اللذة والاشتهاء للكلمات والأشياء بغريزة الأنثى التي تعرف قيمة الكلمات المؤثرة.. ويمتد بها الأمر الى حدود المتعة والسرور بالكلمات وباللغة. وهي لا تريد ان يخصها هذا الأمر وحدها.. بل انها تلقي به الى المتلقي- القارئ- حيث تستدرجه بلفة رائعة، صافية، كالحب، كالمتعة، كالشهية.. تستدرجه الى ساحات الريع الكلامي، وساحات الحبور والاحتفاء بالكلمات. أكثر ما يميز كتابتها الروائية هي هذه اللغة الأسرة، التي تأخذك على حين غرة وتأسرك وتمتعك، وتحاول دائما ان تشبهك، حتى تنال منك.. وتغريك بالمزيد من المتعة والجمال.. فهي منذ الوهلة الاولي تمارس دور "الـداندي" (Dandy) الذي يختار لنفسه الصدارة والمنصة البارزة، المتمرد ضد الزمان والمكان وأفكار الآخرين، والبدع للجماليات، والمتمرد على القوالب الجاهزة المأخوذة باناقته وتألقه والذي يشع كشمس غاربة او ككوكب مائل " (9)
ولا يمكن الوقوف على ظاهرة "الاغراء" في لغة "أحلام" الروائية الا بالعودة الى بعض النصوص من روايتيها "ذاكرة الجسد" و "فوضى الحواس" فهي في الاولي ومنذ الصفحة رقم 1 تبدد كل وهم وابتذال وآلية اللغة المحيطة بنا اذ تقول في دعوة مغرية الى مرافقتها وقراءة روايتها: "الحب هو ما حدث بيننا، والأدب هو كل ما لم يحدث... يمكنني اليوم، بعدما انتهى كل شيء أن أقول: هنيئا للأدب على فجيعتنا اذن فما أكبر مساحة ما لم يحدث، انها تصلح اليوم لأكثر من كتاب، وهنيئا للحب أيضا.. فما أجمل الذي حدث بيننا، ما أجمل الذي لم يحدث.. ما أجمل الذي لن يحدث". (10).
وهذا الكلام يفري بسرد الحكاية وهو نفسه الذي تعيده الكاتبة عند خاتمة الرواية: "الحب هو ما حدث بيننا والأدب هو كل ما لم يحدث" ص 403. ويعلق أحد الباحثين مشبها أحلام بشهرزاد موحيا بما كانت تغري به شهريار من حكاية وسرد وقصص ورواية، يقول: "بين ما لم يحدث وما حدث يقع النص بين جملتين امتد الفاصل بينهما ما يقارب 400 صفحة، وامتد زمنيا على مدى سبع سنوات وستة أشهر(11) أي لمدة ألفين وسبع مائة وأر بعين يوما (أو ليلة) مما يجعله يعادل حكايات ألف ليلة وليلة مرتين ونصف المرة أو أكثر. انه النص الذيس ينقض ليالي شهرزاد ليضع مقابلها أيام أحلام...".(12)
ولكن في ألف ليلة وليلة تحكي المرأة ويدون الرجل وفي "ذاكرة الجسد" يحكي الرجل (خالد) وتدون المرأة "أحلام " وهل كانت شهرزاد غير امرأة تحسن القصص وتغري بالمزيد؟ وكذلك كانت "أحلام " ومن أول صفحة امرأة تحكي على لسان رجل وتغري القارئ بالمزيد، فيرافقها على مدى 404 صفحات دون كلل ولا ملل وهو مأخوذ بلغة ساحرة أخاذة لم يعهدها في الرواية والقصص.
الاغراء قوة جذابة، وهنا الاغراء تمارسه الروائية بلغتها الساحرة وتقترن اللغة بالانوثة في النص فتصير شباكا وجمالا خالصا يعد بالمتعة والجمال، وتعرف صاحبة القلم كيف تطرز لغتها ونصها فتزيح الكآبة واليأس عن القارئ وتعده بالنجاة والسلامة والدفء. ومهما قالت أحلام وصرحت، فاننا لا نزال نعتقد بقوة ان لغتها مغموسة ومعجونة بأنوثتها يفوح منها عطر الانوثة ودفئها، وأريج خدود المرأة، ورائحة مواد التجميل، ومسحوق الزينة، ان النص الروائي هنا هو مريب من سحر الانوثة وسحر اللغة حيث يمتزج الاثنان فيصبح النص اغراء بالحب وبالعطر وبالشوق وبالرغبة وبالذاكرة وبالصدق والكذب. انظر الى هذا المقطع من "فوضى الحواس " كم هو "اغراء" وسيلته اللغة الساحرة المغرية بالبوح: "في ساعة متأخرة من الشرق، يداهمها حبه.
هو رجل الوقت ليلا، يأتي في ساعة متأخرة من الذكرى، يباغتها بين نسيان وآخر، يضرم الرغبة في ليلها.. ويرحل. تمتطي اليه جنونها، وتدري: للرغبة صهيل داخلي لا يعترضه منطق. فتشهق، وخيول الشرق الوحشية تأخذها اليه. هو رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية، في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء الى اهازيج نفسها، يوقظ رغباتها المستترة، يشعل كل شيء في داخلها، ويمضي. هو رجل الوقت عطرا، ماذا تراها تفعل بكل تلك الصباحات دونه ؟ وثمة هدنة مع الحب، خرقها حبه، ومقعد للذاكرة، مازال شاغرا بعده، وأبواب مواربة للترقب، وامرأة، ريثما يأتي، تحبه كما لو انه لن يأتي، كي يجيء. لو يأتي.. هو رجل الوقت شوقا، تخاف ان يشي به فرحها المباغت، بعدما لم يثر غير الحبر بغيابه. ان يأتي، لو يأتي. كم يلزمها من الأكاذيب، كي تواصل الحياة وكأنه لم يأت كم يلزمها من الصدق، كي تقنعه انها انتظرته حقا.."(13). ان اللغة هنا تتحول الى مفاجأة مدهشة، وهي لم تعد "نظاما علاماتيا محايدا، لقد تحولت الى انثى مغرية قاتلة مع سمات انثوية قوامها الشعرية والسردية وجرعات زائدة من الذاتية والانفعالية والوجدانية.."، وما يبدو في هذا النص وفي نصوص ومقاطع كثيرة من الروايتين ان أحلام تتحكم في لغتها، تتقنها وتتأنق في استعمالاتها، وتذهب بها الى حدود بعيدة من الشعرية والأدبية، تمارس مع لغتها الغرابة والانزياح حينا والدهشة والفرحة والسرور حينا آخر، تلاعبها، تعانقها وتنتشي بها ولها، وتلامس الكلمات كما تلامس الورود والعطور في دفء، وفي عشق وفي نشوة عارمة تغري وتغري بالبوح دون ان تقول شيئا محددا تماما. ان ملامسة الكلمات على هذا النحو، يذكرنا بقولها في الرواية، في الصفحة الاولي منها: "هو الذي يعرف كيف يلامس أنثى، تماما، كما يعرف ملامسة الكلمات.. الى ان تقول: "يحتضنها من الخلف كما يحتضن جملة هاربة بشيء من الكسل الكاذب..".(14)
لقد اختلط ما هنا حب اللغة بحب الجسد، وصارت اللغة جسدا للمغازلة والملامسة والاحتفاء، صارت اللغة والكلمات موضوع عشق ومحبة ومصدر متعة وروعة، وجمال ونشوة، بجمالية لا نجدها الا عند كبار من قالوا بالدهشة والغرابة في الأدب، وذلك في تراث الشكلانيين الروس في بحث مضن عن الأدبية والشعرية والجمال في الخطاب الأدبي.. وهم الذين أكدوا على "الاغراب" او "نزع الالفة ": "فالشيء النوعي بالنسبة للغة الأدبية - ما يميزها عن أشكال الخطاب الأخرى- هو انها "تشوه " اللغة العادية بطرق متنوعة. فتحت ضغوط الادوات الادبية، تتكثف اللغة العادية، وتتركز، وتلوى، وتنضغط، وتتمدد، وتنقلب على رأسها، انها لغة جعلت غريبة، وبسبب هذا الاغراب يصبح العالم اليومي، بدوره، غير مألوف فجأة.."(15).
وتزخر رواية "ذاكرة الجسد" وكذا رواية "فوضى الحواس"، بلغة الكاتبة التي صنعتها لنفسها وصنعت أدبها بلغة خاصة هي لغتها التي أحبتها وصارت عندها أداة إبداعية ووسيلة إغراء بالجمال الأدبي والفني والمتعة الفنية التي تسحر القارئ وتأخذه إليها طمعا في مذاق جديد للكلمة وللغة الأدبية التي كثيرا ما زج بها في خطابات مبتذلة سميت أدبا تجاوزا أو قهرا. وفي ختام هذا البحث نقدم هذا المقطع من "ذاكرة الجسد" الذي يختلط فيه الشعر بالنثر واللغة بالجسد جسد المرأة وجسد اللغة، وقسنطينة المدينة، وذاكرة الوطن، والرغبة بالخجل، والحب بالحلم، والحرائق والعشق، والمقطع على لسان خالد بطل الرواية: "أكان يمكن أن أصمد طويلا في وجه انوثتك ؟ ها هي سنواتي الخمسون تلتهم شفتيك وما هي الحمى تنتقل الي وها أنا أذوب أخيرا في قبلة قسنطينية المذاق، جزائرية الارتباك.. لا أجمل من حرائقك.. باردة قبل الغربة لو تدرين، باردة تلك الشفاه الكثيرة الحمرة والقليلة الدفء... دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع، دعيني أخبئ رأسي في عنقك، اختبئ طفلا حزينا في حضنك. دعيني أسرق من العمر الهارب لحظة واحدة، وأحلم أن كل هذه المساحات المحرقة، لي فاحرقيني عشقا قسنطينة شهيتين شفتاك كانتا، كحبات توت نضجت على مهل، عبقا جسدك كان، كشجرة ياسمين تفتحت على عجل. جائع أنا إليك.. عمر من الظمأ والانتظار.. عمر من العقد والحواجز والتناقضات، عمر من الرغبة ومن الخجل، من القيم الموروثة، ومن الرغبات المكبوتة، عمر من الارتباك والنفاق. على شفتيك رحت ألملم شتات عمري..(16) وهذا النص الأخير أبلغ مثال على عنوان البحث وأشد تأكيدا على ما ذهبنا اليه.. ــــــــــــــ الهوامش 1 - أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، دار الأدب بيروت، ط 5، 1998. ص 5. 2 - أحلام مستغانمي: ددفرضى الحواس"، دار الأدب، ط 1، 1998م. 3- انظر غلاف رواية أحلام مستغانمي: "ذاكرة الجسد" (بقلم نزار قباني، لندن) ط 5، 1998. 4 - أحلام مستغانمي: "فوضى الحواس"، ط 1، ص 32. 5 - عبدالله محمد الغدامي. المرأة واللغة، ط 1، 1996. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص 191. 6- انظر في هذا عبدالله الغدامي: المرأة واللغة ص 192، 193. 7- Se, duction : Action de se duirer-voir les sens du mot se duction et du mot se duir pourpouvior assimuler et comrendre de ce terme dans la litt erature et I art . 8- عبدالله حمادي: "ماهية الشعر". مقدمة ديوان "البرزخ والسكين "، وزارة الثقافة، دمشق 1998،ص 6. 9 - أنظر عبدالله حمادي: مساءلات في الفكر والأدب (مقال بعنوان. طاهرة الدايديزم في الأدب العرمي) ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر 1994 10 – "ذاكرة الجسد"، ص 7. 11 - عبدالله الغدامي: المرأة واللغة، ص 185. لا بدأت أحداث الرواية في ابريل 1981 (ص 65) واستمرت حتى عام 1988، "ذاكرة الجسد". 12 – "فوضى الحواس " ص 10، 11. 13 - عبدالله الغدامى: المرأة واللغة. 14 - فوضى الحواس، ص 1. 15 - تيري انجلطون: مقدمة في نظرية الأدب، ترجمة: أحمد حسان، ط 2، القاهرة 1112، ص ا 1. 16 - ذاكرة الجسد، ص: 172- 123