تطبق الجامعات الغربية قاعدة (publish or perish) انشر أو اختفي، لذا يحرص أساتذتها على إعداد ونشر بحوثهم النظرية والميدانية قبل موعد تجديد عقودهم أو تقديم طلبات الترقية الأكاديمية. لا أشك بأن حماس أستاذنا الراحل حنا بطاطو لبحثه المميز عن النخبة العراقية لم يكن مدفوعاً بالدرجة الأولى بحرصه على البقاء في وظيفته بالجامعة الأمريكية في بيروت أو الحصول على الترقية، وكنت أتخوف من أسئلته الكثيرة عن أقاربي السياسيين ليقيني بانه يعرف عنهم أكثر مني، وازداد اعجابنا به بعد طرده طالب أمريكي لقوله بأن تدريس الماركسية مضيعة للوقت، بالمقابل كان أستاذ آخر لا أود الإفصاح عن اسمه مثالاً للخمول الأكاديمي، وحتى طلابه اشتكوا مستهزئين من مكتبه المهجور إلا من بيوت العنكبوت، لكنه داوم على الجلوس لساعات في مطعم فيصل المقابل لمدخل الجامعة الرئيسي، وأمامه إبريق شاي ملئ بالويسكي ويكرر نكتة عن قروي أو بدوي دخل مكتبة وأخطأ في قراءة عنوان رواية "بول وفرجيني" التي ترجمها لطفي المنفلوطي، ولا أظن السعوديين الذين كلفوه بإدارة مركز إسلامي في شارع السادات اكترثوا لكسله الأكاديمي أو مشروبه المفضل وسخريته من البدوي.
مع بداية القرن الحالي وانتشار الإنترنت ظهر ما يعرف بـ([1](open access أو الولوج المتاح بهدف حصول المكتبات الجامعية والباحثين على البحوث المنشورة مجاناً، وبينت مبادرة بودابست[2] Budapest Open Access Initiative المصادر التمويلية البديلة لفقدان دور النشر عوائد الاشتراك في الدوريات ورسوم تحميل البحوث المنشورة فيها، ومن بينها مساهمة الباحثين في تكاليف النشر، وسرعان ما تبنت دور نشر عالمية الأسلوب الجديد في النشر فتوفرت للباحثين الآلاف من البحوث في حقول المعرفة مجاناً، ولم يمر وقت طويل حتى ظهرت دوريات جديدة بعناوين براقة، وتضم هيئات التحرير الحقيقية أو المختلقة فيها أكاديميين مختصين من الشرق والغرب، وتفرض على الباحثين الراغبين بالنشر فيها دفع مئات الدولارات مقابل نشر بحوثهم بحجة كون أعدادها متاحة مجاناً على مواقعها، ولأنها صادرة لا من دور نشر عريقة وجامعات مرموقة بل من شركات مستحدثة، لا يعرف عنها سوى أماكن عملها ووسائل الاتصال بها، وتنشر البحوث من دون تقييم محكم وموضوعي صنفها الباحث في شؤون المكتبات جيفري بيل " منشورات مفترسة"[3] لأنها تفترس البحث وتستغل الباحثين لأغراض مادية بحتة، وأدى ظهور ما يعرف بقائمة بيل إلى ضجة بين هؤلاء الناشرين المحتالين والمشبوهين، ودفعت الضغوط والتهديدات بالمكتبي بيل لإخفاء قائمته، فتولى آخرون احياءها ونشرها وتحديثها. للبرهان على التهاون الفاضح لهذه الدوريات في الالتزام بأصول النشر العلمي الرصين عمد باحثون إلى إرسال تقارير بحث مختلقة وبعناوين ساخرة إلى عدد منها فقبلت للنشر، ومن أبرزها مقال بعنوان يتضمن كلمة فاحشة ومتن المقال مجرد تكرار للعنوان[4]، وحصلت صحيفة كندية Ottawa Citizenعلى موافقة للمشاركة في مؤتمر "علمي" ترعاه دار OMICS للنشر الهندية بموضوعين هزليين، الأول الميكانيكا البيولوجية لكيفية طيران الخنازير والثاني حياة طيور أبو الحناء داخل مياه المحيطات مقابل دفع حوالي ألف دولار أمريكي[5]، واتهمت هيئة التجارة الأمريكية الفدرالية OMICS في 2016م بخداع المؤلفين للحصول على أموالهم ووصفتها بالمحتالة [6]scammers. وفي كندا ادعى أستاذ في كلية الأعمال والاقتصاد بجامعة Thompson Rivers تعرضه للمضايقات والطرد من الحرم الجامعي بعد كشفه عن نشر أعضاء هيئة التدريس في الكلية بحوثهم في دوريات تجارية مفترسة[7].
أرتفع عدد البحوث المنشورة في الدوريات التجارية من 53000 في 2010م إلى 420000 في 2014م[8]، وهي قفزة هائلة ومقلقة في كل المقاييس، إذ أقبل أكاديميون وباحثون من دول مختلفة على نشر بحوثهم فيها، والحصة الأكبر لدول أسيوية وأفريقية مثل الهند ونيجيريا والصين ودول عربية مثل السعودية، وفي احصائية لصحيفة عكاظ السعودية بلغ عدد الأكاديميين السعوديين المنشورة أبحاثهم في دوريات OMICS 730 ومن ضمنهم عضو سابق في مجلس الشورى واثنان من وكلاء الجامعات[9]، وللباحثين من أمريكا وأوروبا حصة غير يسيرة من البحوث المنشورة في هذه الدوريات، إذ بلغت نسبة البحوث التي قادها أمريكيون 15% في عينة إحدى الدراسات المسحية[10]، كما أظهر تحقيق صحفي للمؤسستين الألمانيتين للبث NDR وWDR وبالتعاون مع مؤسسات صحفية ألمانية وعالمية في عام 2019م بأن 5000 عالم ألماني نشروا بحوثاً في دوريات غير ذات قيمة صادرة عن دور نشر مريبة، ومن أبرز هؤلاء عالمان ساهما في تطوير السيارة الكهربائية (ستريتسكوتر) StreetScooterوبرنارد شولتز- ريتر رئيس جامعة برمن إضافة إلى شركات أدوية كبرى وموظفين في أهم الشركات الألمانية، مما حدا بوزيرة التعليم والبحوث الفدرالية إلى الدعوة إلى التحقيق في هذه الممارسات[11]. يستدل من كل هذه الأدلة على انتشار هذه الظاهرة في مختلف دول العالم وإن بدرجات متفاوتة وتأثيراتها السلبية الوخيمة على مستقبل البحث والثقة بنتائجه.
للدّلالة على خطورة النشر غير المنضبط أضرب مثلين من عالمنا العربي من العراق والإمارات العربية المتحدة. في عام 2008م نشر الدكتور بهجت محي الدين بحثاً في دوريةEuropean Journal of Scientific Research [12]، وسط ترحيب كبير من وزارة التعليم العالي وجامعات العراق لأن البحث على حد ادعائهم فتح علمي باهر دحض نظرية أينشتاين و"غير مجرى التاريخ"[13]. لست مختصاً بالكيمياء أو الفيزياء، لكن دفعني الفضول لتقصي الموضوع فتأكد لي أن الدورية تجارية ومن النوع "المفترس"، إذ لم يكلف رئيس تحريرها ومقيموها المفترضون أنفسهم تصحيح الأخطاء اللغوية والإملائية قبل نشر التقرير، كما لا تختص الدورية بفرع دقيق من اختصاص علمي على غرار الدوريات العلمية الرصينة، بل تبدي استعدادها لنشر البحوث في كافة فروع المعرفة النظرية والتطبيقية[14]، وانخفضت رسوم النشر فيها من 400 دولار في 2008م إلى 250 دولاراً حالياً، وصدر منها في عام 2012م وحده 108 عدداً، وبمعدل 20 تقريراً في الإصدار الواحد، فيكون مجموع التقارير المنشورة فيها لذلك العام 2160، أي أن المطلوب من هيئة التحرير والمقيّمين استلام وتدقيق ومراجعة وإعداد التقييم وإرساله إلى الباحث أو الباحثين مع أو بدون طلب التعديل مع احتمال اجراء مراجعة ثانية أو أكثر لما يقارب ستة تقارير في اليوم الواحد، وهو أمر مستحيل، علماً بأن هيئة تحريرها مناط بها تحرير دورية أخرى في العلوم الاجتماعية، وهي European Journal of Social Sciences، والدوريتان والعديد من أمثالهما صادرة عن مؤسسة FRDN، ومقرها في جزيرة سيشل ولها مكتب في مجمع تسويق تجاري. من المتوقع أن يثير صدور بحث يصحح نظرية أينشتاين اهتماماً واسعاً بين العلماء، لكن المعلومات المتوفرة تشير إلى العكس، إذ يسجل موقع Google Scholar وجود 11 اقتباساً عن تقرير البحث وكلها من قبل الباحث نفسه[15]، أي self-citation.
المثال الثاني من الجامعة الأمريكية في الإمارات، وبالتحديد رئيسها العراقي الأستاذ مثنى عبد الرزاق. يعدد موقع Google Scholar أربعة مؤلفات للباحث، وكلها مشتركة مع أسمى سلمان وهي أستاذة في نفس الجامعة[16]. تتضمن المؤلفات كتاباً مؤلفاً وكتابين محررين وفصلاً في كتاب، وتقتصر مساهمة الباحث في أحد الكتابين المحررين على مقدمة. جميع المؤلفات منشورة من قبل شركة IntechOpen، وهي من نوع الولوج المتاح، أي يفترض توفرها على الإنترنت بدون مقابل، لكنها كما يبدو كانت تباع على موقع أمازون. تستوفي الشركة مبالغ مالية من المؤلفين تتراوح بين 1400 جنيه إسترليني مقابل نشر فصل في كتاب محرر إلى 4000 جنيه إسترليني لكتاب، وتفرض رسماً إضافياً مقداره 40 جنيهاً لكل صفحة إن زادت صفحات الفصل عن 20، كما تجبي رسوماً أخرى للمنشورات التي تتطلب مراجعة وتصحيحاً[17]. وهي مدرجة في قائمة لدور النشر والدوريات "المفترسة"[18] والدفع مقابل النشر في أمثالها لغرض التباهي والمفاخرة vanity publishing.
يهدد اقبال الأكاديميين العرب على النشر في دوريات النشر التجارية والمشاركة في مؤتمراتها حاضر ومستقبل التطور العلمي في الدول العربية، والجامعات ومؤسسات البحث العربية التي تقبل بالبحوث المنشورة فيها للتوظيف أو الترقية العلمية شركاء في هذه الجريمة.
[1] http://blogs.harvard.edu/openaccess101/what-is-open-access/what-is-open-access/
[2] https://www.budapestopenaccessinitiative.org/read
[3] Declan Butler, 2013.The dark side of publishing: The explosion of publishing has fuelled the rise of questionable operators. Nature, vol. 49, No.5, pp. 433-435.
[4] Najmeh Shaghaei, Charlotte Wien, Jakob Povl Holck, Anita L. Thiesen, Ole Ellegaard, Evgenios Vlachos and Thea Marie Drachen, 2018. Being a deliberate prey of a predator: Researchers’ thoughts after having published in a predatory journal. Liber Quarterly, vol. 28, No 1, pp. 1-17.
[5] Post Media News, For US$999, 'Science conference' will let you present research on flying Pigs or underwater roadrunners. National Post, March 12. https://nationalpost.com/news/canada/when-pigs-fly
[6] Tom Spears, 2016. Owner of Canadian medical journals publishes fake research for cash. Ottawa Citizen, November 22. https://ottawacitizen.com/news/local-news/owner-of-canadian-medical-journals-publishes-fake-research....
[7]Colleen Flaherty, 2018. Pointing the finger at colleagues: Scholar's article said his colleagues were publishing in "predatory journals." Now he's banned from campus. Inside Higher Education, November 26.
[8] Cenyu Shen and Bo-Christer Björk, 2015.‘Predatory’ Open Access: a Longitudinal Study of Article Volumes and Market Characteristics. BMC Medicine, vol. 13, October 1. https://doi.org/10.1186/s12916-015-0469-2.
[9] خالد عباس طاشكندي، 2017. عكاظ تكشف تورط مئات الأكاديميين السـعوديين في نشر أبحاثهم عبر OMICS. عكاظ، الخميس 30 نوفمبر.
[10] Najmeh Shaghaei, Charlotte Wien, Jakob Povl Holck, Anita L. Thiesen, Ole Ellegaard, Evgenios Vlachos and Thea Marie Drachen, 2018. Being a deliberate prey of a predator: Researchers’ thoughts after having published in a predatory journal. Liber Quarterly, vol. 28, No 1, pp. 1-17.
[11] Kelly D. Cobey, Agnes Grudniewicz, Manoj M. Lalu, Danielle B. Rice,Hana Raffoul, and David Moher, 2018. Knowledge and motivations of researchers publishing in presumed predatory journals: a survey. BMJ Open, 9, issue 3. http://dx.doi.org/10.1136/bmjopen-2018-026516.
https://www.ndr.de/der_ndr/presse/More-than-5000-German-scientists-have-published-papers-in-pseudo-scientific-journals,fakescience178.html
[12]http://mrelativity.net/Papers/37/On%20Heuristic%20Viewpoints%20Concerning%20the%20Mass,%20Energy%20a...
[13] : عالم عراقي غير مجرى التاريخ بعد قرون من التصورات والجدل: قلب رأساً على عقب مفاهيم غابت حقائقها عن عباقرة التاريخ http://uobaghdad.edu.iq/?p=774
[14] https://www.europeanjournalofscientificresearch.com.
[15] https://scholar.google.com/scholar?cluster=101443926905793549&hl=en&as_sdt=0,5
[16] https://scholar.google.com/scholar?hl=en&as_sdt=0%2C5&q=%22Muthanna+G.+Abdul+Razzaq%22&b...=
[17] https://www.intechopen.com/page/OA-publishing-fees.
[18] https://predatoryjournals.com/publishers.