الـى أمي..
مفتتح
تزاوج الرجل والمرأة والسماء والأرض ؛ فولدت الأسطورة وانبثقت المياه ونشأت الحياة ، أمسك الصيادون والرعاة بمفاتيحها وأسرارها المقدسة ، فأصبح البشر مهددين بالموت في كل لحظة وسكنتهم الوحشة ، وما عادوا يستطيعون المقاومة سوى بالقلب مادامت رغبتهم في الحب هي رغبتهم في الخلود، ومادامت الروح ترفرف ولم تهرب من الجسد لتلتحم بأمها السماء في رضاع أبدى ليس من ورائه فناء.
ِدشــر ُور*
ِبر ُمورا
كان المطر ينهمر متعاظماً، والرياح نشطة تحرك كل شيء، والهواء يصفر وسط البحيرة، والسماء ثائرة. تعبث العواصف المطيرة بسماء القرية وأرضها، تعصف الرياح بأوراق الأشجار، معلنة عن نهاية الخريف وقدوم شتاء عاصف محمل ببرودة قاتلة. سكن كل شيء في حضن الأرض الرطب.
تبدو القرية صامدة في وجه الرياح ذات الضربات القاصمة، متدرجة على شط البحيرة، على هيئة أكواخ بسيطة مصنوعة من أعمدة خشبية وبوص ومسقوفة بأنصاف جذوع نخيل وطين وقش. كفل لها انخفاضها النسبي ووجودها على شط البحيرة المنحدر، النجاة من قبضة الأعاصير المدمرة في الشتاء.
أخذها عوماً في النهر حتى وصل عن طريق فرعه الضيق الصغير إلى موضع القرية الحالية التي لم يكن لها أي أثر على الإطلاق، وصلها قبل أن يكون هناك شىء. إنه الجد أناتم المغامر، أعجب بمكان متميز على ضفاف البحيرة؛ فأسس القرية.
ذات يوم بعيد، مرّ به قوم من الغجر في إحدى رحلاتهم غير المنتظمة، استضافهم، وحين أوشكوا أن يرحلوا لاستئناف ترحالهم الذي لا ينقطع أبداً، تعلق بإحدى بناتهم، رغب في الزواج منها، رفضوا، أصرا على الزواج، قاطعها أهلها لزواجها من غير جنسها. أراد أناتم أن يؤمّن القرية؛ حوّل مجرى النهر عنها وأبعده قليلاً إلى الشرق حتى تنجو من ويلات الفيضانات المدمرة. وأصبح من الممكن التسلل إلى النهر على قارب صغير من أعواد البردي عبر مجرى مائي صغير وسط أحراش البوص والبردي المتكاثفة. لا ينجو القادم إلى هذا الممر المائي الصغير من هجمات الطيور المائية الكبيرة الشرسة أو الصغيرة المشاكسة، وتعوق حركة قاربه النباتات المائية ذات الزهور النضرة اليانعة شديدة الكثافة والحيوانات المتسلقة والزواحف والحشرات الطائرة.
كان أول من خرج إلى النهر عبر هذا الممر الوعر، واستطاع قهر ما واجهه من صعوبات والسيطرة عليها، وعاد إلى القرية من الطريق نفسه، واحتفل أهل القرية بالقادم العزيز بعد غياب طويل ظنوا معه أن مكروهاً أصابه. اصطاد أحد أفراس النهر، نصب ساقيه في مدخل القرية للقضاء على الخوف في قلوب القادمين من أصلاب أهل القرية، واستخدم شعره في صناعة الأسواط، وأفاد كذلك من جلده وأنيابه. من نسله انحدر أونان، آخر خلفائه المتبقين من ذريته، بعد أن غدر الوباء والزمن بالجميع وفتكا بهم في سنوات تبعد عن الذاكرة كثيراً وتنوء بحملها الكواهل والأعمار.
في الفجر، يشدون قواربهم الصغيرة ومراكبهم الشراعية على سطحها بحثاً عن الرزق، ومع اقتراب المغيب، تصل القوارب والمراكب محمّلة بالكثير من الخيرات. تفرح القرية. تجرى مياه النهر صافية، يقول سيد القرية، أونان:"منذ عصر أسلافنا الأوائل، نحافظ على الأشجار والحيوانات وكل شيء داخل القرية. عندما نفكر في الأماكن وفى أرضنا، تلتاع قلوبنا. في كل مكان أذهب إليه، أشعر أنني بحاجة ملحة إلى البكاء الدائم! كل تاريخنا مسجل في هذا المكان". تطل الخفافيش على القرية ليلاً، يملأ أعينها الدمع، تحبس أنفاسها الحارة، تحرسها من أي دخيل أو قادم غريب...
البحيرة العجوز
بحيرة أزلية معمرة؛ رقعة مائية ضخمة، تكوّنت بمعجزة وسط الصحراء القاحلة. بقرة السماء على الأرض، سماء سائلة، اختبأ فيها الابن الذكر، ذات يوم، صار الشمس التي تلد الحياة واليوم كل نهار، في شيخوخته، أصبح القمر بطريقة غامضة، متخذاً صورة فرس النهر، هرباً من شكله المتمرد عليه دوماً.
البحيرة فيض من المحيط الأزلي السماوي، أم جميع الأرباب، واهبة الحياة لكل البشر. وضمنت بقاء القرية المستمر، على عكس أغلب القرى الأخرى التي أصابها الانقراض، كذلك ضمنت لها الخصوبة والحيوية وجعلت أرضها خصيبة عبر طرح النهر الفيضى. تكفّل الابن، الذكر القوى، باستمرار الحياة والخصوبة والتكاثر لكل الكائنات، من هنا تجيء أهميته. تقل في مستواها عن مستوى سطح البحر مسافة كبيرة. ولها أكثر من ألف اسم ويحمل كل جزء منها تاريخه الخاص.
تلتحم بالنهر عبر فرعه الصغير الضيق، في موسم الفيضان، يصعب على أحد مقاومة هذا المجهول القادم بموره الهائج وطميه القاتم وغضبه الثائر القاتل. تعصف الأمواج بالأكواخ القريبة من الشاطئ، يهجرها أهلها بعد فشلهم في نقلها إلى مدرجات عليا بعد إخلائها، يعودون إليها بعد حين، بعد أن ينحسر الفيضان، تعود البحيرة إلى حالتها الطبيعية، هذا إن لم يجرفها التيار معه في اهتياجه الطائش. يثور النهر بين الحين والآخر، يجرف في طريقه كل الأشياء، يرتفع الماء في البحيرة، يقلب القوارب الصغيرة السابحة على صفحة الماء أو الراسية إلى شاطئ البحيرة، يغرق الأكواخ الكائنة على مدرجاتها الشاطئية، يموت من يموت ويهلك من يهلك، يهجر كوخه من يهجر، يتركه فريسة لفيضان النهر الهائج الذي يقضى على كل ما يعترض طريقه، وعلى بحيرتهم الهادئة المنخفضة عن مستوى النهر الذي يصل فيضانه إليها عبر فرعه الصغير الضيق أو من خارجه.
فرس في الليل
تهطل السماء بغزارة كاسحة، تغرق المساحة المنحصرة بين سطح البحيرة وقبة السماء القاتمة، يصبح الماء متصلاً بينها وبين الأرض. يزداد زيادة كبيرة، مشكلاً دوامات مائية ثائرة في دفقات متعاقبة لاهثة، تكثر وسط البحيرة، تتوالى متسارعة نحو الشاطئ، ثم ترتد ثانيةً بنفس السرعة لدى اصطدامها به. تتخلى البحيرة عن هدوئها الأثير، تصخب تحت نوبات المطر المتساقطة في انهمار وحشى، مستسلمة دون أدنى مقاومة لضرباتها النافذة، تتلاطم الأمواج وترتفع مسافات طوال.
مذ مالت الشمس إلى المغيب، وهو قلق وحائر للغاية، يسبح في البحيرة سبحات تقليدية تفتقد حقيقة روحه المغامرة والمتوثبة، في تراتب ممل، يبغى مرور الزمن وكسر رتابة الحيرة والقلق والإطاحة بهذا الوقت العصيب القاتل. أهذه الدقائق القليلة تفعل بك هذا يا سيد البحيرة؟!
تركت أنثاك تلد، لم تستطع مشاهدتها وهى تحت وطأة هذا الفعل القاتل. تحلم بأن تنجب لك ذكراً هذه المرة، تعوض به طوفان الإناث الكثيرات اللواتي رزقت بهن، وإن جاء ذكر، لا يعيش طويلاً، ويكون مكوثه في هذه الحياة، مرهوناً بزيارة الموت للبحيرة، وتسلله من أحد أبوابها السفلية العديدة، يحدث هذا في الظلام عادة، وأنت نائم والوليد إلى جوار قلبك، تحس أثناء أحد احتضاناتك إياه، بأنه لا يتنفس، لاحس ولا حسيس، يشملك الحزن، تعلم أن رسول الموت تلقفه في أول مراسم زيارته، تلقاه في أقرب نقطة، قتله بخنجره المسموم دون أن يدميه، ونسى أنه أدمى قلبك -أنت ولا أحد غيرك- في نفس اللحظة كعادته. وبذلك تفقد الذكر في إثر الآخر. مأساتك كبرى. عسى أن يحلها لك، مقدم ذكر جديد، يبقى لك، ويحيا في كنفك الممتلئ الفارغ.
يبدو الجو مظلماً تماماً، غاب القمر عن السماء هذه الليلة، وارتحل إلى مخبئه السري الذي لا يعلمه أحد.
برز رأسه الكبير الضخم فوق سطح المياه الهائجة، لم تشغله ضربات المطر القاتلة، هي أهون عليه من هول الانتظار وألم المواجهة، صاح صيحة صاخبة محاولاً زفر كل الغضب والقلق والحيرة من صدره، اهتزت لها جنبات البحيرة في جوف الليل. حين اكتمل خروجه من الماء، فغر فاه، امتلأ بماء المطر الغزير، أفرغه في ضجر واضح، ثم صاح صيحات متعاقبة في نوبات صارخة.
اجتاز أدغال البوص والبردي، تدرج في صعوده مدرجاتها الشاطئية، ابتعد عنها شيئاً فشيئاً، خطا متكاسلاً نحو شاطئها البعيد.
خرج إلى فضاء الأرض البراح الموحلة، داست أقدامه الثقيلة في طريقه كل الحشائش والأعشاب والنباتات القصيرة، سائر لا يلوى على شئ.
لم يمر بهذه الحالة من السوء والضعف من قبل. ما الذي أصاب سيد البحيرة ؟! يتحكم فيها وفى كل ما بها من كائنات، اكتسبت أهميتها من وجوده، فنسبت إليه، وأُطلق عليها " بحيرة الأحمر العجوز"، أو" بحيرة العجوز" اختصاراً.
هو الشمس والنهر والأرض والقمر والنور والقوة والذاكرة في آن واحد، ومع هذا يقلق!!
رفع رأسه نحو قبة السماء. تلاشت ملامح القوة ومعالمها من وجهه، صار وديعاً للغاية، بان خائراً تماماً، تكاد طيات رقبته السميكة تتمزق من شدة تصويب وجهه إلى أمه السماء فترة طويلة تمر عليه مؤلمة. انطلقت صرخة أنثاه من أعماق البحيرة، مجلجلة، دمعت عيناه الجاحظتان، أوشكتا أن تخرجا من محجريهما. ساهم ازدياد المطر المنهمر في تعميق قلقه وحزنه، اهتاج لونه الأحمر كنار حارقة بمضي الوقت.
خطا خطوات واسعة على الأرض المعشوشبة المبتلة، منكس الرأس، هز ذيله القصير السميك، محاولاً التنفيس عما يجيش به صدره من ألم. ألقى بجسده الضخم على الأرض متمرغاً حتى سقط في منطقة موحلة تشبه البركة الصغيرة، كوّنها المطر المتساقط، استكان لها هرباً من زخات المطر المتكاثفة عليه، وفيضانات الأخيلة الحارقة المؤرقة، نام على ظهره مستسلماً، فاقداً أية رغبة في الحركة أو الخروج من هذا المستنقع. تنثال الدموع من عينيه مع انهمار المطر المتعاظم.
ترك نفسه لدغدغة الحلم وخدره اللذيذ يهبطان به، تخيله ذكراً، أطلق العنان لخياله، هاهو يحمله فوق ظهره ويشق البحيرة، ويسير وراءه قطيع الأفراس، من الذكور والإناث على السواء، لن يتخلف عن موكبه أحد، يعلمه كيفية الهجوم والمناورة والمراوغة، يستجيب الصغير في منتهى السرعة، كذلك كيف يحكم ويسيطر ويتسيد، و كيف يحب.
توقفت دموعه المنثالة تدريجياً، تعلو شفتيه ابتسامة مبتسرة، أكّد لنفسه أنه سوف يصطحبه معه في كل تنقلاته حتى يحميه من رسول الموت هذه المرة، لن ينام ككل مرة ويتركه فريسة وحيدة في الظلام، سوف يبدّل نظام حياته، لن ينام في الليل مطلقاً، سوف ينام بعض الوقت نهاراً، يصحو ليلاً، يحرس ولده الصغير، لا يغادره أبداً. سقط المطر عليه بشدة، أفاق من حلمه الأثير المراوغ.
يا فرس الأفراس المعمّر،
يا أيها الذكر العظيم،
يا قوى الإخصاب،
يا سيد الجزر الغارقة والطافية معاً،
يا من أمه السماء،
يا من جئت بالشمس المباركة من الأمواج الشرقية البعيدة،
يا أيها الذي خرج من المياه الأزلية المقدسة،
اهدأ،
لا تقلق.
هل يأتي الفرج مصحوباً بالبشارة المبتغاة، ويكون المولود ذكراً؟..يكبر ويداعبه الأب، يلقنه أصول كل شيء تعلمه في حياته المديدة، ومن ثم يعتلى"عرش الأحمر العجوز" من بعده خلوده إلى الراحة ودخوله عالم السكون، في الغرب الجميل، في مملكة الحق، يخشى أن تضيع مملكته بين أزواج بناته الكثيرين، لو جاء ذكراً كما يتمنى، سوف يصبح أبرز عناصر القطيع المقاتلة والمطاردة كل من تخول له نفسه الاقتراب من فضاء البحيرة العريض: بحيرة أفراس النهر الشرسة.
تلقت، برفق، إحدى إناث الأفراس المساعدات، الفرس الوليد الهابط من بطن أمه في حجم مخيف حقاً، ثم ما لبث أن صرخ صرخة عفوية بريئة، فور قدومه الحياة. ارتفع صخب الإناث وضجت منطقة "الأحمر العجوز" بالفرحة بمقدم الفرس الأحمر الصغير.
عبثت كل واحدة مع الأخرى، سرت روح الفرحة في كل أفراد القطيع. اقتربت الحياة وئيدة من الفرس الوليد، ورفعنه إلى الماء ليتنفس نفس الحياة الأول. قبّلته إحداهن. لونه أحمر ملتهب كأبيه، وشكله يبعث في النفس، السرور، وحاله وأمه، مطمئنة، هدأت المساعدات وأخذن في تجفيف العرق المتصبب على وجه الأم.
سوف تهيأ له مهداً آخر في البر، تأخذه لتعلمه السباحة إلى جوارها، كما تقتضى أصول تنشئة الأفراس الصغيرة، سوف تحمله فوق ظهرها، يسير على الأرض ملاصقاً لها، بجانب رقبتها حتى تستطيع مراقبته، سوف يتقن السباحة جيداً بسرعة. لما استبد به القلق، هبط إلى قلب البحيرة ثانيةً، المطر على أشده، استقبله أحد شباب الأفراس الذي بحث عنه طويلاً في كل مكان يتوقع وجوده فيه، عاد يائساً إلى قطيع الأفراس يخبرهم بفشله في العثور عليه. لم تسعه الفرحة حين بشّره الفرس بالذكر الفحل، الآية في الجمال، الذي ليس له مثيل.
دنا من زوجته، لعق وجهها الذي مازال يتصبب عرقاً بلسانه الأحمر القاني. فرحت باهتمامه ورقته وشعرت نحوه بالزهو والامتنان. بدأ إحساسه المشحون بالقلق والتوتر والضجر، يزايله، ابتسم أخيراً. تشبعت نفسه بالهدوء والارتياح. انطلقت أصوات الأفراس الصاخبة تجوب سطح البحيرة معلنة في سعادة ميلاد ولى العهد:"الفرس الأحمر الصغير"، راقصة رقصاتها الدائرية البديعة في عرض البحيرة تحت المطر الكثيف المتساقط، تلهو برش بعضها البعض بالمياه بأفواهها الكبيرة كالدلاء.
في وصف الفرس
عمّر طويلاً، عاصرته أجيال عدة من الأفراس، لا يحيط بعمره الحقيقي أحد. لم تحفل البحيرة بفرس مثله.
حدث أن تفشى بالبحيرة مرض عضال، كان من نتيجته، موت جميع أفراسها ما عداه، أحس بوادر المرض؛ فر من البحيرة مبتعداً عنها أقصى ما يكون الابتعاد، لما شعر أن الفترة التي قضاها خارجها كانت كفيلة باختفاء آثار هذا المرض، عاد ولم يجد أحداً من الأفراس على الإطلاق، حزن حزناً شديداً على فراق أهله وأصدقائه من جماعة الأفراس التي كانت تعينه على تحمل تبعات الحياة القاسية، تجاوز أزمته وبحث عن أفراس أخرى في المناطق المحيطة، دعاها لتعمر معه البحيرة الخاوية من جديد.
غاص في الماء، أغلق خياشيمه، ضغط فارداً أذنيه بانبساط يجعلها مسطحة عكس رأسه مانعاً الماء من دخولها. رفس رفسة قوية. بقى تحت الماء مدة، ثم صعد للتنفس، أصدر شخيراً هائجاً، صفّر يطرد الهواء القديم من رئتيه من فتحتي أنفه. سار برشاقة في الماء، حيث قضى معظم وقته في هذا اليوم المشرق، ثم آوى إلى مخبئه السري قبل حلول الظلام. ثم عاد إلى البحيرة، غمر نفسه في مائها فترة قصيرة، تاركاً أذنيه وعينيه ومنخاريه خارج الماء، جاعلاً من ظهره مهبطاً لطائر معين يتغذى على تنظيف جلده، لا يجرؤ أي طائر آخر غيره على الاقتراب منه، الكل يعرف مدى شراسته، بعد أن مات هذا الطائر لم يقرب جلده طائر آخر، حزن على رحيل صديقه الطائر حزناً عميقاً، اكتفى بتنظيف نفسه بنفسه بحك جلده في أي جسم صلب، أو أن تقوم بذلك إحدى زوجاته العديدات.
في الليل، عند خروجه من البحيرة، ترك على الأرض آثاراً منتظمة الأبعاد، دمدم في تثاقل، والعتمة والظلام القاسيان يوشكان على الحلول، عرفوا أنه جائع، يستعد لتناول طعامه، استعدوا له بوجبة كبيرة للغاية، بينما أغلب الحيوانات الأخرى ساكنة بسبب هبوط الليل. تثاءب مظهراً أنيابه الكبيرة الضخمة، أكل الوجبة. سار مسافات طوال بحثاً عن وجبة أخرى أكثر مناسبة، لما عثر عليها، أفناها فى الحال.
قضى مدة طويلة أثناء مرعاه الليلي الهادئ، عاد قبل طلوع الفجر بقليل إلى كهفه السري على جزيرته المفضلة حيث قضى بقية يومه، بعد أن حصد غلال الفلاحين.
يعشق منطقة وسط البحيرة، يترك الحواف للأفراس الأخرى، يتنزه فى الغالب، فى منطقة فم البحيرة حيث تلتقي بالفرع الصغير المؤدى للنهر.
بظهوره تنخفض معدلات الحركة والصيد فى البحيرة. يسحب الصيادون قواربهم الصغيرة إلى الشاطئ قبل أن يغرقها، يقدمون له وجبة دسمة من الأعشاب النباتية الغنية والكثيفة كرشوة، حتى ينجوا من شره ويأمنوا على حياتهم فى عرض البحيرة تحت رحمته، عندما يقترب من الشاطئ، يقدمون له وجبة كبيرة أيضاً حتى لا يفسد محاصيلهم التي تعبوا طويلاً فى زراعتها، بينما هم نيام بالليل.
دعوه "الأحمر العجوز"؛ بسبب لونه الأحمر الملتهب، وأزليته، وشراسته الزائدة. يقف وسط البحيرة، فاغراً فاه، مهدداً كل من ينزلها من أهل القرية.
ظهوره بمثابة النذير، تتوقف كل الأعمال فيها. يمتنع الرجال عن الاستحمام فيها. تكف النساء عن الذهاب إليها لغسل الملابس وتنظيف أواني الطعام الفخارية. يكرهه أهل القرية؛ لنهمه الشديد في الطعام؛ ولمهاجمته المستحمين في البحيرة؛ وتحطيم قوارب الصيد؛ وحرمان النساء من نزولها لملء جرارهن وغسل أوانيهن وملابسهن أو حتى اللهو البريء في الماء وترطيب الأجسام المرهقة.
في حضرته الطاغية، تصدر الإناث صوتاً مثيراً مغوياً، تستجيب الذكور وتبدأ المعارك المميتة بغية التكاثر والتزاوج. يتصارعون أمامه، تحدث معارك حامية بالأنياب المنحنية التي تستخدم لإحداث الجروح بالخصم، تتثاءب الأفراس بخبث بغيض لتقضى على خصمها، بدفع المياه نحوه، ويقف للفصل في تلك المعارك وإقرار من الفائز وكلمته هي القول الفصل. يختار للأنثى شريكها القوى ويبارك دخولهما عش التزاوج، وسط تهليل الطيور المائية وهطول الأمطار، وسط النباتات الكثيفة، وأدغال البردي المتشابكة والمتشعبة، حيث تفضل الأفراس التزاوج.
قتاله مستميت، لكل من يقترب من مقره أو عائلته أو قطيعه، حتى الطيور والحشرات والحيوانات تخشى الاقتراب من هذا المكان أو الطيران فوقه، هو مكان مهجور من الجميع، لا يسكنه إلا هو وجماعته من الأفراس منذ قديم الزمان. رقد على الشاطئ، وسط النباتات المائية الطويلة، نصف مختبئ، واندفع غاطساً في الماء كالبرق، قتل أحد الصيادين من أهل القرية قبل أن يصل إلى الشاطئ بأقدام قليلة فقط. وانتهت هكذا المطاردة من قبله مبكراً. تعثرت قدما الصياد على حافة الشاطئ، لحق به الفرس، التقطه، انطرح عليه بجسده القوى، غطس به في الماء عدة مرات حتى تأكد من موته تماماً. تركه. في الصباح، اكتشف الصيادون جثته غير بعيد من موقع اختطافه.
أخذ نفساً طويلاً وبقى تحت الماء. ثم جرى مسافة كبيرة على الشاطئ بسرعة كبيرة. قتل رجلاً أمام أولاده منطرحاً عليه، كان قد دخل أعماق البحيرة المحظورة، لم يستطع أحد الاقتراب، ثم قتل فتاتين بنفس الطريقة ولنفس السبب. أشد وأقوى حيوانات البحيرة مقاومةً للطبيعة. مزق شباك الصيد. قتل قطعان الماشية.يرقد على الشاطىء، مزهواً مهدداً في هياج واضح. يسحب ضحيته إلى أماكن غير معروفة، يستدرجها حتى تقع في براثنه الفتّاكة، لم ينجُ منه أحد إلى الآن. يلقى الرعب في قلوب محاربيه، يقتلهم الرعب قبل أن يحاولوا مهاجمته. تشرق الشمس، يخرج الصبح من الأفق الشرقي على أهل القرية بينما هم منتظرون نتيجة اللقاء منذ الأمس، مع أن النتيجة محسومة لصالحه لكن الأمل يحدوهم ولو مرة واحدة.
ترتفع الشمس في السماء، ما يزالون واقفين قلقين متحلقين حول البحيرة من كل جوانبها. لحظات وتطفو الجثة بها كثير من الجروح. يخرجها في هذا التوقيت تحديداً بعد أن أبقاها عنده فترة حتى يكون كل أهل القرية مجتمعين حول ضفاف البحيرة منتظرين نتيجة هذا اللقاء الحلم الذي يفسده عليهم دائماً. يبدأ الفرس الصغير في معرفة الكون عن طريق أمه التي تتولى تبصيره بالعالم وأسراره. اثنان من الأفراس، ربما ذكر وأنثى، يسبحان ببطء، متعاقبين على مرمى حجر أو أقل من الشاطئ الذي تمتد فوقه شجرة جميز وارفة الفروع والأغصان والأوراق.
تبدأ عملية التزاوج بالصياح وحك الأنوف؛ تسعد الإناث، يغمر الذكر نفسه بالماء؛ تتزين الأنثى، تتفتح داخلها كل الخلايا الحسية، يحكم العجوز بناء على مشاهدته وإحساسه بما يحدث أمامه. ذات يوم، حاول أحد المغامرين قتله، جنّ جنونه، استشاط غضباً من الآلام التي يتلقاها من هذه الهجمات الجدية والقوية، نصب رأسه الضخم، انقض ناهشاً كل شيء حوله، اندفع نحو القارب برأسه، انقلب أمامه في سرعة مذهلة وفائقة محطماً إياه تحطيماً تاماً.
ما أن لحق به الفرس المجروح، تجنب هجومه بالحربة بعض الوقت، لكن الحيوان الغاضب انقض في النهاية على المغامر، لم يحمه منه شيء عندما رأى أن هجمته محتومة لا يمكن تلافيها. وقع عامداً فوق عروسين، ليلة زفافهما في عرض البحيرة، قتلهما في لحظة منقضية الوجود والزمن. كان زفيف الريح يمضى وأزيزها يزمجر، انتحى نحوهما، فاغر الشدقين، يرفع الموج من كل جانب، يخبط الماء أمامه مزبداً. كل الأشياء: حيوانات كانت أو قوارب، إذا هي دخلت المنطقة المسماة عرش "الأحمر العجوز" وسط البحيرة، غربت في التوّ، أصبحت أثراً بعد عين، يسحر المكان ويسلبه طاقته وقدرته على المقاومة أو حتى الحركة أو التراجع.
كان عليه أن يعود مرة أخرى إلى أحد الذين سبّبوا جرحه، حين رماه بسهم عاثر، ذات يوم، شك به صدره، ابتعث فيه نية الألم المبرح، يعلمه جيداً، لن يدعه يمر أو يتركه لحاله. لا يتآلف مع أي ذكر آخر، يتعارك دائماً، يقتل عادة الأفراس المعادية له أو لقطيعه حتى تدين فى النهاية بالولاء له وحده فقط دون بقية أفراس البحيرة الأخرى. سيد مجموعته، هربت كل الأفراس الضعيفة بعيداً عنه، لم تستطع الصمود أو حتى الوقوف فى مواجهته.
بعد أن كثرت ذريته من الأفراس الإناث، قتل كل الإناث اللواتي أُنجبن له بعد وفاة أولاده الذكور؛ لذا تخافه أفراسه الأمهات، تأخذ أفراسها الوليدة من الإناث بعيداً عنه، لا تخبره عادة بمولدها ولا مكانها، تخبئها في البر، تلعقها جيداً، تعود إلى البحيرة، تطعمها بحليب أثدائها اللذيذ الدافىء، قليل من بناته الإناث اللواتي أفلتن من هذا المصير المحتوم.
مارسا الحب على شاطئ البحيرة، فشلا، هناك شبكات مائية قاتلة لا ينجو منها أحد. لما اقتربا من عرشه، هجم عليه الفرس، أكل عضوه، أصبح ذلك الصياد عاجزاً تماماً، ظل إلى نهاية حياته يردد:" الحياة بدون المرأة موات، ومعها أشد عذاباً". يقتل الأفراس المريضة من قطيعه ومن القطعان الأخرى حتى يخلصها من تعب الألم والمرض. عندما يجدها تضرب صدورها بأرجلها الأمامية الأياسر بعنف، يعرف أنها مريضة.
في الليل، يصطحبها إلى خارج البحيرة، صاعداً إلى القرية النائمة، يقتلها، مرتمياً عليها، تموت من فورها، يهرب منها آخر نفس للحياة، يتركها، تلقى مصيرها وحدها على أيدي أهل القرية -عند إشراقة أول صباح- الذين ينتفعون عادة بجلودها وعظامها وأنيابها، أحياناً كثيرة عندما لا يكون مستعداً لأداء هذا الفعل أو غير متحمس للفرس المريض، يأمره بالخروج إلى خارج البحيرة، ألا يعود إليها ثانية حتى لا يعدى الأفراس الأخرى أو يؤذيها منظره، حيث يختبئ أو يموت تلقائياً من نفسه، هذا إن لم يقتله أحد صيادي القرية الذين يتتبعون آثار الأفراس المريضة ويعلمون وقت خروجها؛ من الآثار التي تتركها على الأرض، يقتلونها قبل أوان موتها التلقائي.
إنه الشمس،
والضياء،
والقمر المنير،
هو الذي يشرق في أمه السماء،
ويبزغ عند الفجر في أفق السماء الوردي،
ينتقل بعد ذلك إلى بيته الأرض،
حيث مقره الدائم،
في بحيرته الأثيرة.
رحيل المطر
إنه الشتاء!
فصل الحب والخير والجنون الممارّس تحت زخات المطر المنعشة، تلك التي توقظ المشاعر وتلهب الأحاسيس وتفجر الطاقات وتحفز الهمم لدى أهل القرية، تقبل عليهم هذه الأيام بصخب صارخ يفض بكارة الهدوء المقيم في استكانة. أصبحت كل الأحوال هادئة، توقف المطر الذي هطل فترة طويلة، خرجت جماعة الأفراس، يتقدمها كبيرها، حاملاً الوليد الجديد على ظهره، بجواره الأم، تقترب منهما حثيثاً بقية الأفراس من الذكور والإناث التابعين لقطيعه الملكي المكوّن من أكثر من مائة فرس نهر. يقودهم في دورات متتابعة حول منطقته المفضلة، محتلاً المركز بينما تشغل الإناث مناطق الحواف.
انجلت صدمة جماعة الأفراس برحيل المطر الغزير الذي أقلقها كثيراً، جعلها ساكنة ملازمة البحيرة زمناً غير معلوم الانتهاء، سوف تخرج من سجنها إلى فضاء الأرض الرحيبة؛ تبحث عن قوتها في الليل، بعد أن أفنت نباتات البحيرة، أثناء فترة اعتكافها الإجباري. كان هو الوحيد القادر على الخروج إلى سطح الأرض، وقتما شاء، متجولاً، سائراً، في مثل هذا الجو الكابح جميع أفراد جماعته. بان جسمه الضخم، من خلال الماء، جدّف بأرجله القصيرة، اندفع إلى الأمام، يبدو الفرس "الأحمر الصغير" سعيداً بما يحدث فوق ظهر أبيه، غطس بعنقه إلى أذنيه الصغيرتين، صاح صيحات مرعبة، إلتاع أهل القرية الآمنون، ابتسم الفرس الصغير.
من أكواخهم، خرج أهل القرية، فوجئوا بجماعة الأفراس، انتابهم القلق من منظر الأفراس الجائعة، خشية أن تخرج ليلاً بعد انقضاء المطر الذي عصمهم من خطرها الفتّاك؛ تأكل محصولهم من القمح، إن لم تأكله، تفسده بتجوالها بأقدامها الضخمة في عمق الليل. وجدوا بقعة دم كبيرة بجوار الشاطئ، خمنوا ميلاد أحد الأفراس ليلة الأمس الصاخبة المطر. عادت الحياة ثانية إلى القرية التي كانت ساكنة، أكواخها كانت مظلمة، لم تكن هناك نار مشتعلة ولا مصباح موقد. بعد أن لزم أهلها أكواخهم مخافة المطر الذي لم تشهد القرية له مثيلاً من قبل، رغم مرور مواسم شتوية عديدة صاخبة الأمطار، عليها، لكن هذه هي الأولى من نوعها التي انهمر فيها المطر بكثافة، فترة طويلة، متدفقاً بقوة غريبة، ليل نهار، ما أعاق عملية الصيد في عرض البحيرة، ومنع الفلاحين من زراعة أراضيهم ورعايتها، وألزم الرعاة وقطعانهم الأكواخ والحظائر، أوشك مخزون القرية أن ينفد. ذهب الصمت المقيم الذي كان يكسو الفضاء ويفترش الأفق، اعترف بعدم قدرته على الإقامة والمكوث في مثل هذا الجو العاصف.
بعد رحيل المطر، عادت القوارب والمراكب تجوب البحيرة في رحلات صيد نحو الأعماق، وتعود في المساء محمّلة بخيرات صيد اليوم الواحد أو الأيام المتصلة، وانسجمت اهتزازات القوارب الخشبية مع مياه البحيرة، خرج الصيادون من الأزمة التي ألمت بهم، غادروا حضن أكواخهم البسيطة التي كرهوا الإقامة فيها طويلاً إلى فضاء البحيرة الفسيح. اشتعلت ثانية الرغبة داخلهم في ممارسة الصيد بعد احتجاب إجباري دام طويلاً كاد أن يفقدهم هذه القدرة إلى الأبد، عادت أخشاب المراكب والقوارب تثير الجلبة التي اشتاقت قلوبهم إلى سماعها طويلاً على مساحات الماء المزدهية، غاب الهدوء المضجر المدوي في فضاء القرية والبحيرة على السواء، عاد الفلاحون إلى رعاية مزروعاتهم، اصطحب الرعاة قطعانهم نحو المراعى الخضراء والروابي الممتلئة بالعشب والكلأ.
أهل القرية
تتناثر زخات المطر في انسيال دافق عبر مساحات شاسعة من الأرض والفضاء، كان يسودها الهدوء. تثور السماء ويعصف الجو ويشتد الرعد ويحيل البرق السماء إلى نهار واضح الضياء. يشق الصخب صمت البحيرة الآني. يصطادون، يتصارعون على سطح البحيرة، يتبارزون، هجم عليهم الفرس ذات مرة؛ قتل أحدهم؛ خافوا الاقتراب من البحيرة واعرضوا عن المبارزة على سطحها بعض الوقت.
عندما يبصر الصيادون منتصف البحيرة، يخشون تلك المنطقة المحظورة، يعرفونها جيداً، يبتعدون عنها تلقائياً؛ شديدة التموج، الدوامات بها لا تهدأ، الرياح لا تسكن أبداً، أطلقوا عليها:" عرش الأحمر العجوز"، مأواه، حيث يسيطر ويفنى، وكذلك عن جزيرته التي برزت بفعل ترسيب النهر من الطمي والغرين في جوف البحيرة الفسيح، ويبتعدون كذلك عن الجزر الصغيرة المحيطة بها التي تعتبر ملكاً للفرس وقطيعه، حتى إن أوشك الصياد منهم أن يغرق؛ فالغرق الذي قد تكون بعده نجاة أفضل من الموت المؤكد. فهو مارد في قوته حيث القوة هي عين الحق. يتنكر لها دائماً في صورة غير معهودة لأحد سواها، عندما يترك مكانه في السماء ويهبط إلى الأرض للقاء حبيبته، تظلم السماء لغيابه ويعلم القوم أن القمر هبط للقاء الحبيبة وأنه سوف يمضى وقتاً طويلاً حتى يعود مرة أخرى بعد أن يفرغ من غرامه؛ لينير قريتهم الصغيرة القابعة على ضفاف البحيرة العتيقة.
وسط البحيرة جزيرة منخفضة غير متسعة، بها مستنقعات وبرك زاخرة بالأسماك والطيور المائية من كل شكل ولون، اصطادوا أسماكها بنشاط وحيوية، تناولوها مشوية ومملحة، زرعوا النباتات والخضراوات الشاطئية في أرضها. قضوا أغلب أوقات سمرهم بها. هي الجزيرة الوحيدة وسط البحيرة التي أفلتت من سطوته، لم يرغب في امتلاكها لسبب لا يعلمه أحد.
كلما زرع أهل القرية أراضيهم وانتظروا جنى المحصول، جاء الفيضان الثائر الهائج، أتلف الزرع وأفسد الأرض، ما أن تجف الأرض ويعيدوا زراعتها مرة أخرى، وينتظروا بشغف ولهفة هذه المرة جنى محصولها، تتكرر المأساة ثانية. جف الضرع بعد أن عجزوا تماماً عن توفير غذاء الماشية والأغنام والماعز. لم يحدث أيام الآباء والأجداد أن هلك الزرع وجف الضرع، بعد أن كانت الأرض سلة رخيصة للقرية كلها، أصابهم اليأس من جراء ثورة النهر الجامحة المتكررة على أرضهم بعد أن انتهت الحيل التي ابتدعها قديماً الجد أناتم لإنقاذ قريتهم من براثن النهر حين ثورته الفيضية العارمة.
جاء موسم حصاد طيب، أكلت الزواحف نصف المحصول، هجمت أفراس النهر بكثرة مروعة على النصف الآخر من محصولي القمح والشعير البرى اللذين قام أهل القرية بزراعتهما خلال موسم المطر الأخير، أفنتهما؛ أصيب أهل القرية بحال من الأرق الدائم؛ أحياناً يفوت العام ومن ورائه العام ولا تسقط قطرة ماء واحدة. وهذا العام، فاضت السماء بمطر وفير لم يحدث من قبل، مكنّهم من زراعة محصولين لا محصول واحد، دون الحاجة إلى رفع مياه البحيرة المنخفضة إلى أراضيهم المرتفعة.
حدث أن اصطاد أهل القرية إحدى إناث الأفراس من قطيع سيد البحيرة، المعروفة باسم " البيضاء"، لم يكن هدفهم إيذاءها على الإطلاق، يحبون إناث أفراس النهر على الرغم من كرههم الشديد وخوفهم من الذكور خصوصاً " الأحمر العجوز"، زينوها وأطعموها، صنعوا لها الأقراط من الأحجار الكريمة والذهب، وضعوها في آذانها، كما وضعوا الأساور في قدميها الأماميتين. قدموا لها طعاماً خاصاً في مذبح بنوه خصيصاً لها فقط، نحرت باسمها الذبائح الخاصة، اعتنوا بها بكل طريقة ممكنة، حفروا لها بحيرة صغيرة خاصة بها، لكنها لم تقرب الطعام، انخرطت في حال من الحزن والبكاء الطويل لفراقها جماعتها من الأفراس، أصاب القرية كلها الهلع على حالها، ماتت بمضي الوقت.
ثار لاختطاف إحدى نسائه المقربات إلى قلبه، قرر الانتقام من أهل القرية المشاكسة.
وسط القرية بالقرب من ساحة الربة " مورا " المقدسة، دفنوها في تابوت جحري ضخم مزين برسوم ملونة جميلة تعبر عن أنثى فرس النهر وحياتها وظروف صيدها إلى وفاتها التي تعد المشهد الحزين في هذه القصة التي كانوا يريدونها ممتعة لا مأساوية. حين هبطت العواصف الرعدية الأخيرة على القرية قبل هطول المطر الأخير، لجأ أهل القرية إلى أكواخهم، ألجمهم الخوف الذي ملأ صدورهم، حملت الرياح بين ما حملت حبوب اللقاح لأغلب الثمار والمزروعات، جاءت فترة خصيبة في حياة القرية لم تشهدها من قبل. في تلك الفترة الجبرية، سكن الرجال إلى نسائهم تبديداً لخوفهم القاتل من القادم المجهول، فى الليل يكون الإنسان غابة تتوغل في أحشائه، كان الخوف مشبعاً بالحب ومغرياً على العشق.
بعد فترة، اكتشفوا ازدهار الزرع ونمو المحاصيل بوفرة. أنجب معظم نساء القرية بعد حادثة العواصف الشهيرة، بتسعة أشهر تماماً. تقدم أهل القرية بالقرابين والابتهالات إلى ربة الحب والخصوبة الربة "مورا "، سيدة قريتهم الحانية، وأرباب الصيد البرية والبحرية على السواء. في الصباح، استيقظت القرية كلها بعد غفوة طويلة، قضاها أهلها في النوم العميق والاسترخاء الطويل والراحة الجبرية. رحل الظلام المستمر الذي خيّم على القرية فترة طويلة، أطل الفجر بوجهه الصبيح، بزغ قرص الشمس الأحمر الكبير في الأفق الشرقي من السماء؛ أنار الوجود المحيط بالقرية بعد حالة دائمة من القنوط والألم، اعتقد أهل القرية دوامها إلى الأبد، انقشعت الأزمة أخيراً، فهل تعود القرية إلى سابق عهدها؟
مورا السمراء الجميلة
المرأة السمراء، الفارعة الطول، المهيبة، وجهها مضيء، ضياء لا تخطئه عين، جبهتها عريضة، عيناها كحيلتان سوداوان سواد ليل جميل ثائر، واسعتان دائريتان، خطتهما يد القدر بمهارة فائقة، حاجباها مزججان بلون لازوردي صارخ، خداها ورديان، وحمرة على وجنتيها وأسفل حاجبيها، شفتاها قانيتا الحمرة، وشامة سمراء بارزة تعلو شفتها العليا، أنفها طويل كالسهم يشق وجهها إلى منطقتين شديدتي الجمال، فمها حبة نبق قرمزية وأسنانها لؤلؤ منثور، بأذنيها قرطان كبيران، رقبتها طويلة، وشعرها ثائر منفرط الجدائل مغزول من حرير أسود فاحم. ذراعاها وكفاها وأصابعها دقيقة للغاية. زينة رأسها من الحلي الثمين من الذهب واللازورد والفضة. هناك أوشام عديدة على جسدها.
انبثقت من ذاتها، تلك الربة العاشقة بقوة لم تتح لأحد من قبل. في البدء استهلت وجودها، منه استهلت الكائنات والأشياء وجودها.
بينما كانت الأرض ما تزال في عتمة الظلمات لم تتشكل بعد في جوف المحيط المائي العظيم، صرخت صرخة فارقة، وضعت الحد الفاصل بين الحياة والعدم. بزغت من قلب البحيرة قبل وجود القرية في تاريخ بعيد لا يذكره أحد كما تروى إحدى حكايات الأسلاف البعيدين. منذ البداية، اتخذت هيئة امرأة سمراء جميلة ساحرة لم تغيرها كثيراً، وأخذت هيئة أنثى فرس النهر أيضاً، يتوجه إليها أهل القرية بالدعاء لإنقاذهم من الأحمر العجوز:"انقذينا من ذلك الوحش المفترس".
تظهر أحياناً في هيئة حية ناهضة ترعى أبناءها كأم رؤوم تمدهم بكل ما يحتاجون إليه من غذاء يعينهم على النمو وتحمل ظروف الحياة القاسية إن حل الجوع وتوطن أرض القرية التي ترعاها؛ تتشقق عنها الأرض، تخرج تطعم العالم. سارت في الأرض التي تشكلت بأمرها لتجد مكاناً من اليابسة تقف فوقه، أضاءت الكون بنور عينيها السوداوين الجميلتين، عمه الضياء وانتشر في أرجائه الفسيحة؛ الحب كله بين يديها الجميلتين. عندما أبدعت نشأة القرية وأهلها، سحر جمالها جميع الرجال وخلب أبصار الشباب؛ هي المرأة العطرية المثيرة، الخلابة ذات العذوبة والرقة، مكتملة النضج بشكل ليس له مثيل.
تداعب عينيها بأناملها الصغيرة، تتكئ بخدها البرونزي على كفها الدقيق، تدبدب على الأرض بقدميها. تحلم بأن يصل الغائب في الوقت المحدد الذي لا تفارق فيه الوعي وتغيب عن الدنيا وتهلك القرية وناسها. يدخل الرجال والنساء المقبلون على الزواج إلى باحتها الفسيحة حيث تصبغ عليهم حمايتها ورعايتها وتبارك دخولهم معترك التزاوج، وتتبع النسوة في القرية التعاليم التي توصى بها كاهناتها العليمات بفنون الهوى؛ للحصول على زواج خصيب ومثمر وممتع طوال العمر. يلتقي العشاق في ظلها الكثيف، ينعمون بالحب والعشق والأمان.
تبدو كطفلة صغيرة تداعب أطياف الحلم بشص صغير، ترنو إلى اللحاق بما يمكن اللحاق به من أحلام النهار الغارب. في الليل، تخرج من الماء، بعد أن يكون الكون مال إلى الصمت، تنهمر منها المياه مثيرة الصوت، فواحة العطر. من هفا هوى، ومن هوى عشق، ومن عشق اقترب، ومن اقترب احترق بنار الشوق. تسكن هيكلها المقدس، حيث تدير كبيرة كاهناتها شؤون عبادتها فهي الوسيطة بينها وبين أهل القرية. عيدها جميل وعظيم في السماء وعلى الأرض وفى البحيرة على السواء، بدلت هيئتها وصارت في صورتها الأنثوية الجميلة التي تحب أن تظهر عليها عادة، أخذت كاهناتها في إعداد ما يلزم.
يبكى الأحمر العجوز، يصخب داخل البحيرة حين يعلم أن هناك أحداً مع أمه الآن… أشعلت الكاهنات المشاعل في حضرتها ابتهاجاً بعيد مورا الجميل حتى تسعد نفسها وتهدأ وتقر عينها وتطرب بالاً، ابتداء من غروب شمس ذلك اليوم إلى مطلع فجر اليوم التالي. تبدو شرسة ظاهرياً، ثم تلين عريكتها شيئاً فشيئاً، عندما يضيء شيء وحشة نفسها وخلاء قلبها المشتعل. تدعو المبشر من الصغار للقائها وتكون شهادة منها بقدرته المبكرة والفائقة في المستقبل القريب. تجتذبها رائحة القادم البعيد، تراه بقدرتها الفائقة، في أحلامها الكاشفة. تتسع نفسها، تصبح قادرة على احتواء العالم كله. تتخيله، ترسم صورة له في خيالها، شكله، طوله، لونه. تصبح قوة جذب للثاوي بعيداً؛ يجئ والشوق على أشده داخله وتقوى عزيمته ولا يفكر في شئ سوى مورا الجميلة. هي"الأحلى" بين نساء العالم، يعلم الجميع أنها دخلت موسم التزاوج، يبدءون البحث عن سعيد الحظ الذي اختارته لهذا العام ليهب القرية الخصوبة، بعد أن كادت أن تهلك والخصوبة أن تجف داخل النساء، وأن يفقد الرجال الإحساس برجولتهم.
تبدأ القرية في الاحتفال بموسم الحب الجماعي. هي الأم الحنون، يصلون في هيكلها المقدس، وتدعو العاشق قائلة:"اجعل قلبي يزغرد، وجسدي يفرح".
عندما بصقت بصقة من فمها الطاهر ذات يوم في لحظة حزن ما، تشكل فرس النهر "الأحمر العجوز"، العدو اللدود لأهل القرية، تغضب منه دائماً بسبب المشكلات الكثيرة التي يسبّبها لها على الرغم من حبها الكبير له بصفته الابن الوحيد الذي عاش لها.
امتلأ قلبه بالعصيان والتمرد والكراهية لأهل القرية مع بنى جنسه من جماعة الأفراس التي انبعثت من عينه الطافحة بالشر، استمرت في إرضاعه ليصبح عظيم القوة، شديد البأس؛ ليتمكن من القضاء على أعدائه شر قضاء، استغل هذه المنحة الربانية في الشر وفتك بالبشر ولم يستطع أحد الوقوف في وجهه، حتى أمه الطيبة لم تعد تقاومه بعاطفة الأمومة المتغلغلة في صدرها.
إنها السبّاحة العظيمة مع ابنها " الأحمر العجوز"، الشمس والقمر عيناه، هي نسمة النور التي ترفرف فوق الأرواح.
تعد رقصاتهما في البحيرة سوياً من أروع ما يكون، حيث يرقص رقصات جانبية لاهياً مع أمه التي افتقد حنانها فترة طويلة من حياته محاولة أن تعوضه ما فاته، والدفاع عنه ضد الهجمات المعادية وكثيراً ما كتبت له التعاويذ المنجية والرقى الحامية.
وقف في وجه أعدائه بفضلها لهباً يحرق كل من يحاول أن يواجه الموت حياً. هي السمراء، الحبيبة، الأم، العشيقة، الخليلة، وغيرها من الصفات التي أطلقها عليها أهل القرية. يتوجهون إليها بالدعاء قائلين:" سيدة أنت في كل شئ، سيدة العذوبة والرقة والقوة والابتهاج، مباركة أنت، يا سيدة الأرباب، يا أمنا، يا من جئت بنا إلى هذا الوجود دون أن ندرى، بينما كنا ما نزال في العدم، لقد خلقت لأجلنا الأشياء الجميلة كلها، شكلت كل شئ، ومرّ الزمن الأبدي بين أصابعك بعد أن تلقى إشارة من إصبعك كي يمر في اتجاه الماضي، ثم يتوقف عند الحاضر، ويسرع الخطى لاهثاً نحو المستقبل القريب أو البعيد، يا من تعلمين الحقيقة المطلقة وتكتمين السر حتى تجئ النهاية المبتغاة أو المكروهة، يا من تذهبين الكلل والملل عن نفوسنا وتضيئين غياهبها العتمى منذ آلاف السنين الغابرة في القدم المنصرم، أيتها المبحرة دائماً نحو المكان المقدس الذي لا يليق بأن يكون لأحد غيرك، أيتها العرافة المقدسة التي من وطأة قدمها تجئ الحياة إلى أرواحنا وتدب في الكون بأسره، يا سيدة الكون المتوجة على قلوبنا التي لا تتسع لفيض عطائك الرباني المعبق نفوسنا الحيرى بنور وجهك الوهاج. أيتها العليمة، القديرة، التي تضئ ظلام أرواحنا بنور اليقين، التي تهبنا القدرة على النطق دون خوف في مواجهة كل شئ يعوق حياتنا. فتحت عينيك، أطل النور الذي كاد أن يخطف أبصارنا، عندما أغمضتهما ابتلعتنا الظلمة حتى كدنا أن نهلك لولا أن تغمدتنا برحمتك، لقد ولدنا من دموع عينيك ولعاب شفتيك، يا من ترقدين في ناووسك المقدس الذي يشع جلالاً وجمالاً يليقان بـ"أم الكون" و"رحم العالم"، يا من وضعت الحب في قلوبنا والحياة في أحشائنا، يا من ترسلين الحب برداً وسلاماً على أهل قريتك العاشقة لجمالك، تقبلي ابتهالنا المتواضع الذي لا يسمو إلى مقام أمنا المقدسة؛ عزاؤنا الوحيد أننا لا نملك غيره، بينما أنت تملكين كل شئ؛ تقبلي".
الخروج إلى البحيرة
تبدأ الاستعدادات لعملية الصيد بتجهيز كل الأشياء المطلوبة في الليل، تعدها النساء عادةً، بينما يقضى الرجال أوقاتهم في مثل هذا الموعد من العام في التحضير لعملية الصيد وتدريب أنفسهم عليها وتذكر ما فاتهم وتعلم ما استجد من فنون جديدة في هذه الحرفة المثيرة والمرهقة معاً. يقسمون أنفسهم جماعات وفرقاً، كل منها مسؤول عن جزء ما من البحيرة لا يتخطاه صياد أو جماعة من الصيادين، وينظم مثل هذه الأمور شيخ الصيادين في وجود سيد القرية وكبيرها أونان، الذي يقول لهم دائماً:" على الصياد الماهر أن يشعر بالجوع دائماً؛ الجوع ينشط الحواس، ويزيل الكسل والخمول، والأسماك هدفنا عدو سريع وذكى، يجب أن نكون أسرع وأشد ذكاء منها".
تبدأ الرحلة بالاستيقاظ مبكراً، وضوء الفجر يوشك أن يبزغ، بعد أن يكونوا قد فرغوا من مراجعة وإعداد ما يلزمهم لرحلة السفر البعيد في جوف البحيرة المظلم. مع أول علامة ضوء للفجر، يستقلون المراكب الشراعية والقوارب الصغيرة المصاحبة لهم، وتكون محملة بالرجال والشباب والصبية، تستمر الرحلة فترة طويلة نحو الأعماق البعيدة المجهولة من البحيرة، في نهايتها تكون النجاة لعدد منهم أو الخاتمة لعدد آخر. كل شيء كان جاهزاً مع طلوع الفجر، ومع وجود المرافقين والدليل، غادروا القرية صعوداً في البحيرة على متن قارب طويل يتقدمهم؛ كي يصلوا إلى ممر مائي ضيق يتجه صعوداً عبر آجام الأشجار البرية الكثيفة.
كانت الحركة نحو قلب البحيرة بطيئة ومتأنية. يحدقون من خلال فتحة ضيقة بين الأشجار عبر الوادي الضيق. وحشرات كثيفة تطير، تملأ المكان، تظلم السماء، إحساس بالدهشة والمغامرة يملأ قلوب الشباب والصغار، يلف المكان في ثناياه. تصارع الرجال، لتمضية الوقت والاستعداد لطقوس الصيد المثيرة وتهيئة النفوس لما هو قادم من أطوار عديدة، لاصطياد ديوك الماء الذهبية اللون، ذات الريش المنفوش والحركات المثيرة، من الذكور والإناث على السواء، صادوها بالشباك السداسية الشكل، يتفاءلون بوجودها؛ إذ تسكن أدغال البوص والبردي وتطير على سطح البحيرة صادحة بأصواتها العذبة المميزة.
يصطادون الطيور والغزلان، يجمعون الثمار الناضجة من الفواكه وغيرها، في طريق رحلتهم، وفى محطات توقفهم وانتظارهم، وأثناء راحتهم على بعض الجزر في قلب البحيرة. ...يتصاعد الدخان من نيران الطهو، يمتزج بالضباب البارد... يحنى شيخ الصيادين رأسه للصلاة، يتمتم بكلمات قصيرة في شكر الإله:" الشكر لك يا إلهي... أنت الذي جعلت الشمس تشرق...أنت الذي خلق الأشجار والغابات بوفرة، لم يصنعها أحد غيرك...أنت وحدك، لا أحد غيرك".
مياه البحيرة في لون الأرض، القوارب تبدو عند حافة الأفق، في انتظار موجة المد، فرصة لملء الجرار بماء البحيرة الزلال في مثل هذا الوقت من اليوم.
المغامرون الأوائل
يحكون عن المغامرين الأوائل الذين غادروا القرية في طريقهم إلى البحر ذي الأمواج الهائجة والمياه الشديدة الزرقة التي جعلتهم يطلقون عليه:"الأزرق العظيم". كانت مياهه مسرحاً لرحلات بحارة أوائل أخذوا يجدون في السير إليه في طرق غير متوقعة عبر مدقات صحراوية كتب عنها الجد أنا