خمسة نصوص قصصية حديثة جدا..
زهرة الورد الجورى
على المنضدة الدائرية مفرش مشغول بزهور التمرحنة بزهورها الصفراء المكتنزة ، وهما جالسان فى أقصى جنبات النادى . بالحتم يذكرسنوات الخطوبة التى مرت كالنسمة الرقيقة . مساء كل جمعة كان يذهب إليها فى بيت العائلة، ويجلس معها على أريكة ناعمة لها كسوة من القطيفة الزرقاء ، ينظران إلى أطفال الحى من نافذة تطل على الشارع . كان يمسك يدها الدافئة دوما ، ويهمس فى أذنها : سيكون أول إنجابنا بنتا لها وجه القمر مثلك . ترد عليه بخجل متورد : أشعر أنه سيكون ولدا ، له نفس سمرتك .
جاء الجرسون ، فمسحت دمعة انحدرت على وجنتها ، فيما لملم أوراقه ، وطمأنها أن كل الأمور تسير فى مسارها الصحيح . سيرسل لها ورقة الطلاق على عنوان البيت لا العمل حتى لا يحرجها . هزت رأسها فى انكسار تشكره . اغتصب ضحكة وهو يتمتم : كل شىء قسمة ونصيب . قبل أن يرتبا المسألة تماما جاءت نسمة وخالد. إندفعا فى أحضان الأم ، ونظرا بعتاب مكتوم نحو الأب الذى كان يقطف بأصابع مرتجفة بتلات الورد الجورى الحمراء فى ارتباك ملحوظ !
أقنعة
طوال المسافة التى قطعها من المقهى إلى الحديقة التى تطل على لجة المتوسط ، كان يردد بصوت كاد أن يكون مسموعا كل الكلام الذى اختاره ، نسقه ، شذبه ، و سهر الليلة الفائتة يكرره حتى صار نصا تراثيا أشبه ب" جلمود صخر حطه السيل من عل " .
كانت تنتظره على المقعد الصخرى الذى يطاله رذاذ الماء المالح ، فى لحظات الارتطام المروعة للجة الزرقاء التى تتبدد على هيئة رشاشات تعلو فى الفضاء لتحط فى صوت مكتوم .
رنت نحوه ، وهزت رأسها منتظرة أن يبدأ الحديث، وقد استجمع شجاعته ، وتيقن من قوة موقفه ، وانتظر أن يفتح فمه بكلمة ، فلم يجد سوى الصمت . الصمت الساكن الرهيف الذى يغسل القلوب بالصفاء . ثمة نورس وحيد رف على المكان ، وهبط يحف بالماء فى رشاقة مذهلة . جاء فتى فى العاشرة من عمره ، قدم طوقين من الفل الملضوم فى فتلة بيضاء لاتكاد تُرى . سمر نظراته على مركب تطوحه الريح عند خط الأفق .أخرجت من حقيبتها مبلغا صغيرا وأعطته الولد شاكرة . لما رأى كرمها نفحها بدوره حبتى ياسمين .
هبت رياح من ناحية الشرق حيث الفنار يقف منتصبا كحارس أبدى للبحر المخيف . اقترب بائع الذرة العجوز ، مد يده بكوزين معتبرين ، وضعهما فوق المقعد الصخرى ، فى المسافة التى تفصل بينهما تماما . تراجع فى أدب جم كما يليق بالعجائز عند سفوح السبعين . سمرت نظراتها نحو الحاجز المصنوع من مكعبات الأسمنت العملاقة . أخرج من حافظته جنيها وشكر العجوز الذى راح يدعو لهما بالصحة والسعادة . ارتفع رشاش الماء وأغرقهما تماما. ظلا جالسين ، وإن مدت يدها نحوه تمسح البلل . ترك لها هذه المهمة المحببة ، وإن أخرج منديله القطنى الأبيض يمسح الماء المالح عن وجهها الصبوح !
دانتيلا
كان يوم إجازة لها وسط دولاب العمل ، فرأت أن تنتهز الفرصة لتسترخى فى سريرها ، لاتطبخ ، لا تغسل ، لا تنفض السجاد . .يوم من الأيام القليلة التى تمنح جسدها المتعب فرصة الراحة ، والخمول اللذيذ .
إستلقت تتمرغ على سريرها العريض بلون الماهوجنى المحبب إلى قلبها ، والذى يذكرها بأعماق القارة الأفريقية . هى لاتريد أن تتذكر أى شىء . كل ما يهمها أن تعيش فى فضاء كونى بلا حدود . ليست مستعدة للحديث مع أى كائن يعكر عليها صفو وحدتها . لذلك قررت أن تعيش اليوم فى عزلة ، وتستمتع بوحدتها كأنها تعود إلى رحم الأم ، حيث السكينة والهدوء . لو رن جرس التليفون فلن تتحرك . ولماذا التليفون أيضا ؟ ستقطع كل صلة لها بالعالم الخارجى . لن تفتح لبائع اللبن الكهل حتى لو ظ يطرق الباب بقبضة يده ، ولن تطل من الشرفة لتتفقد نباتاتها الخضراء فى الأصص الصغيرة . فقط ستهب الآن لتسدل الستائر على النوافذ . مهمة لن تستغرق سوى لحظات .
فى طريقها لتسدل الستائر الفستقية واجهها بصورته . كان يرنو إليها بهدوء محبب تعرفه . نظرته الواثقة تسمرت فى عينيها الواسعتين العسليتين ، فمدت يدها ومسحت الزجاج ، لاحظت بعض الغبار الخفيف ، فشعرت بالحرج .
مدت يدها لتنتزع الصورة بإطارها الذهبى المموج . عادت إلى السرير الذى كان يقاسمها إياه قبل سفره إلى الخارج منذ عام كامل وبضعة شهور . بهتت وهى تشعر بدموعها تنحدر دون إرادة منها ، ثم وهى تحدثه عن العصر الجليدى الذى غزا قلبها منذ ودعته فى المطار .
سمعت ضحكته المجلجلة ترن فى أرجاء الغرفة ، وصوته الأجش الخشن الذى يمكنها أن تميزه من ألف صوت يواسيها . هى متأكدة أنه استدار بوجهه نحو الشرفة ، بل سبقها ليشغل مقعده ، وقد رأت ان تتبعه ،و تفتح النوافذ ثانية ؛ فهو يحب صخب الشوارع ، نداءات الباعة ، ضجيج أطفال المدارس ، قامت وأعدت فنجالين من القهوة التركى العتيقة !
صفاء
شعربدوار خفيف حين تصاعدت الأصوات متلاحقة من داخل الحجرة المغلقة. فالماء الساخن يدخل عبر الباب الذى يُوارب لثوان قبل أن ينغلق تماما . وصوت يأتيه : اعملوا قرفة قوام ؟
لحظة الميلاد الصعبة التى مرت به مرتين من قبل ، بعد التعب والمصاريف ، ووجع القلب يموت الوليد ، وينشف لبن الأم فى الثديين حزنا ورهقا .
يدور فى الصالة ، والداية بالداخل تنهى وتأمر ، تشخط وتنطر فى النسوة الخبيرات بأحوال الولادة العسرة . عليه أن يخرج الآن للشارع ليراقب حركة الظل ، وزحزحة الشمس على جدران بيوت الأعمام والأخوال ، لكن قلبه لا يطاوعه .
امرأته التى غضبت وخرجت إلى بيت أبيها تعود إليه قبل الميلاد بأيام ، وهو ينظر إليها حانقا ، يود أن يعاتبها ، لكن بطنها البارزة أمامها تمنعه ، فيما هى تواصل غضبها القديم بنظرة عتب جارحة ، وبنصف كلام : ربك مسامح !
جملة أقرب إلى الاتهام الصريح ، وهو لايريد الولد للعزوة والمباهاة ، ولا يريده ليرثه فليس عنده عقارات ، ولا أفدنة زراعية . كل ما يملكه مكتبة ضخمة ورثها عن أبيه شيخ الأزهر ، زودها بمجلدات من سور الأزبكية ، ومن باعة الصحف . لكنها ترى أن الكتب تجعل البيت ضيقا ، ولا فائدة منها سوى خسارة الوقت والنظر .
هى التى بدأت الخصام حين انتزعت صفا كاملا ، وألقمته نيران الفرن أعلى السطح ، فلما رأى المصيبة التى حلت به ، ارتفع صوته ، فلما جادلته هوى بيده على وجهها . كان خطأ جسيما منه ، ولم يستطع أن يسترد صفعته . ارتدت ثيابها غضبى ، تمهلت ترتب أشياءها كى تترك له فسحة من الوقت ليصالحها ، ويمنع خروجها .
لم يفعل ، بكت وهى تخرج حاملة حقيبة صغيرة فيها ملابس الحمل الواسعة ، وأدوية الضغط ، وأكياس ضبط الزلال ، وشبشب خفافى لايعلو كثيرا على الأرض .
قبل أن تخرج نظرت حولها فى استعطاف مبهم ، لكنه داس قلبه وتركها . حين خشى أن يغشى عليها صعد لشقة الجيران ، وطلب من أم محمود أن ترسل ابنها ليحمل عن زوجته حقيبتها .
برأسها الناشفة كصخرة من جرانيت رفضت . تابعها حتى اختفت عن أنظاره .
الصوت الحيانى يزلزل البيت ، صرخة مدوية حشت صدره ، كأنه يلد لاهى . غالبه خاطر أنه إنسان بلا قلب ، ودّ فى هذه اللحظة أن يدخل حجرتها يقبلها بين عينيها . يعترف لها أنه مخطىء ، والغلط راكبه فوقه وتحته . لكن صرخة أخرى داهمته . أحس بلهوجة ، وأنين يصعب على الكافر ، ثم زغرودة طويلة ارتجف لها كيانه .
خرجت امرأة من أقاربها تبشره بالمولود . وغرست نظرة ممانعة كى ينتظر قليلا قبل الدخول .
كان يعرف أن تلك اللحظة تشهد قطع الخلاص ، وربط الصرة . وتشميم المولود بصلة ليفيق . سمع وأوأة ارتعد لها قلبه ، احس أنه طائر خفيف قادر على الطيران . مد يده محركا المقبض فى تردد . من سريرها أومأت له بنظرة متسامحة أن يدخل . مدت يدهابالطفل ، قبلها ولا مست شفتيه خدها الشاحب بفعل الصرخات ، والدماء التى فقدتها . سألته : الولد حلو ؟
مسد شعرها ، ويده تقبض على يدها فى امتنان : أى حاجة يجيبها ربنا خير . أغلقت عينيها التى بدتا مرهقتين ، فيما رددت بخفوت : سمى الولد باسمك !
قلة قناوى
انكسرت القلة ، وكانت معلقة على نافذة الدور الأرضى للأسطى متولى العامل بشركة الغزل، حيث كانت تقف البنت الحلوة نجوى التى يشتهيها كل شبان الحارة لجمالها وروعة مشيتها المتأنية الواثقة. كانت بغمازتين صغيرتين فى وجنتيها ، ونظرة ساحرة لايمكن أن يخفيها حزن عابر .
الجميع ينتظرها وهى تنتظر أباها الذى دخل السجن منذ عامين بتهمة توزيع منشورات ضد نظام الحكم ، وحكم عليه بثلاثة أعوام . تقف فى النافذة ، ببلوزة كتان رقيقة ، حول رقبتها العاجية عقد من العقيق الأحمر، فصوصه تخطف الأبصار ، تنظر للعابرين تحت نافذتها ، وصوت أمها يلح عليها أن تدخل لتذاكر دروسها ، فتمد يدها بالربع جنيه لتحصل على كوب عرقسوس بارد ، تطفو على سطحه قطع ثلج ناصعة.
انكسرت القلة ، وجاءت الأم تؤنبها ، وتسأل عمن كسرها ، والبنت تخفى السبب الحقيقى ، أمافريد الشاب النحيف فقد تحرك بعيدا بعد أن فعل فعلته، وأجبرها على أن تلجأ لهذا الأسلوب العجيب .
لم تسترح الأم للسبب الذى ذكرته نجوى إذ زعمت أن ولدا كان يصوب قطعة صخر نحو عصفور فأخطأ هدفه ؛ فلا يوجد بالحارة إلا شجرتين ليست بهما عصافيرولا خفافيش !!
رفعت الأم سبابتها ، وصنعت قوسا يمر بجبهتها : الكلام دم ما يدخلش دماغى . يالله على جوة !
داخل البيت جلست نجوى تعد الأيام الباقية على زيارة أبيها فى المعتقل بسجن طرة . وتحسب الكلام الذى ستقوله لفريد الشاب الذى يوصلهما كل مرة حتى هناك .
قال لها فريد أنه يحبها ، وسيطلب يدها من أمها فور تجهيز نفسه ، وأصرت نجوى أن ينتظرعاما آخر ، حتى يخرج الأبويضع يده فى يد فريد .
عصر اليوم جاء ،صفر بفمه لحنا مميزا يتقنه ، خرجت تستفسر الأمر . تلكأ تحت النافذة ، قال بصوت هامس : نظرة يا أمورة .
فلما نهرته لأن الحيطان لها آذان، وهما ليسا مراهقين ليفعلا مثل الصغار ، صمم أن تناوله القلة ليروى ظمأه .
البنت العنيدة رفضت ذلك ، وقالت له بحدة : أن البيوت لها أبواب . من يريد الزواج يدخل من الباب لا النافذة .وهى لم تسمع عن خطوبة تأتى من النافذة !!
فلما تلكأ أكثر ، وسبل ّ عينيه وعمل مثل أبطال الأفلام المصرية فى الثلاثينيات ، مدت يدها للقلة ، وبدلا من أن تعطيها إياه خبطتها على الحافة العريضة المكسوة بحديد مشغول، فانكسرت ، ورمت القطع البنية اللون على رأسه ، فولى هاربا .
انكسرت القلة ، وأخفت عن أمها السبب ، لكنها يوم زيارة أبيها فى المعتقل ، ومعهما أصناف من المحشى ورق عنب ، والباذنجان ، والفلفلة ستخبره أنها لن تتزوج إلا بعد خروج الأب . وأنها لن تضع قلة على الشباك ، ستنهره ، وأ مها تصعد وتهبط أدوار مصلحة السجون للحصول على تصريح الزيارة . وأبدا أبدا لن تمد يدها بالقلة الفخار القناوى من النافذة لأى شاب . بنات الأصول لا يفعلن هذا حتى لو كان أبيهن غائبا !!
القاهرة 2/ 5 / 2004