يتذكرها: توماس جورجيسيان
في الأجواء التي نعيش فيها منذ مارس ٢٠٢٠ أو بتعبير أدق نحاول أن نتعايش معها أجد القاص العزيز محمد المخزنجي يقترب مني ليذكرني بصوته الهادئ أن “الدهشة هى حقا أول الحكمة، وفى قول آخر هى أمها، وهى طاقة تجديد إيجابية للروح على عكس الاستغراب الذى هو هجمة معتمة تحبط الروح”. كما أن المخرنجي لا يتردد في أن ينبهني للحالة التي صرنا فيها ونحاول أن نتجاوزها “ثمة أسئلة موجعة ، يلزمها الكثير من الهواء الطلق ، وبعض الإنفراد.”ـ
ويأخذني تعبير الانفراد بعيدا الى وقفة تأمل للانفراد ولمعناه ـ وهو أن تبتعد باختيارك وبارادتك من دوامة المشاغل والهموم اليومية (ان أمكن ذلك) لكي تكون مع نفسك .. لوحدك بدون شوشرة الآخرين. ولكن ان لم يكن هذا الانفراد اختيارا بل اجبارا ويسمى عزل وخليك بالبيت هل له من فائدة غير عدم تعرضك للفيروس والعدوى؟! وفي لحظة تالية يأتي في بالي المخزنجي بما كتبه في يوم ما “إن السعادة هي أن أشرب كوب شاي.. مع صديق.. في لحظة رضا” ـ
ما أبسطها من أمنية وما أحلاها من لحظة ـ
وها هي الشاعرة الأمريكية "مايا أنجيلو" أراها أمامي وهي تقول بخبرتها العميقة في تفاصيل الحياة "لا توجد معاناة أكبر من أن تحمل بداخلك حكاية لم يتم حكيها بعد". بالتأكيد أدرك تماما هذه المعاناة وأنت أيضا ـ حسب ما أعتقد ـ تعرف وتفهم معاناة الكبت والكتمان وعدم الإفصاح والتوقف عن الغناء . و"أنجيلو" تذكرنا بضرورة البوح وأهمية الحكى .. كما أنها تشيد بمعنى "أن تتحرر بالحب" (حسب وصفها).. نعم أن تتحرر من عزلتك ووحدتك وواقعك ومما هو المنطق والمألوف والمعتاد والممل .. انه الحب بمعناه الشامل والكامل والحب بلا حدود. الحب بلا قيود ولا تصنيف وبلا تحجيم لما يجب وما لا يجب.. وبلا تلجيم للمشاعر . وعندئذ فقط نعيش بل نحيا (كما يقول الحالمون المحلقون) التحرر الحق ونجد الحرية الحقيقية.. ونصبح من عشاق الحياة..
وبينما يأخذني التحليق بالحب الى آفاق بعيدة تطل على بابتسامتها الساحرة جولييت بينوش الممثلة الفرنسية التي أبهرتنا بأدائها المتميز في أفلام عديدة منها "المريض الانجليزي" و"شوكولا" ـ وتذكرني بما قالته في حوار صحفي: "أننا بالحلم والذاكرة نخلق عوالمنا وأننا غالبا ما نجد أكثر من عالم واحد للبشر وكلها من خلقنا نحن. ونحن عندما نصنع فيلما فاننا نخلق صورة جديدة للحياة ـ من اختيارنا وقد تكون هذه الصورة أحيانا أكثر قوة وتأثيرا مما نسميه الحياة." قالت جولييت هذا بعد أن شاركت في فيلم Certified Copy (نسخة طبق الأصل ـ ٢٠١٠) ويوافقها في الرأي مخرج الفيلم عباس كياروستامي الذي تعاون معها في أكثر من فيلم اذ يقول " ان السينما ـ سواء كانت الأصل أو الصورة ـ لها قوى ساحرة".
وبالطبع عشاق السينما يعرفون ويدركون هذا السحر الآسر .. ويستمتعون به .. ويلجأون الى السينما وسحرها هروبا ربما مما يحيط بهم من واقع يستهلكهم وينهكهم .. أو ربما يخنقهم !! وهذا ما فعلناه في الشهور الماضية ونفعله هذه الأيام مع مشاهدتنا وإعادة مشاهدتنا لأفلام قديمة نحبها أو أفلام جديدة نكتشفها ونكتشف معها زوايا مختلفة لم نعتادها لكي نرى دنيانا والناس من حولنا.
ولا شك أن مانراه وما نسمعه ونعيشه عبر الأفلام والأبطال والأماكن التي تدور فيها الأحداث يدفعنا من جديد لكي نحلم ونحب ونتذكر ونسرح ويطير بنا الخيال ولكى نبحث أيضا عن كل ما يزيد احتضاننا للحياة وقدرتنا ورغبتنا في الحلم ..وفي الطيران نحو آفاق بعيدة لم نقترب منها من قبل!
عندما توفي المخرج الإيراني عباس كياروستامى عام ٢٠١٦ احتفى الناقد السينمائي ابراهيم العريس بحياة وابداع المخرج العالمي ووصفه بأنه كان الشجرة التي رفضت مبارحة أرضها الطيبة .. وذكر أن كياروستامي سئل يوماً لماذا لا يغادر إيران كما فعل غيره، أجاب مبتسماً: «أنتم لو انتزعتم شجرة من أرضها وزرعتموها في أرض أخرى، قد تواصلون الحصول على ثمارها، لكنها لن تكون طيبة المذاق كما كانت حالها في أرضها القديمة». مذاق الفاكهة لها ذاكرة طعامة تظل فيك .. ولن تنساها مهما طال الزمن. من ذاق عرف!
وهل يمكن أن أنسى أن يوسف إدريس قال لنا بكل وضوح:
"أني أتمني أن أستمر في امتلاك القدرة على أن أحلم، فلقد قضيت الحياة منذ طفولتي ومتعتي ليس أن أحياها، وإنما أن أحلم بحياة أمتع، وربما كتبت لكى أحرك في الآخرين القدرة على أن يحلموا هم أيضا أحلامهم الخاصة".وأضاف الكاتب الشهير ب "حممه" المتدفقة قائلا: "فالانسان بلا أحلام في رأيي كائن أعمى. فالحلم هو الأمل المبصر المستشرف. هو قدرته على أن يرى الى الأمام وأن يجمع الماضي والحاضر والمستقبل في نقطة لقاء وهمي. هي الفن .هي الجزء الثمين المتمرد في كل البشر"
ولأن ادريس كان كعادته يمتعنا دائما بتمرده ولا يحرمنا أبدا من أحلامه وحديثه المتجدد عنها نجده يكتب في "الأهرام " أبريل ١٩٨١ عن الحلم بالكتابة كالحلم بالثورة فيقول:
".. كأنني سأصحو في الغد لأجد الصباح فجرا، ليس فجر يوم بل فجر عصر. عصر كامل تام، يعود فيه الإنسان يحب بكل فهم وظمأ الحب. ويعيش روعة الحياة يشربها مترعة قطرة وراءها قطرة، ولكل قطرة طعم، ولكل لحظة زمن تمر أشواق وصهللة ومعان". ما كتبه يوسف إدريس في "الأهرام" حينذاك كان بعنوان "يموت الزمار".
وأنا أتناقش مع الأصدقاء حول الحضور والغياب في زمن خليك بالبيت.. يفاجئني صوت الشاعر اللبناني أنسي الحاج الآتي من بعيد وهو يقول "لنا حياة وليس لنا غيرها، وإذا لم نضطرب بالحب فمتى نصنع ذلك؟" ويضيف : "لنا حب وليس لنا غيره، إذا احتقرناه فأين نصنع مجدنا؟" ما قاله الشاعر لنا دعوة مفتوحة لك ولي..لنا جميعا.ولذا لا يوجد أي مبرر لغيابك عن المشاركة.. وعن صنع المجد!!
أما الكاتبة الأمريكية أليس ووكر فكانت صريحة وصادقة عندما وصفت حيرتها وصراعها مع نفسها فكتبت :"انني حاولت أن أعلم القلب وأدربه كيف لا يريد الأشياء التي لا يستطيع الحصول عليها". إلا أن دائما كانت المحاولة وتكرارها . وطبعا شرف المحاولة جدير بكل التقدير والاحترام.. والتكرار أيضا.
وفي الانفراد والانعزال نتذكر الحبيبة "تلك التي أحب تجسد رغبتي في الحياة .." هكذا وصفها الشاعر الفرنسي بول ايلوار وأضاف:
"تجسد رغبتي في حياة بلا حسرة، في حياة بلا ألم، في حياة بلا موت / ولأنه ليس ثمة حياة أخرى، فالحياة رائعة". وطبعا روعة الحياة هي انك تحب وتحب كمان وتحب أكتر وكأنك تعيش أبدا. وتشعر بأنك قادر علي فعل المعجزات .. وعلى مقاومة الحزن والكآبة.
ومن هنا جاء ايلوار ليكتب أيضا "لأننا نحب، نريد تحرير الآخرين من وحدتهم القاتلة".
ـــــــــــــــــــــــــ
في مقاومة الوحدة القاتلة كان لا بد من حضور الحب ومن ونس الأحباب والتواصل معهم .. ومن ثم جاء التحرر من العزلة والارتماء في أحضان الحياة.. أو المحاولة للقيام بذلك وتكرارها .. ولذا أتت لحظات البهجة مع كلمات الأصدقاء وأيضا الرضا في حضرة الأحباب ..