فى صباح أحد أيام الشتاء ، شعرت الأم بالمخاض ، لقد حانت اللحظة الحرجة والحاسمة.
منذ اكتشافها للحَمْل ، وسؤال واحد يلح عليها يزورها فى اليقظة وفى المنام ، تحاول إبعاده وإزاحته عن عقلها ، مرات ومرات تحاول التهرب منه ولكنه يصر على ملاحقتها ومهاجمتها .
ماذا لو كان المولود بنتاً ؟ . قالت لها ابنتها الكبرى ، وهى فى حالة انفعال وغضب : " لو كان المولود بنتاً فأنتِ لا تستحقين الحياة " . شعرت الأم بالدوار ، سقطت مغشياً عليها ، أفاقت بعد وقت قصير ، تحسست جسدها ، أدركت أنها مازالت حية ، ارتعشت ، انقبضت ملامح وجهها ، وراحت فى نوية بكاء طويل .
ست بنات ليس بينهم ولد واحد . هل هو عقاب من الله على ذنب لم تفعله ؟ . هل هو عيب أو نقص فيها ، يجعلها تلد الإناث دون الذكور ؟؟.
ابنتها تفضل لها الموت ، على أن تلد أنثى أخرى ، فماذا عن الزوج ؟! ، وماذا عن الأقارب والجيران وأهل القرية جميعاً ؟! . إنها تغرق فى بحر من الخوف ، تأخذها أمواجه وتقذف بها نحو القاع ، تحتاج إلى إنقاذ ، لا أحد يستطيع انتشالها من هوة السقوط . لا الدعوات إلى الله ، ولا الإنسان ، ولا الملائكة والشيطان .
الكل يقف عاجزاً مقيداً ، فقط ذلك القادم المنتظر ، الذى يتلهفون إلى رؤيته ، ويشتاقون إلى لمسه والتبرك بحضرته ، هو فقط ، القادر على انقاذها . انكشفت اللحظة الحاسمة ، تبدد الظلام ، أطلت الشمس برأسها ، كانت على موعد ، مع إطلالة رأس الوليد المخلص المنتظر ، " الذكر " الذى هو أنا .
هذه القصة كانت تحكيها لى أمى ، من حين لآخر ، كى تشعرنى بالتميز. تأملوا معى ماذا فعلت بقدومى إلى الحياة ؟ . آسف لم أحسن التعبير ، سأعيد صياغة السؤال ، ماذا فعل جنسى " الذكرى " عند قدومى إلى هذه الحياة ؟ . أثبت براءة أمى من وصمة عار إنجاب الإناث.
حقق حلم الأب فى وجود طفل " ذكر" ، يفترض أنه سيفتخر به أمام الناس ، يمد نسله ، ويحيي سيرته ، وبعد الموت يرثه ويأخذ العزاء . ، لن يكون أبى بعد ذلك شجرة بلا فروع.
تم انقاذ أمى من ألسنة الناس ، وبدلا من الجو العام المترقب فى حزن ، تحول الى فرح ، وسرور ، وزهو .
عندما كبرت وأصبحت أعى ، وأدرك ، أن مولدى كان حدثاً ذكورياً ، قد يفتح لى باب التميز على مصراعيه ، إلا أننى لم أشعر بسعادة لهذا التميز . ببساطة ، لأن تميزى لا يعود إلى أفعالى التى أقوم بها بإرادتى الحرة الواعية ، ولا يرجع إلى ماهية شخصيتى بكل ما حققت من نجاح أو فشل ، نتيجة تفاعلى مع هذه الحياة . وإنما يرجع إلى جنسى ، الى كونى " ذكراً " وليس أنثى . إنه تميز زائف وليس حقيقياً.
كيف أسعد بشىء لم يكن لى يد فى اختياره ؟؟. وكذلك أخواتى البنات ، لماذا ينظر إليهن ، على إنهن أدنى مِنى ، على شىء لم يخترنه ؟؟. لماذا تكون الذكورة مدعاة للفخر ، والأنوثة مدعاة للفضيحة والخجل ؟؟. إنه منطق المجتمع الذكورى ، الذى يفرق بين الأخ وأخته ، بين الزوج وزوجته ، بين المرأة والرجل.
وأنا تلميذ فى المدرسة الابتدائية ، كنت ألاحظ أن زملائى يخجلون من ذكر أسماء أمهاتهم ، فيتكتمون عليه ويخفونه ، ولا يفعلون ذلك عند ذكر اسم الأب ، وكنت أخجل مثلهم ، ولم أكن أعرف لماذا ؟ . لكننى كنت أتساءل لماذا أخجل من اسم أمى ؟؟.
أمى ، لا تقل عن أبى ، ولا أرى فيها أى عيب يدعونى إلى هذه الخجل ؟؟.
منذ الصغر ، كنت أرى أزواجاً يضربون زوجاتهم ، وكثيراً ما تسلل إلى سمعى ، من البيوت المجاورة فى القرية ، صراخ زوجات يُضربن .
بعض أخواتى كن يتعرضن أيضاً للضرب ، كنت أرى السحجات والجروح ظاهرة على وجوههن وأجسادهن ، كان أهل الزوجة يتغاضون عن هذا العنف ، ودائماً ما يغفرون للزوج فعلته ، وقد تُدان الزوجة فى أغلب الأحيان .
لاحظت أن أغلب أشكال السباب والشتائم ، تدور حول جسد المرأة ، وخاصة ما يتعلق بأعضائها الجنسية . وتساءلت لماذا هذا الهوس بجسد المرأة ، لماذا التحقير بجسدها و بأعضائها ، والرجال فى مجتمعاتنا الذكورية يتهافتون ويسيل لعابهم ، على هذا الجسد ؟؟؟.
كبرت ، وأصبحت أعى مدى الظلم الواقع على المرأة ، منذ الميلاد وحتى الموت ، تجسدت أمامى كل أشكال التفرقة التى صنعها المجتمع الذكورى .
تفرقة تقوم على الإزدواجية الأخلاقية والقهر والخوف والكبت والكذب وغياب الحرية . أدركت أننى أعيش فى المكان الخطأ ، حيث المسرح اليومى لرواية ذكورية أبطالها السادة الرجال ، آما النساء فأدوارهن هامشية. وأدركت أعيش مع الناس الخطأ – رجالاً ونساءً – حيث تعشش فى عقولهن هذه الأفكار الذكورية ، ويسلكون وفقاً لها منذ اليقظة وحتى المنام ، منذ الميلاد وحتى الموت ، ويتآلفون ويتعايشون معها ، كأنها من الثوابت التى لا يجب المساس بها .
دائماً كنت أشعر بالاندهاش ، حينما أرى أغلب النساء يستدمجن القيم الذكورية ، ويدافعن عنها باستماتة ، وفخر . لم أعد أنخدع بنساء يتقلدن أعلى المناصب ، فلو فتشت فى رؤسهن ، لوجدتهن ذكوريين أكثر من الرجال أنفسهم .
بالرغم من سيادة القيم الذكورية فى مجتمعنا ، إلا أن هناك منْ ينكر وجودها . من أجل ذلك ، آثرت أن أعدد بعض السلوكيات النابعة من هذه القيم ، المتداخلة فى كل أزماتنا ، ومشكلاتنا ، وأمراضنا الاجتماعية :
- الرجل الذى يقيم شرف المرأة ليس بصدقها ، ولكن بامتلاكها لغشاء البكارة .
- الرجل الذى يعتقد بأن المرأة خُلقت بطبيعتها لأعمال ، وهو خُلق للعمل خارج المنزل .
- الرجل الذى يؤمن بقوامته على المرأة لمجرد أنه ينفق .
- افتخار الرجل بعلاقاته الجنسية قبل الزواج ، وعدم قبوله بل رفضه الزواج من أى امرأة ، يعرف أنها فعلت السلوك نفسه الذى فعله .
- تفضيل الرجل للزواج بامرأة أقل وأدنى منه ، وهروبه من المرأة التى تكون نداً له ، فى المنصب والطموح ، أو تفوقه .
- الرجل الذى يتباهى بعلاقاته مع نساء يصفهن بالمتحررات ، وعندما يقرر الزواج يختار امرأة منغلقة مطيعة وخاضعة .
- الزواج حينما يتحول إلى شكل من أشكال الدعارة المقنعة .
- التسامح فى حالة خيانة الزوج لزوجته ووصفها بالنزوة ، أما خيانة المرأة لزوجها ، فهى جريمة لا تغتفر والتى تستحق عليها القتل ، استردادا للشرف .
- المجتمع الذى ينصب من البًواب ، وذكور الحى ، والجيران ، رقباء على سلوكيات النساء .
- إدانة المجتمع للنساء المطلقات ، والمرأة التى لم تتزوج ووصفها بالعانس ،
أو " البيت الوقف " .
- الإيمان بأن جسد المرأة عورة ، لذا يجب تغطيته وستره ، خوفاً من إثارة الرجال وفتنتهم .
إن المجتمع الذى تترسخ فى عقل رجاله ونسائه ، هذه القيم الفاسدة ، هو مجتمع مريض ، مختل ، معوج ، يستحق العلاج ، ويستحق الشفقة . يقهر المرأة ، ويشوه صورة الرجل ، فالقاهر والمقهور ، كلاهما معتل .
قيم مزيفة ، تدمر إنسانية الإنسان . كيف أسمح لنفسى أن أكون أنا الواجهة والمرأة هى الخلفية ، أنا الصوت وهى الصدى ، أنا القًوام وهى المطيعة ، أنا القائد وهى التابعة ، أنا الأقرب للكمال وهى الناقصة .
لأننى أحترم عقلى .. لأننى أنحاز إلى إنسانيتى .. لأننى أحب أمى واخواتى البنات ، كان رفضى وتمردى ، منذ سنوات طويلة ، على هذا العالم الذكورى ، المقزز .
من كتاب " الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الدينى " 2002
من كتاب الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الدينى
أمى وأنا فى مجتمع ذكورى
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...