رغم الضجيج الكبير الذي تثيره الرواية الحديثة في العالم الآن والتي تعنى بالفرد وشئونه الخاصة وتفاصيل الحياة اليومية وتحتفي بها على حساب القضايا الكبرى التي مازالت هي همنا الأول للكتابة في الوطن العربي، إلا أنني حين أطالع رواية من روايات أمريكا اللاتينية أو روايات العالم الثالث فإنني أجدها وقد وضعت الهم العام بقوة وبشكل جديد وفرضت وجودها رغم أنف الاتجاهات الداعية لمركزية الفرد البطل في أوروبا وأمريكا ويمتد الحال بي إذا ما طالعت الأدب الأفرو أمريكي كما يحلو للبعض أن يسميه والمقصود به الأدب الذي يكتبه الأمريكيون من أصل إفريقي، أقول هذا بمناسبة قراءتي لرواية توني موريسون «أكثر العيون زرقة» التي صدرت أخيرًا عن دار الآداب من ترجمة كامل يوسف حسين، ورغم أن هذه الرواية هي الرواية الأولى للكاتبة الحاصلة على جائزة نوبل إلا أنه سبق وأن ترجم لها إلى العربية رائعتها «جاز» لنفس المترجم ومحبوبه لأمين العيوطي. وكانت توني موريسون قد أصدرت ست روايات حين حصولها على الجائزة هي «أغنية سليمان» «طفل القطران» و«سولا» بالإضافة إلى ماسبق ذكره، ومسرحية «أحيت الحالمة»، بالإضافة إلى كتابي «اللعب في الظلام» و«سباق العدالة وخلق القوة» أبحاث حول بناء الواقع الاجتماعي لدى انيتا هيل وكلارنس توماس وغيرهما.
وتأتي أهمية رواية "أكثر العيون زرقة" في رأيي ليس من أنها أول عمل للكاتبة التي أصدرته وهي في الأربعين من عمرها بعد حياة حافلة في تدريس الأدب بالجامعة ولكن من حميمية الكاتبة ومعرفتها الواسعة بالعالم الذي تقف أمامه لتقدِّمه لنا، هذا الصدق الذي يشعر به القارئ من الوهلة الأولى ومع أول فقرة تبدأ بها العمل بأغنية أرادت لكلماتها أن تقال بوضوح مرة ثم تندمج حروفها معًا لتمثل إيقاعًا خاصًّا لم يغب عن عين توني موريسون في أعمالها اللاحقة بعد ذلك، هذا الرق الإفريقي الذي أشعر أنه يوازي نبض الدم حتى إنها تعتبره بعد ذلك هيكلاً تقيم عليه روايتها الأكثر شهرة والأكثر فنا وإتقانا «جاز» والتي جاءت تماما مثل موسيقى الجاز، إيقاع وانتشار فطري بسيط لكنه قوي ويهز الروح ويأتي بك على جناحه إلى أجواء الغابة وعزف الريح وخشخشة الأوراق تحت قدم أسد وهسيسها تحت قدم طائر ناعم.
رغم أننا لم نعرف للكاتبة موريسون من خلال اللغة العربية غير روايات ثلاث آخرها "أكثر العيون زرقة" فإنها تكفي لكي نعرف أننا حقا إزاء كاتبة عملاقة ستبقى أعمالها في وجداننا زمنا طويلا وخالدًا ولسنا إزاء صرعة من صرعات الموضة الأدبية التي تأتي بها الجوائز أحيانا.
إن أعمالها تظل ساكنة للروح بسبب حميمية الشخوص، حتى إنك تجزم أنك قابلتها في حياتك وتعاملت معها، بل إن بعضا منها يقبع خلف جلدك رغم بعد المسافة واختلاف الظروف، والسبب هذه الإنسانية المدهشة والبساطة السهلة التي تقترب من العبقرية في الأداء الفني وليس بسبب أن هذه الظروف التي يعيشها أبطال توني موريسون هي ظروف القهر والفقر والمرض في بداية القرن، فهي مغرمة بالسنوات التي تبدأ بعد الحرب العالمية الأولى والتي تشبه ما عانيناه وما زلنا في بلادنا، ولكن لأنها شعرت وتشعرك في كل لحظة أنها إزاء كنـز إنساني ثمين لم يكشف عنه بعد، ابتداء من اللغة التي حرصَتْ أن تكون بصوت هذا المجتمع الذي احتفظ بالتنغيم الخاص لكلماته حتى إن الكلمة تنقلب معناها إلى معنى مضادٍّ، وأحيانا مغاير، طبقًا للطريقة التي تلقي بها، وهو ما جعل المترجم كامل يوسف- وهو من أفضل المترجمين العرب- يشير في بداية الرواية إلى حديث لها عن اللغة قالت فيه إن ما يفعله السود بصوت اللغة، بخواصها النغمية شيء فاتن، حتى إنك لا تحتاج إلى الاعتماد على المعجم، ويمكنك أن يكون لديك معجم محدود جدا. إن موسيقية اللغة تتأكد في كلام السود، معارضة الكلمات وتخلق أنواع معينة من الصور في اللغة شاعرية أيضا، وأشكال القلب ممتعة. إنها إحدى وسائل التمكن من اللغة.
وتدور الرواية التي يحمل عنوانها موضوعها بالفعل عن رؤية الأفرو أمريكي للجمال والقبح وكيف ترسخت في وجدانه على مدار أعوام طويلة صبغة للجمال هي الصبغة الأوربية: العيون الزرقاء والشعر الأصفر والبشرة البيضاء، ولأن أصحاب هذه الصفات يتمتعون بحياة ورفاهية خاصة، ولهم حقوق لا تستطيع أن تتلمس الطريق إليها طفلة زنجية فقيرة ولا تفهم بالتالي أسباب هذا الاختلاف الجوهري في طريق الحياة، فإنها تحلم طوال الوقت بالعيون الأكثر زرقة في العالم، تحلم أن يهبها الله هذه العيون لكي تكون طريقها لتحيا حياة هؤلاء البشر.
من خلال هذه التيمة البسيطة الموجهة تبني توني موريسون العالميْن المتضاربين اللذيْن يعيشان معًا، بل تتوغَّل أكثر لتكشف عن العوالم المختلفة التي يعيشها السود وما هو المعيار الذي يحكم اختلاف العالم الذي يحيا، وكل ما يخشاه كلمة واحدة هي التشرُّد، أن يحافظ على أن يكون له مكان إيجارًا كان أو امتلاكا، حتى لو كان عشة صغيرة من الصفيح أو الخشب على أرض له تحميه من هذا الغول الذي يتربص بالأبواب.. التشرد.. إن هذه الفتاة بطلة القصة التي نتابع معها كيف تترسخ صورة القبح عند الزنوج، وكيف يلقى عليهم القبح كسمة أساسية لحياتهم لا يحاولون مناقشتها ويقنعون بها فتشوه نفسياتهم ويصدقونها دون محاولة واحدة لتغيير هذا، ومع نمو الفتاة في الزمن القصير للحدث الذي يجعلها تتفتح على الحياة والزمن الأطول الذي تسمح لنا به توني موريسون من خلال الفلاش باك لكي نقرأ تاريخ شخصياتها وعالمهم وأن نعرف أنه من كل الأمل والخوف والشهوة والحب والحزن لم تبق إلا التربة المجدبة التي لم تنبت زهور القطيعة بين خريف ذلك العام 1941 فقد ماتت البذور وكذلك البراءة.
إنها رواية النمو والتفتح والسؤال الكبير: لماذا نسكت على الظلام الذي يقبع حولنا دون أن نحاول أن نزيح بعضه لنرى.
رواية جميلة لكاتبة في السبعين من عمرها خبرت الحياة وكذا فن الكتابة.