يقف الجندي الألماني مستنداً على صخرة ضخمة ، ممسكاً سلاحه بثبات و صمود وسط بياض ممتد من الثلوج الباردة ، و لم تكن برودتها متناسقة مع حرارة الأحاسيس المتوقدة داخل صدر ذلك الجندي الشاب . كانت خليطاً من الاشتياق و الحب و الحنين ، شبيهة بتلك النيران الموقدة في منزله الدافئ ، حيث يجتمع أفراد أسرته الطيبين و هم يضمون أيديهم بالصلوات و الأماني ، كما قد يتصورهم أو تصور له عاطفته الجياشة في تلك اللحظات .
كانت ليلة الكريسماس ، يجلس الناس تحت أسقف دافئة و بين قلوب دافئة ، يفتحون الهدايا و يتبادلون الضحكات ، يزينون أشجار العيد بأجمل المصابيح ، كما تقتضي عاداتهم في تلك البلاد البعيدة . أغمض الجندي عينيه ، و تجاهل الضوضاء المتوحشة التي قامت حوله ، جلس مسنداً ظهره إلى تلك الصخرة العملاقة ، و أرخى أذنيه و أرهف سمعه ليلتقط موجات أكثر جمالاً و قرباً من قلبه ، تخيل أفراد أسرته و أنصت لأصواتهم الدافئة ، و تمنى من أعماق قلبه لو أنه كان معهم في هذه الليلة ، يجلس إلى المائدة و يشاركهم الطعام اللذيذ ، يداعب أخته و يمازحها ، يضاحك أبويه المسنين اللذين يرمقانه بعطف و حنان كما لو كانا يعلقان أملهما به ، ما أجمل ذلك العيد الذي يقضيه برفقتهم ! و ما أبعده عن هذا العيد البارد الذي حكم عليه أن يقضيه مع أصوات جلفة قاسية ، عواء المدافع و هبوب العواصف الثلجية القارصة ، و مناظر الجثث المتساقطة عوضاً عن زينة الكريسماس ، يسيل منها دم أحمر ترتوي منه الثلوج ، فيزيدها ذلك قسوة و غلظة و يزيد شتاءها تمادياً ، ياله من عيد بديع ! فكر الشاب و هو يبتسم بسخرية ، لقد اتحدت كل تلك العناصر لتعزف أغنية قاهرة و قاسية احتفالاً بالعيد على طريقتها الخاصة ، إنها أغنية يغنيها الموت بينما يصفق له الشتاء ، تتحدى بكلماتها المرعبة فرحة الأعياد و تحتقرها ، و تحتقر كل مظاهر الجمال و النعيم ، بل إنها لا تعترف بأي نوع من الحياة خارج ساحة الحرب ، و لا ترى في الألوان الأخرى سوى التفاهة و الفراغ ، إنها الوجود ، و كل ما سواها العدم . أنصت الشاب إلى كلمات الأغنية مراراً و تكراراً ، و بالرغم من كل ما حملته من رسائل متشائمة ، إلا أنها لم تستطع إطفاء نيران شوقه للحياة خارج الحرب ، لم تستطع أن تقتل رغبته في أن يكون مع أحبائه و يقضي معهم أجمل أيام السنة ، و يا لها من أمنية !
و قد عاد ليغمض عينيه بألم و هو يغمغم قائلاً : " أبي ، أمي ، أختي " ، ثم صمت ساكناً لبعض الوقت و أرهف صوته ليهمس : " و أنتِ يا حبيبتي " ، عادت به ذاكرته إلى تلك اللحظات التي كانا فيها واقفين وسط حقل مخضر تزينه نباتات حسناء ، كان القمر بهياً في تلك الليلة ، و قد أمسك يديها برفق و أحس بألمها العميق حين همست بصوت متهدج و قد أغرقت الدموع عينيها : " أرجوك يا ألبرت ، عد إلينا سالماً " ، ابتسم و هو يسترجع هذه الذكرى القريبة من قلبه ، ثم أجابها كما لو كانت تسمعه : " حاضر يا عزيزتي ، سأعود إليك سالماً " . اشتد حوله صخب إيقاع الحرب ، فانفجر داخله بركان ثائر ، و وقف بثبات و صمود و هو يزأر كالأسد بكلمات تفيض قوة و عزماً : " سأقاتل من أجلك يا حبيبتي ، سأقاتل من أجلك يا ألمانيا ! "
و لكن رصاصة خائنة انطلقت من بعيد و هي تضحك ، فاخترقت صدره المنيع بصعوبة و توغلت متجهة إلى قلبه ، سقط الجندي صريعاً على الأرض ، فشربت الثلوج دماءه القانية التي تفجرت بعنف ، و قد أحست الثلوج بالرضا عن طعم هذه الدماء اللذيذة التي جاد بها رجل باسل ضحى بحياة نضرة لم يتمتع بها حق المتعة ، فارتشفت بلهفة تلك الحياة المدلوقة ، و قد تدفق الحب و الألم على جانبي الشاب الصريع ، و انسابت كل المشاعر الطاهرة التي ملأت وجدانه . و لم تدر أرض ألمانيا إن كان قد مات من أجلها أو أنه مات من أجل الأطماع و الأحقاد التي غذت أسياده و دفعت به دفعاً للهلاك باسم حب الوطن ، لكنها لم تشك لحظة في كونها قد أنجبت رجلاً