بقلم: فاروق شوشة
لم يكن أحمد فضل شبلول ـ في يوم من الأيام ـ مجرد واحد من أصوات الاسكندرية الشعرية المقتحمة, وإنما كان ـ بالاضافة الي ذلك ـ واحدا من أبرز الدارسين والباحثين ـ في جيله ـ لواقعها الأدبي والثقافي, قبل أن يتجاوز هذه الدائرة الجغرافية الضيقة, لتصبح اهتماماته وشواغله باتساع العالم العربي كله. من هنا فإن إبداع أحمد فضل شبلول في مجموعاته الشعرية: مسافر إلي الله(1980) ويضيع البحر(1985) والطائر والشباك المفتوح(1998) وتغريد الطائر الآلي(1999) والمجموعة المشتركة' عصفوران في البحر يحترقان(1986) والشعر الذي كتبه للأطفال في مجموعتيه: أشجار الشارع أخواتي(1994) وحديث الشمس والقمر(1997) ـ يوازي هذا الابداع الشعري ويجاوره دراساته الأدبية والنقدية عن أصوات من الشعر المعاصر وقضايا الحداثة في الشعر والقصة القصيرة وجماليات النص الشعري للأطفال وأدباء الانترنت وأدباء المستقبل ومن أوراق الدكتور هدارة وأصوات سعودية في القصة القصيرة ونظرات في شعر غازي القصيبي وأدب الأطفال في الوطن العربي بالاضافة إلي جهوده في المعجمية العربية التي تمثلت ـ حتي الآن ـ في إصدار معجم الدهر ومعجم شعراء الطفولة في الوطن العربي خلال القرن العشرين ومعجم أوائل الأشياء المبسط. وفي ختام القائمة يجيء كتابه: بيريه الحكيم يتحدث وهو تبسيط لبعض أعمال توفيق الحكيم للأطفال.
هذا الانجاز الابداعي والبحثي الذي حققه أحمد فضل شبلول في عقدين متتابعين من الزمان ـ إذا اعتبرنا عام1980 بداية الانطلاق الحقيقية لصوته مع صدور مجموعته الشعرية الأولي ـ يكشف عن مدي الجهد والجلد والدأب والمعاناة في مسيرته, وعن كدحه المستمر في دوائر متداخلة من الانشغال الابداعي والبحثي, والعودة من هذا الكدح بصيد وفير يفوق بكثير ماحققه أي من أبناء جيله ـ في الاسكندرية أو في غيرها ـ خلال هذه الحقبة من الزمان. كما أنه إنجاز يكشف عن الملمح الأساسي في شخصية أحمد فضل شبلول الأدبية, وهو التداخل والتفاعل بين عالم البحث والدراسة بما يمنحه من وعي وصحو ويقظة, وولع بالمعرفة والتفسير والوصول إلي الاجابات, وعالم الابداع بما يتطلبه من احتشاد وعكوف وغيبوبة ووجد فني منصهر في حميا اللحظة الشعرية. هذا الوعي الكاشف وهذا الولع بالمعرفة سيؤديان به في المرحلة الراهنة من إبداعه الشعري لي أن يصبح ـ كما سماه الدكتور السعيد الورقي ـ شاعر الرؤيا الحضارية الذي قدم في ديوانيه الأولين شعرا له عمق الفكر وبساطة التوصيل, مصحوبا ـ إلي حد ما ـ ببعض الابتكارات في الصياغة التي جاءت نتيجة امتزاج الشاعر لديه بالكون, وسعيه إلي أن يكون خالق رموزه وصوره, ونتيجة لاتحاد التجربة الروحية والميتافيزيقية والكيانية والمادية ـ وهكذا عرفنا شبلول شاعرا يحدث أثرا بلا ضوضاء ـ ويتابع شبلول الطائر وجدانيته الحسية في ديوانه الجديد تغريد الآلي ولكن من خلال مفردات كونية جديدة تنهل من علوم الكمبيوتر والطبيعة والكيمياء والفضاء وسائر العلوم المادية الأخري, إلي جانب الطبيعة والانسان, فكأنه بهذا يقدم الطبيعة إزاء المعرفة, والفن في مقابل المادة التكنولوجية.
هذه السطور التي نقلتها من الدراسة الكاشفة للدكتور السعيد الورقي ـ أكثر النقاد الجامعيين في الاسكندرية متابعة لإنجاز أحمد فضل شبلول ووعيا بما يثيره من قضايا واهتمامات, هذه السطور تؤكد بدورها جدلية الوعي والابداع عند شاعرنا, وتعاظم الدور المعرفي لديه, وعناد الرغبة المستميتة في المغامرة من أجل الكشف عن وقع تكنولوجيا العصر وآلياته علي الوجدان الانساني, وتوسيع أقطار الفضاء الشعري ليصبح فضاء كونيا, تملؤه المعرفة الإلكترونية, ويمزقه التناقض بين الكائنين الانساني والآلي, وتثريه ذات شعرية مغايرة, تحاول أن تقبض علي ماتبقي من وهج الغنائية, وأن تتسع ـ في الوقت نفسه لثورة الحداثة, والوعي بالعالم الجديد الذي تتسيده المعرفة العلمية والحضارة المادية. بينما يتناول الناقد والباحث الجامعي الدكتور حسين علي محمد الظاهرة نفسها في تحولات أحمد فضل شبلول الشعرية, واصفا ما قام به في ديوانه تغريد الطائر الآلي بأنه يؤنسن الآلة ويجعلها تتجاوب وتحس وتشعر, وأنه يعي مايفعله وعيا شعريا. ويستشهد بما قاله الشاعر في مقاله عن الشعر والمنجز الآلي والإلكتروني: إن الاتجاه الشعري في عصر التكنولوجيا والفضاء يتميز عن اتجاه الشعر السابق في وصف المخترعات الحديثة, الذي كان يتناول الظاهرة من الخارج, ولا يقترب منها ولا يرصد وقعها علي المشاعر الانسانية فمجرد وصف غواصة أو سيارة أو طائرة من الخارج ليس له هدف سوي التعريف بالمنجز وشكله الخارجي وكيفية استفادة الانسان منه. وهنا تبرز الذهنية وتتجلي عن مثل هذا الوصف, الذهنية التي تعني التخطيط المسبق للعمل الفني وتوجيه مساره وفقا لهذا التخطيط, الذهنية التي تتمثل في انعدام التلقائية والصدق وعدم الكشف الحقيقي عن هموم الانسان وتطلعاته ورصد مشاعره والتعبير عن انفعالاته.
أما الاتجاه الشعري الجديد ـ الذي يمثله هو في تعامله شعريا مع المنجز الآلي والإلكتروني ـ فإنه يدخل الي قلب المنجز, ويحاول ان يسبر أغواره ويرصد مشاعر الانسان وانفعالاته تجاهه وكيفية تعامله معه, وهل يتقبله وجدانه باعتباره واقعا حياتيا يتعايش معه, أم يرفضه ويقاومه. وهل هذا المنجز سيحط من قيمة الانسان أم سيعلي من انسانيته؟ هذا ما يقوله أحمد فضل شبلول في مقال له يضمه كتابه: أدباء الإنترنت: أدباء المستقبل كاشفا عن الاساس النظري الذي قامت عليه قصائد أحدث دواوينه ورؤياه الشعرية كما يجسدها هذا الديوان, الذي سيظل يغري النقاد والباحثين بالتأمل والتحليل والكشف عن حجم الشعرية فيه وحجم التوفيق بين المادي والانساني في تغلب كل منهما علي الآخر ـ كما لاحظ الدكتور الورقي ـ وتردد القصيدة بين هذا وذاك. يقول أحمد فضل شبلول في واحدة من أجمل قصائد ديوانه تغريب الطائر الآلي وهي بعنوان جراي. والجراي هي الوحدة العالمية الحديثة لقياس الجرع الاشعاعيةـ:
كانت نهرا من عسل وصفاء ينبوعا من رقة وصفاء تنجب من دون مشقة وتغني للبحر وللنورس للأطفال المحرومين, وللأطفال السعداء وأنا يختمر الاشعاع بكفي تسقط مني حنجرتي تتليف أفكاري, أوردتي ويهاجر أنفي تتأين تفاحة حبي تتكلس أزهار الأرحام!
*** ذات مساء والأحلام تداعب ثغر الأيام أكلت من تفاحة قلبي شربت من سحر الأفكار من ساعتها.. كفت عن كل غناء سقطت في بئر العقم الأبدي وفي أوحال الطفرات الجينية إشعاع, أورام, أزمان منغولية كل جراي جبل من سم فوق الرئتين قنبلة من نيترون وفضاءات من كربون كل جزيء يخترق جدار البشرية ويحولها لخلية سرطانية فكفاكم تشعيعا للأمخاخ وللأعضاء كفاكم تفتيتا لمشاعرنا وكفاكم تفليقا للذرات فأنا أمشي أحمل نعشي وخلايا الأموات!
عندما قدر لأحمد فضل شبلول أن يغيب عن الاسكندرية, وعن مصر كلها سنوات طويلة ـ من أجمل سنوات العمر الجميل ـ قضاها في السعودية وهو يعمل في مؤسسات النشر والصحافة ـ يقرأ ويكتب ويؤلف ويبحث ويعمل في المعاجم ويشارك في الموسوعات ـ استطاع أن يكون لنفسه رصيدا معرفيا وزادا علميا يقتحم به العصر, ويتابع آفاق المستقبل, ولم تستطع الغربة القاسية ـ بكل ما تسببه من معاناة إنسانية وكشف عن النوازع السيئة والشريرة في نفوس بعض الناس ـ وحتي الأساتذة ـ الذين رأوا في نزوع شبلول الحداثي والمعرفي مروقا وجنوحا وخروجا علي التقاليد والمعتقدات, فأغروا به وظاهروا عليه, تقربا وولاء لأولي الأمر. وكان شبلول يصارحني بهمومه وأحزانه كلما لقيته ـ خلال هذه السنوات الطويلة من الاغتراب, في القاهرة, أو في الرياض ـ من خلال المشاركة في مهرجان الجنادرية ـ كان قلبه ينزف, وهو يعرض لحال الجالية المصرية ـ شأنها في كل مكان من العالم العربي ـ وعندما يتفرغ بعض ابنائها لملاحقة البعض الآخر من الناجحين, يدسون لهم ويكيدون, وينفسون عليهم تفوقهم وتألقهم, خاصة من يظن أنهم في موقع الأساتذة الكبار الذين ينبغي أن يكونوا القدوة والصفوة والمثال. وأغلب الظن أنهم الآن ـ وقد انقشعت الغمة وانهمرت السنون وصار كل في طريق ـ نادمون علي ماحاولوا القيام به ضد شبلول, مناقضا لوعيهم وقيمهم ومسئوليتهم.
وأشهد أني لم أعرف واحدا أخلص ـ طوال سنوات اغترابه وابتعاده عن الوطن ـ لأصدقائه واخوانه كما أخلص أحمد فضل شبلول. لا ينشر خبر أو تكتب كلمة أو مقال أو دراسة أو حتي رأي في تحقيق أدبي إلا ويسارع شبلول ـ في محبة حقيقية غامرة وحب للخير يسري في دمه ـ إلي تجميع هذا كله ـ وإرساله إلي من يعنيه ويخصه من أصدقائه وصحابه ورفاقه, وكأنه عينهم اليقظة المتابعة, وسفيرهم الثقافي والأدبي حيث هو, وساعدته طبيعته البحثية والدراسية علي القيام بهذا الدور, في يسر وطواعية, دون كلل أو ملل وعلي مدار السنوات المتطاولة. ولم تغب الاسكندرية ـ محبوبته الكبري ـ عن وجدانه طوال سنوات المنفي والاغتراب ـ كانت دائما تشرق بين سطوره وتسطع ملء كلماته, يغني لها, ويهتف عند لقائها, محتضنا بحرها ورمالها وطيورها في شحنة وجدانية وجودية عارمة, وهو يقول:
الرمال تودع أحزانها وتجفف ذراتها الطيور تحلق فوق الشواطيء عشاقك الأقدمون يجيئون من كل فج عميق
*** القوارب تسبح بين يديك البحار تراقص ألوانها وتدلل أمواجها الشباك تداعب أسماكها فاهدئي يانوارس إن الطريق إليك مضييء
*** دائما تشرقين فأنت الزمان الذي لا يدور إلي شمس وأنت الجمال الذي لم يقف عند نهر الحقيقة وسواك, مساحيق من عنفوان دائما تخلصين لعشاق هذي البحار الذين سقتهم دموع الرمال قناطير ملح وهم ثم عادوا ـ فرادي ـ كمثل الحجار إنهم قادمون: السماء تغني لنا والطيور تحط علي صدرنا إنهم قادمون: فافتحي صدرك الآن للعابرين الذين يجيئوننا تائبين فأنت الزمان الذي لا يدور وأنت الجمال الذي لم يقف عند نهر الحقيقة!
*** ولقد عاد شبلول ـ بعد طول اغتراب ـ إلي محبوبته الاسكندرية, ليقوم بدوره المحوري في حركتها الأدبية والثقافية, مزودا بالمزيد من الخبرة والوعي والنضج, ومستشرفا ما حلم به دائما وراهن عليه.