عندما اقمتُ ببغداد، مكثتُ فيها بضع سنواتٍ، درستُ فيها اللغة والأدب، وكان والدي يعيش في جنباتها، وعلاقتي به شابها الفتور ولكنها لم تخلُ بالمطلق من الحنان الذي أسبغه عَليّ، وحين أُصْبتُ بمرضِ الجدري وتمّ حجْريّ عن الناس لوقتٍ وجيز، ذقتُ لأولِ مرةٍ طعم العزلة، فانتفض عقلي من حينها واتّقد بالضرام وهو يسأل عن مغزى اختياري أنا بالذات من بين أولاد الحي لأُصاب بمرضٍ معدٍ ينفيني عن محيطيي فأشعر من حينها بالنبذ. حين كنت أعبر ضالاً شوارع المدينة العتيقة، شهدت احتدام الصراعات والحروب والتنازع على السلطة بين الأمراء والولاة الذين تناوبوا على حكمها، طبعت تلك الحروب وتداعياتها جدران المدينة وشوارعها مع مساجدها بالكآبة، اكتظت المدينةُ بالمقاهي والحانات والجوامع، وازدهرت بالمكتبات، وتسابق كتبة الرسائل على الانزواء بأرصفتها وهم يتطلعون لجمهور العامة الراغبين بكتابة الرسائل وبعثها للأحبة سراً أو نسخ بعض الوثائق والمستندات. كان هناك أحد هؤلاء الكتبة، تعرفت عليه وتبنى تعليمي الكتابة، ومنهُ اطلعتُ على الكثير من أسرار سكان بغداد الذين انتشروا بها له ليدونها برسائلهم. كان يقرأ عَليّ الرسائل قبل تسليمها لأصحابها، فقد كان يطلب منهم سرد حكاياتهم لهُ ثم يأمرهم بالعودة له بعد ساعة أو يوم، أقل أو أكثر، بحسب الرواية التي يدونها فاغلب، ما كان يدونهُ نسخ المستندات التي يأخذها منهم، كنت أجلس بقربهِ عند مصطبة بنهاية رصيف وسط المدينة، وبقربه كانت توجد مكتبة تراثية يقبع بداخلها أحد الشعراء غير المهمين، وكانت تكتظ بالمخطوطات، وقد عمد هذا الشاعر، لبيع المخطوطات بعد نسخها، وكان المشتري يختار المخطوطة ويدفع عربوناً من الدراهم، ثم ينتظر بضعة أيام وأحياناً بضعة أشهر بحسب حجم المخطوط، ليستلمها، وكان صاحبي الذي يُدعى أبو قيس الكرخي وهو من سكنة أطراف بغداد وله من العمر سبعون سنة ويزيد عليها، نحيف البنية، سامقُ القامة، ذو بشرة سمراء فاتحة كالتين الشامي، وعينين ضيقتين مراوغتين، وصوت أجش تتسلل الألفاظ من لسانه دون ترتيب، فيحدثك عن الأمس ويعني به الغد، والمقابل يسردُ لك حكاية سقوط بغداد بيد أمير المؤمنين جعفر وهو يقصد مروان، يرتدي من اللباس ما يناقض فصول السنة، ففي الصيف القائظ، يلبس الصوف، وبالشتاء الزمهرير يرتدي القطن، أدركتُ مظهره وسماته، من خلال نعتهُ والتهكم عليه من قبل خلانه المشاكسين المحاذين له، ومنهم الخياط معروف الرسغي ذو الندبة الطويلة، بوجههِ المعبد كما يُلقب، وهناك الاسكافي رسول الكوفي، ذو الأربعين أو الخمسين عامًا، فقد برع بتزوير سنه، كما برع بإخفاء معالمه كلّها، أتقن بإخفاء ملامحه عني ولا أعرف السبب، واشْتُهر بعلاقتهِ مع صبيّه الذي لم يبق أحداً بالشارع الخلفي وعلى ضفة النهر، لم يهمس سراً حول علاقته المنحرفة بالفتى الذي وُصِفَ بالفتنة، ومن أغرب ما سمعتُ مما تردد عن صلة رسول الاسكافي بالصبي المولع به، أن هذا الفتى فاق نساء بغداد كلّها فتنة، وأثار ذلك سخريتي وأنا أرى سكان بغداد يفقدون رشدهم.
هؤلاء الصحاب الثلاثة، الكرخي، والرسغي والاسكافي الكوفي، هم بنظري أخلاء رغم فقرهم وبساطتهم، اعتبرهم ركائز الحكمة! ودلالات بوابة بغداد الرئيسية المطلّة على شارع الخليفة المسمى سراً بشارع الضالين، والمعني بالضالين، هم كلّ من استخفى عمداً تحت قناع غير وجهه الأصلي، خشية التصفية أو الاختطاف، فهؤلاء، أبو قيس الكرخي، الخطاط كاتب الرسائل، ومعروف الرسغي، درزي الملابس، المهموم بشأن نهري دجلة والفرات، مخافة فيضانهما، وليس ثمة حجة أو برهان له صلة بين خياطته الملابس وجزعه على النهرين الذيّن يشقان المدينة، التي كانت مفتوحة عبر ثلاثة أبواب، يسوّرها حاجز حجري، محل شكّ العموم أن يحميها من الغزاة المتوقعين، وهناك الاسكافي رسول الكوفي، الذي أقربهم إليّ وأكثرهم سرية، ربطتني به علاقة وثيقة، لا أذكر باعثها، لكن رغبته الشديدة بمعرفة أشعاري وأخباري، حملتني بوقتٍ ما على الشكّ به، يستدرجني لينقل أخباري لحامية رئيس أمانة بغداد المسئول عن رصد وتصّيد الأخبار بحثاً عن المعارضين للخليفة أو المتهمين بالزندقة والكفر. لكني بعد سنة من رفقتي له أدركتُ أنه يخفي سره عن الجميع وهو يعتقد، أن الله حتى لا يعرف سره. كان الثلاثة هم محيطي الدائم، قلةٌ غيرهم أحاطوا بيّ ولكن لم يبلغوا في صلتهم بيّ حافة الصداقة، غير هؤلاء الحكماء!
كان الكرخي وأحداً من أبرز الخطاطين الذين برعوا بالخط العربي بتباين أنماطه، وكان أغلب سكان بغداد من تجارٍ وحاشية، وزراء وعامةً، زبائناً لدى الكرخي، يجلبون عِباراتهم وجُملهم المختارة، ليقوم بنقشها فناً راقياً، بعضها آيات قرآنية، وبعضها أدعية دينية، وأخرى حكم وأمثال، وقليلة هي الأشعار، وحين ضرب الكساد المدينة، واعترى الخلافة الوهن، وتفشَّت الشعوّذة وازْدهرَت أعمال السحر، وتدهْور الأدب والفن والفلسفة، لجآ الكرخي لتسطير الرسائل للعامة مقابل قروش زهيدة، بعدما كان يتلقى دنانير الخليفة والتجار والأعيان، وقد نَمَتْ مهنته بكتابة الرسائل، وكان سعيداً بها، لسببين، أضحت مصدراً لعيشه، ومنها تسلية وترويح عن النفس بمطالعة أفكار وأسرار وأخبار زبائنه الذين قصدوهُ لتدوين مطالبهم أو توصيل أخبارهم، ونسخ مستنداتهم، فلم يتوان حين أجالسه عن اطلاعي على بعض تلك الأسرار والتي منها مكاتيب الغرام واستجداء استلاف المال، وفي مسائل الطلاق وفي التماس الزواج، وحتى بخفايا التآمر والتخابر عبر الخطابات السرية التي نسي أصحابها أنهُ أطلع عليها وهو يدونها!
توثقت علاقتي بأبي قيس الخطاط وكاتب الرسائل، فأوْعّزتُ لهُ بحكمِ صداقتي أن يَخْطّ بعض قصائدي الأولى التي ابتدعتها وأنا بسنِ الثانية عشرة بَمعّرة النعمان قبل المجيء إلى بغداد لدراسة اللغة وفهم الفلسفة، خَطّ بعضاً من شعري، وليتني أُبصر ما لونه من جمالٍ وأناقة، لكنهُ وَصْفه إليّ وهو يخطّ ما ألَفتُ من حروفٍ وكلّماتٍ بأبياتٍ شعرية، أوحي إليّ بأنه يصف جمال نساء متألقات متأنقات، فكنتُ أُقهقه وألْكزهُ بكتفهِ قائلاً بسخرية: هل تغازل قصائدي؟ كان ذلك الزمن خفيف الوطأة عَليّ قبل أن تتوالى الخطوب، فأفقد والدي ويفيق زوار الليل لمطاردة الكتاب والفلاسفة والشعراء بحجّج الزندقة والتآمر على أمير المؤمنين، فبدأت بغداد تؤول إلى كهفٍ دامج، فَفَرّ الكثيرون منها، وازدهر الفساد وأُعْطِبَت العقول، وراجت الدعارة، فأضحت علنية ومبررة وفُتِحت قصور السلاطين للمومسات بعدما كانت مجالس للأدب واللغات. لم أقدر على تجشّم وطأة هذا التغيير، حبستُ دموعي على عالمٍ ينهار أمامي، كيف تصبح بغداد وكراً للطيور الجارحة؟ وتحكمها الساقطات، ويتحكم بها الساقطون الراكضون وراء الغلمان، عندما تزدهر الدعارة بأمةٍ تسقط حضارتها، كنت أسمع ما جرى وأفقد عقلي، وحمدت العمى الذي أنا به حتى لا أرى ساقطات يحكمنّ الملوك، ويَطحّن بالحضارات، هل تلومني على كره النساء؟ لا تسيئ فهمي، لقد هجرتُ مسقط رأسي بإدلب وجئت بغداد للعلم والمعرفة، وإذا بي بغتة أجد الدجى يسود البلاد التي كانت مهداً لحضارة سادت، ثم بادت.
لم أكن فقيراً بالمال، وإلا لكنتُ عشتُ تحت وقع ذل العوز الذي اجتاح المدينة وانتزع آدمية البشر، لقد كانت عائلتي ثرية، فوالدي وجدي، وسلالة أجدادي، كانوا من كبار قضاة الشام والمَعّرة، فوالدي قاضٍ وجدي قاضٍ أيضًا، وأفراد أسرتي توارثوا مناصب العلم والمعرفة، بينهم الشعراء والمدونين، عشت بكنف ثراء محتَشم، ولم يمنعني ذلك من الألم لما آل إليه حال الناس، فكتبت قصائدي التي عرّت وفضحت بضراوةٍ فساد الأمراء، وقد أَغْضَبَت السلاطين، الذين توعدوني بشتى الحيل، بين تملقي بالمال وتهديدي بالقصاص، وإبعادي عن بغداد التي لم أعد ذاتي تميل للعيش فيها، إذ بدأت أتطلع للعودة لدياري المَعّرة ولكن عَزَّ عليّ هجر أولئك الذين عاشرتهم، من كتاب وشعراء وعمال وخطاطين واسكافيين. كنت أراقب الحياة التي تضخمت ضراوة، وبلغ الأمر الاغتيال والموت الغامض والاختطاف والاختفاء ولهذا حكاية طويلة، سأخلد للراحة ثم سأرويها لو كُتِبَ لي ألا يغتالني أولئك الذين تفشوا بين القوم يرتدون الأقنعة ويجزون رؤوس كلّ من تصدر عليه لعنة من السلطان أو من بطانته.
عندما يشيع الموت بالاغتيال والاختطاف بسبب فكرة أو رأي أو قصيدة، تكون حياتك بخطر حتى لو كنت لا ترهب الهلاك، لقد رَأيتُ في المنام، ما سمعت باليقظة، رجلٌ اختفت ملامحه من النخر، وفاحت رائحته من العفن، لم تبق غير أسنانه وجمجمته تشهد على أن حياته ثُبرت بسبب بيت من الشعر، وأبصرتُ بالحلم رأس رجل طار في الهواء لأنه قال أنا هو وهو أنا، وكلّانا مخلوقان، وليت شعري، هذا ما أنا اعتقدتُ به ولم أنطق به بعدُ. تَعَمّدتُ السير في شوارع المدينة استمع لنواح الثكالى، وبكاء الأبناء على الآباء، وانتحاب الآباء على الأجداد، كانت تفوح من شرفات بيوت المقتولين روائح الشجن والنكد، وتختلط بنباح الكلاب التي راجت كالذباب وملأت أزقة المدينة وأحيائها، هي والقطط الهزيلة التي بالآخر باتت طعماً للكلّاب الضالة، هذه المدينة لم أعد أعرفها ولا تعرفني، فقدنا حبل الوصل وكلّ ما كنت أتمسك به هو علاقتي بالإسكافي والخياط وكاتب الرسائل، وبعض الشعراء والكتاب ممن تواجدوا على السطح وقد أخفوا وجوههم وغيّروا ملامحهم وارتدوا أزياءً غير أزيائهم، صمتوا ولم ينبسوا بأشعارهم وأفكارهم، إلا من أمتدح الله والخليفة، فأنت بهذه المدينة الناعسة التي تنام على صوت النواح والعويل ورائحة الدم، لا يوجد أمامك للاحتفاظ برأسك فوق جسدك، سوى ارتياد المساجد وإطراء أمراء المؤمنين، والابتهال علناً وبصوتٍ عال إلى الله الذي لا إله إلا هو، هذا هو الطريق للنجاة في أرض بغداد.
قبل أن أحسم قراري بالنكوث إلى المَعّرة مسقط رأسي خرجتُ بمساءٍ شجن وقبل غروب الشمس بشهر ذي الحجّة، برفقةِ رسول الكوفي، ذلك الاسكافي الغامض، الذي عهدته بمصطبته بالقرب من زاوية أبو قيس الكرخي، كاتب الرسائل، بجولةٍ معهُ صحبني خلالها ليروي لي بعضًا من معالم المدينة ويشرح لي ما يراه من ملامح سكانها، خرجنا بهدوء، نرتدي ملابس الشتاء الثقيلة، وضحكتُ من أعماقي حين علمت منه ونحن نتحدث لبعضنا أن الاسكافي يسير معيّ حافياً ولا يرتدي نعلاً أو حذاء، لم أفهم فلسفته من ذلك، وبعد إلحاحٍ منيّ وبينما كنا نمشي وننصت لأصوات باعة العصائر مختلطة بأصوات باعة التمور وأصوات باعة متجولين، ينادون جميعهم على سلعهم، مال عَليّ، وهمس: حتى لا أثير جلبة، انحرف بيّ جانباً، وقف بقرب ناصية خلت من أصوات الباعة ولكن عمّها نباح الكلّاب، قبض بيدي وتلا عَلىّ هذه الأبيات "رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىَ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ؟" ثم سار بيّ وأنا بين ذهول وعجب، هذا الاسكافي يخفي وراءه سر المدينة التي لا تنام بالليل، لكنها تغفو بالنهار، مثل الكلّاب الضالة، ظلّ يقودني من يدي بأزقة ضيقة وزرائب، تفوح من ثغورها روائح الأجساد العارية، الجائعة، وفطن إلى شعوري بالمتاهة فراح يصور لي ما يراه، أو ما يريد لي أن أراه، ويخفي عني ما لا يريد لي أن أعرف، أدركتُ ذلك بوحيٍ من أصوات المآذن التي ارتفعت بالأذان وصاحبتها أصوات نباح الكلّاب الفجة، ثم انعطفنا لفجوةٍ بين طرق ضيقة حتى تكاد تحشر فيها الأجساد، وقتها تناهى إلىّ صياح المومسات وهن يَئِنَّ بالألم والشهوات، حتى بدا من إحداهن وكأنها توشك على الولادة، ورافقها صياح رجلٍ حولها وهو يَئنُّ بدوره وكأنه هو الآخر بمخاضٍ، ولكنه عويل الهوى قبل أن يُطفأَ ناره، ويحيّ أين يأخذني هذا الاسكافي الفظيع؟
- سنمضي إلى حيثما لا تبصرنا عيون الحرس ولا يفشينا حتى الله.
- ويحك رسول الكوفي...
ذهلتُ بين تعدد المآذن بهذه الكثرة التي أمست تصدح بآذان المغرب أو العشاء، وبين هدير العاهرات يتأوَّهن بالرغبات، تليها أصوات نباح الكلّاب، لو أني أعرف السبيل وأبصر الهروب، لأفلتّ يدي وفرّرت من المكان، وحين أدْرك الاسكافي انفعالي هذا، وكان ما زال قابضاً على يدي ويجرني بعجلةٍ حتى أوْشَكتُ على إثرها أن أتعثر بفجوات الطريق الذي كان يغص بالحجّارة والطين ومياه الأمطار، انقطعت أصوات المارة فجأة ونحن نلج بزقاق أضيق من سابقه، فاحت منه رائحة بخور قديم فج، أشبه برائحة الكافور الذي يُطيب به جسد الموتى قبل أن يُدفنوا.
- مهلك رسول الكرخي...
- لا تسرع حين البطء ولا تبطئ أوان العجلة.
- هل أنت حكيم أيها الاسكافي؟
- ستبصر بعينيك ما لم تتخيله بمواخير بغداد الخلفية.
قَهْقهتُ حتى كدتُ أتعثر، لقد عمد الاسكافي رسول الكوفي، على مراوغتي حتى بلغ به التهكم أن دعاني لرؤية المعجزة بعينيّ المعطوبتين.
- سامحك الإله يا إسكافي...
- نحن متجهان حيثما لا وجود لإله...
شممتُ رائحةً غريبة في كلّامه، كان يرتجل الكلّام بمنطق الدهاء، ويسكب الكلّمات من لسانه بفوضى مرتبة، قلت وأنا أعمدُ لامتحانه:
- لقد تخلى الله عن بغداد منذ زمن...
رد بحسمٍ وثقة، قالباً نص العبارة عن عمدٍ.
- بل المدينة تخلّت عن الله...
طاوعته مراوغاً بداعي الفضول، وسألت فيما طرقت أنفي رائحة الأجساد العارية من جديد، وطفقت قدميّ تتعثران بين الوحل الذي بتُ على أثرهِ أحْسَّ الشعور بالوحدة.
- جئنا للبحث عن الله في هذا المكان الفاسد؟
- الله بكلّ مكان موجود، وغير موجود أبي العلاء...
حين اجتاحتني نوبة سعال حاد، بدأ عليه القلق وطرق يهمس في أذني بنبرةٍ باهتة.
- اخفض صوتك!
- هل تخشى الله؟
ظلّ يقودني بعجلةٍ وهمة، بدهاليز العتمة، في بقعةٍ تحتشد فيها المساجد والمواخير وزرائب الكلّاب، وتجهر بأنين العاهرات، هذه أبواب بغداد الخلفية.
- سنلتقي يا أبا العلاء بمن يتداولون شعرك وينسجون أشعارهم السرية، اصبر ولا تتعجل، فخلف هذه المدينة النائمة في عناق الخوف، تختبئ مدينة تتوهج بالانعتاق، سِرّ معي بضع خطواتٍ وثق بيّ.
- لست خائفاً يا إسكافي، رسول، بل أتوق لإدراك تحركاتي، فأنا لا أبصر نور الشمس، ولكن أشعر فيه، ولن أُضيفّ إلى عمايّ سوء الفهم.
لكزني بكاع يده اليسرى، وقهقه بصوتٍ متهدج، وقال بنبرةٍ تنمُ عن نيةٍ صافية.
- بلغنا المغارة الزرقاء!
أحسستُ برطوبة المكان، وبنكهة الزرائب المخفية وراء الأسوار، شمّمت رائحة جدران المنازل ورحت أتحسس بيديّ تلك الحيطان فيما كنا نقترب من المكان، بدت البيوت مبنية من قطع الحجّارة اللينة المعجونة من الطين البري، وبعضها برز فيها مزيجٌ من الأخشاب والحجّارة وقطع حادة لم أُميز جوهرها، الأرض لزجة، ونباح الكلّاب يلعلع ويختفي، وعواء جِرائُها يتسلل من زاوية بيت قريب من خطواتي، أدركتُ صورة المكان من الأصوات التي تعج منه، وزاد من درايتي، انبلاج هتاف امرأة من نافذة متاخمة لأذنيّ وهي تنادي بصوتٍ مرتبك ينم عن ضيق ويأسٍ.
- رسول، تأخر لا تلج الآن...
جرني رسول بشدة وعجلة من الطريق وانحرف بيّ بسرعةٍ وكأنه هاب من أمرٍ جلل، أيقنتُ بحدسي منذ البدء بأننا في مكانٍ مشبوه ومحظور، وصوت المرأة المريب الذي كان يشي بوجل وحذر، أثبت وجلي الذي كنت عليه منذ خطونا بأزقة ودهاليز، مدينة متوجسة أكثر مني، خائفة ومرتجفة حتى من هوائها المشبّع بالجزع، ووحلها الذي ترسّب فيه بالأقدام، هذه الأصوات الآتية من جهات محمومة تفضي لإدراكٍ أنها مدينة مريبة. طرقها، نوافذها، عويل نسائها ونباح كلّابها، صوت الأقدام التي تمر حولك ولا تسمع أصوتاً تخرج منها، كأن الجميع اتفقوا على الصمت، إلا أنين المومسات، لا يبدو أنهن متمكنات بكبته من وراء حيطان المنازل التي لا أراها ولكن أحزر بأنها أقرب للحظائر منها لمنازل البشر، كانت رائحة البول تفوح بكلَّ مكان، ويزكو أنفي صنان أجساد آسنة، لقد ولدتُ ونشأتُ بمَعّرة النعمان، ولم أمرَّ بمثلِ هذا الرسم الآجن الذي عليه هذا المكان الآن.
- أظنك يا رسول ظلّلت السبيل إلى المغارة الزرقاء؟
- لا تهزأ مني أبي العلاء، لو تنبأت بما ينتظرك لما استهزأت بيّ، نحن ببوابات بغداد الخلفية، وما يجري هنا في الظهر هو الأصالة، أما هناك في ضوء الشمس، فيكمن البهتان، كنا على وشك الولوج للمغارة ولكن ثمة شخصية هامة توشك أن تبرح المكان، فانعطفنا وسنؤوب ثانية، فما المبرر للسخرية؟ هذا هو الحال في بغداد، حتى أمير المؤمنين يتخفى ويأتي هنا متنكراً، هي بغداد، بين الجد والهزل...
- كم أعْشَقُكِ بغداد، بوجهيّك البديعيّن، بغداد العلم والمعرفة والنور، وبغداد هذه التي غاصت فيها أقدامنا بالوحل، وسمعنا بها أنين المومسات وأذان المساجد، هذا يقيم الصلاة، وذاك يجامع العاهرات، عندما فرّرتُ من المَعّرة بعد أن ضاق بيّ الحال، وحُصرتُ بين المتزمتين والمتنمرين، ظنّنتُ أني بأرض العراق ستبلعني الغربة، وسأجترع الوحدة، ولكني وجدتُ من الصحبةِ والمعرفة ما عوّضني هجرة الديار، أنا بحجٍ في بغداد، رأيت خلالهُ ما لم تَنْعتهُ الصحف والمنقولات، وما زلتُ ألمحُ من العجائب ما يعزيني عن فقد الديار، ويواسني نوى الأب، ونأي الأم.
- لم ترَ بعدُ ما يغنيك عن نزوح المَعّرة.
- متى نعود للمغارة الزرقاء؟
سألت الاسكافي فيما هو يجرجرني معه، وقد انقشع خوفي وحلَّ موضعه فضولٌ مباغت، فقد صعقني فجأة، حنين دَهَشتُ منه، لسماع نباح الكلّاب، وتأوه المومسات، وزفير وشهيق الرجال، أعرف أن بغداد ديار العلم والنور والفلسفة، فيها دور الكتب والعلوم، وبها مواخير الفسق وحانات الخمر، أيقنت أن هذه المدينة، بنتها الشياطين والملائكة، وما فتأتُ أتوقُ لاستيعاب المزيد من أسرارها.
اقتادني رسول الكوفي عدة دروات حول المكان، ثم استقر بيّ عند باب المغارة الزرقاء، وعن اسمها ولماذا؟ فهذا ما لم أجدهُ بعد، فقد انشغلت بصوت صرير الباب، الذي يشبهُ صرير الجندب، يُفْتَح وكأنه بوابة قلعة عباسية، وداهمني هتاف رجل مُهيب، بادرني بحفاوة وابتهاج منذ أن ارتقيتُ عتبة الدار وما فتأت يد الاسكافي رسول تقبض عَليّ تقودني، سبقتني جملة الرجل بنبرتهِ الودودة قبل أن ألِمَّ بالجواب الشافي... المغارة الزرقاء!
- أبو العلاء المعّري...؟!