وأخيراً.. ارتدّ رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانية، جاستين ويلبي، وغرّد في 29 شباط 2024 عبر منصة X من قصر لامبث في مقاطعة كانتربري، معتذرا للقس الدكتور منذر اسحق، كاهن رعية الكنيسة الانجيلية اللوثرية في كل من بيت لحم وبيت ساحور، لرفضه لقاء الأخير في المملكة المتحدة في أواخر شباط/ فبراير الماضي. وعبّر ويلبي في تغريدته التي لاقت أكثر من مليوني مشاهدة، إنه يشعر “بالأسف الشديد لما سببه قراره من أذى وغضب وارتباك”، كمن يتلو قانون الإيمان، ضارباً قبضة يده على صدره، معترفاً بخطيئته العظيمة جدا، ومعنوناً ذاته بالمخطئ، كما أعرب عن تطلّعه للقاء أخيه في المسيح (القس اسحق) والصلاة معه في القريب العاجل. وبحكمة البومة؛ رحّب القس اسحق بصحوة الضمير الانجليكاني، مستقبلاً التغريدة بحفاوة كبيرة.
وكان ويلبي قد صرّح في ذيل شهر شباط الماضي عبر صحيفة الجارديان البريطانية أنه لن يلتقي القس الدكتور اسحق، شارطاً جملته، ومتدخلاً في حرية القس الشخصية، إذا ما تشارك القس اسحاق منصة واحدة مع الرئيس السابق لحزب العمال البريطاني جيرمي كوربين، المناصر للقضية الفلسطينية، ضمن نشاط مناصر لغزة، كان قد دعاهما إليه السفير الفلسطيني في المملكة المتحدة د. حسام زملط، حيث قَدّرَ (ويلبي) أن لقاءهما (إسحق وكوربين) قد يتسبب بمشاكل للجالية اليهودية في المملكة المتحدة، تحت ذريعة تأجيج معاداة السامية!
وتأتي رِدّة ويلبي بعد الضجة التي أحدثها مناصرو القضية الفلسطينية من البريطانيين، حيث لاموا ويلبي على قلّة حكمته وحيلته المنساقة للسردية الصهيونية المسيحية، وخطاباته غيرالمكترثة باستمرار الاحتلال أكثر من 75 عاماً، وعدم تأثره بما حلّ من قتل ودمار في غزة، علماً أنها ليست المرة الأولى التي يواجَهُ فيها ويلبي بهذه التعليقات. فيما ردّ القس اسحق حول إلغاء ويلبي لقاءهما بأن “كنيسة انكلترا تفتقر إلى الشجاعة”، وأكمل أنه من المؤلم أن تعرب الكنيسة عن كلمات القلق والتعاطف، دون فعل شيء، بل غض البصر عما يحصل من جرائم حرب مباشرة على التلفاز، مكرراً أن مطلب وقف إطلاق النار “التزام أخلاقي”. وذهب اسحق في توضيحه أن تصريحات الكنيسة تبدو وكأنها مستعدة للتضحية بالوجود المسيحي في فلسطين، من أجل تجنب الجدل وعدم انتقاد “اسرائيل”. علاوة على ذلك، وضمن الانتقادات الكثيرة الموجهة لويلبي، كانت الكنيسة الأسقفية الإنجليكانية في الأردن وعدد من الفلسطينيين والأردنيين من الطائفة المسيحية قد أرسلوا لويلبي رسالة شديدة اللهجة، كاتبوه فيها معبّرين عن سخطهم وغضبهم من تصريحاته المنحازة للرواية الصهيونية، وعدم طرح الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني في العيش بحرية وكرامة وحقه في تقرير المصير.
عاد ويلبي، الخميس المنصرم 7 آذار/مارس 2024، وغرّد بسردية مختلفة عن التي كان يتفوه بها سابقا (كما وثبّت التغريدة أعلى حسابه)، مصرحاً أنه تحدث إلى القس اسحق، ومعبّراً عن “الرعب الشديد إزاء القصف الاسرائيلي والحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة”، مديناً قتل المدنيين الفلسطينيين، وتدمير المنازل والأحياء، ودفع الناس إلى حافة المجاعة، موضحا أن ليس هناك أي مبرر أخلاقي لذلك، داعياً بدوره إلى وقف فوري لإطلاق النار، وإلى وصول المساعدات إلى جميع من هم في أمس الحاجة إليها، وإلى إطلاق سراح جميع الرهائن.”
ربّما هضم رئيس أساقفة كانتربري أخيراً كلام اسحق أن غزة هي البوصلة الأخلاقية للعالم الآن، وأن ما يحدث هو إبادة جماعية بحق الفلسطينيي، وأنْ نَتَفَوَّهَ بسردية مغايرة عن ذلك، يعني أن تصبح مصداقية الانجيل على المحك، وأنْ ننكر بذلك بِشارتنا المبنيّة على الحقّ، كشهود للمسيح على الأرض، عملاً بالآية: “وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».” (يو 8: 32).
شكراً ويلبي على إعادة النظر فيما يحدث حقاً في غزة. لكن.. هل كان يلزم سقوط أكثر من 30.000 شهيد من المدنيين، وقتل أكثر من 12.000 طفل فلسطيني لترتدّ؟! هذه ردّة باهظة حقاً. بالرغم من ثمنها وآلامها، بات الصراخ بوقف إطلاق النار حاجة أكثر إلحاحاً الآن لإنقاذ ما تبقى من حيوات البشر، فأن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي على الإطلاق. أن تأتي متأخراً.. يعني أن تقول كفى لآلة القتل والدمار الإسرائيلية وشركائها، أن تقول (لا) قاطعة بوجه من أزهقوا أرواح أكثر من 4.5% من سكان قطاع غزة، من بينهم 3% من الطائفة المسيحية.
يتوجب البناء على اللاءات لمواجهة حرب الإبادة، رغم تأخرها، اقتياداً بآية الإنجيل المقدس: “ليكن كلامكم: نعم نعم لا لا” (مت 5: 37)، لنكون شهوداً بالحقيقة التي تحررنا. نتوقع من جاستين ويلبي الآن إعلاء الصوت أكثر، بصفته رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانية، وبحكم إدارته للأملاك الأنجليكانية، ومن بينها المستشفى المعمداني (الأهلي) المقصوف، وقيامه -رمزياً- بمسح رأس ملك بريطانيا وزوجته بالزيت المقدس المُصلّى عليه من قبر المسيح، والذي جُلِبَ خصيصا لمراسم تتويجهما من معقل المسيحية (كنيسة القيامة)؛ نتوقع قيامه الصريح بالآتي:
أولا: الاعتراف بمسؤولية بريطانية الأخلاقية والقانونية عن تسليم فلسطين -دون إذن سكانها الأصليين- لكي تكون وطناً قوميا لليهود من خلال وعد بلفور المشين، وتاريخها الأسود كسلطة انتداب.
وهنا ينبع دور الكنيسة بضرورة ممارسة المزيد من الضغوطات على الحكومة البريطانية، وضمان استجابتها كأقل تقدير معنوي يُذكَر لقاء فترة الإنتداب وجزء صغير من التكفير عن وقاحة وعد بلفور، محاوِلةً المساهمةَ بتعويض زهيد للويلات التي اقترفوها بحق الشعب الفلسطيني، والعمل الجادّ والهادف إلى الوقف الفوري لإطلاق النار وإنهاء العدوان على قطاع غزة، والمطالبة بوجود ممر إنساني لنقل المساعدات الإنسانية والإغاثية، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في الحياة والحرية وتقرير المصير.
ثانيا: تحميل حكومة بريطانية وزر الوضع القائم، بصفتها شريك “إسرائيل” في إبادة الشعب الفلسطيني، وتوصيف ما حصل بالضبط بمستشفى المعمداني، ومتوالية القصف الذي استهدفته الترسانة الاسرائيلية عدة مرات. المطلوب الآن من ويلبي أن يمضي قدما ويتحلى بالشجاعة لقوله بعض الحقائق: أن المستشفى المعمداني قد تلقى قذيفتين تحذيريتين قبل قصفه في 17 من أكتوبر 2023، وأنه كان على الدوام يتلقى إشعارات بالإخلاء في خضم العدوان الاسرائيلي الذي ما زال الاحتلال يشنه على قطاع غزة. كما عليه وبصراحة علنية شجب الدعم البريطاني العسكري المباشر لاسرائيل، حيث أرسلت بريطانيا منذ السابع من أكتوبر سفينتي إسناد RFA ARGUS وRFA LYME BAY التابعتين للبحرية الملكية لشرق المتوسط، واللتين تضمان سرية من مشاة البحرية الملكية وثلاث طائرات هيليكوبتر Merlin، وطائرة تجسس نوع P8 للمراقبة الجوية والمساهمة في رصد أي عمليات تهريب أسلحة، طمأنةً لـ”اسرائيل”.
يتوجب على ويلبي المطالبة الصريحة بعدم رفد “اسرائيل” بالأسلحة، سواء عن طريق عطاءات الأسلحة المفتوحة أو الهِبات التي تمنحها الحكومة البريطانية عربون صداقة مَصْلَحِية تعبيراً منها عن وقوفها بجانب اسرائيل، حيث تستخدم الأخيرة العتاد في مذابحها المتواصلة والتطهير العرقي الذي تنتهجه لإبادة الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، وبالأخص في قطاع غزة. علاوة على ذلك، لا تفصح بريطانيا على الإطلاق بما يتم إرساله إعمالاً لمبادئ الشفافية التي تصرعنا فيها. بحسب حملة مناهضة تجارة الأسلحة (CAAT)، وما بين الأعوام 2018-2022، فإن المملكة المتحدة صدرت بقيمة 146 مليون جنيه إسترليني (167 مليون يورو) أسلحة لجيش الاحتلال، حيث كانت أكبر عملية بيع خلال تلك الفترة مخصصة للتدريب العسكري ومعدات الاستهداف الجوي. ويشار حسب تقرير الحملة إياه، أن الطائرات الحربية الإسرائيلية من طراز “إف-35” والتي تُستخدم في قصف المنطقة المكتظة بالسكان- ويقصد بها غزة- تحتوي على أجزاء مكوّنة من مجموعة من الموردين في المملكة المتحدة. وفي سياق آخر، يروّج الاحتلال معداته العسكرية الاسرائيلية الصنع، طارحاً إياها للتصدير العام، ومسوّقاً بأنها “مختبرة في المعركة“، في كناية أنها مجربة على الفلسطينيين، ما يضعنا شعباً كفئران تجارب أمام فداحة الاستعمار الامبريالي، الذي يستثمر آلامنا ومعاناتنا ليدرّ عليه ربحاً كثيراً. وعليه، نتطلع من ويلبي أن يقول كلمة أخلاقية بشأن هذا النوع من العلاقات والتجارة.
وبالإشارة إلى البيّنات أعلاه، تكون بريطانيا شريكاً رئيسياً لاسرائيل في الإبادة المرتكبة حاليا بحق الشعب الفلسطيني، ما يجعلها مسؤولة بالقدر ذاته الذي يتفنن به الاحتلال علينا من ارتكاب مجازر لا تحصى، ما يجعلنا نصل إلى خلاصة مفادها، وكأن بريطانيا، أو حتى بدون أداة التشبيه، حيث أن بريطانيا، وعبر معداتها الكهروضوئية قد رسمت الهدف في باحة المستشفى، وأضاءت بماضيها المُصَنّع كبد السماء، وقصفت بصواريخها الدقيقة مستشفاها المعمداني وكنيستها الإنجيلية في غزة، ما تسبب بالمذبحة، وتناثرت على إثره جثث الأطفال مرمية في الباحات الخارجية.
ثالثا: أن تكون الكنيسة فاعلة ومستجيبة، معبرة عن التزامها الأخلاقي بوقف الحرب وإراقة الدماء استنادا لالتزامها اللاهوتي بما جاء في الانجيل وعملاً بقول السيد المسيح: “طوبى لفاعلي السلام.. فإنهم أبناء الله يدعون”. ويصار على دعوة السلام، وضع حدّ لاختطاف الكنيسة من قبل الصهيونية المسيحية وسرديتها الاستعمارية، وخاصة ما يصدره مجمع المطارنة (House of Bishops) من مواقف منحازة جهارة للاحتلال، حيث أكّد في جميع بياناته وقوفه بالمطلق مع “اسرائيل” وحقها في الدفاع عن نفسها، كما أنه ولغاية منتصف شباط/ فبراير الماضي، لم يدعُ إلى وقف قطعي وكامل لإطلاق النار، واكتفى بالإشادة بالهدنة التي حصلت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، وكأنه لم يكترث باستشهاد 18 فلسطيني من الطائفة المسيحية عندما قصف الاحتلال كنيسة القديس بيرفيريوس للروم الأرثوذكس، وغيرها من المؤسسات التابعة للكنيسة، بل أكد على موقفه بأنه ” لا يوجد تكافؤ بين الفظائع التي ترتكبها حماس ضد المدنيين الإسرائيليين، وحق إسرائيل وواجبها في الدفاع عن نفسها.” وعليه، نطالب ويلبي ألا يُبقِيَ اعتذاره رهن منصة افتراضية، بل يترجمها لأفعال، تُحدِثُ تغييراً جذرياً لمواقف مجمع المطارنة، وبذل الجهد نحو الانفتاح أكثر على الكنيسة المشرقية، التي انبثق منها نور المسيحية للعالم، ما يضع التزاماً على ويلبي بأن يكون أكثر إنصاتاً للمسيحيين المشرقيين الأصلانيين، سلالة المسيحيين الأوائل، تلاميذ المسيح ومن لازموه وهو يبشر، ويعلّم في أرض فلسطين، من مكثوا معه على جبل التطويبات، وشهدوا معجزاته، وصلّوا معه العشاء الأخير، وأحاطوا به باكين ومدافعين عنه في بستان الزيتون قبيل الصلب.
رابعا: وقف الفرملة الدبلوماسية؛ فلا توفّرُ بريطانيا فرصة إلا وتستخدم بها حق النقض (الفيتو) للحؤول دون تقدم فلسطين بطلب تحقيق من قبل المحكمة الجنائية الدولية في الفظائع التي ارتكبتها ترتكبها “إسرائيل” في الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية. وبهذا تكون بريطانيا قد شاركت ليس فقط في إطالة عمر الاحتلال، وإنما نكث وعودها للسلطة الفلسطينية، و إعطائها جرعات مورفين عنوانها (التهدئة) إزاء ما تلتزم به السلطة من حلّ الدولتين العقيم أصلا.
خامساً: الوفاء لقضية الأسرى الفلسطينيين، كما كان ويلبي وفيا للرهائن الإسرائيليين في جميع تصريحاته. فقبل السابع من أكتوبر، كان هناك ما يقارب 5500 أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، والذين يعتبرون بحكم اتفاقية جنيف الرابعة، وفي البند الخاص بالأسرى “أسرى حرب”، منهم الأطفال والطفلات، والنساء، والمرضى، ناهيك عن عدد كبير من الأسرى المعتقلين رهن الاعتقال الإداري (دون توجيه تهمة لهم أو تقديم لائحة اتهام بحقهم، تحت ذريعة أدلة سرية لا يستطيع المتهم أو حتى المحامي الاطلاع عليها)، ما يبيح للسجان مواصلة اختطاف الأسير عدة أشهر أو سنوات متتالية، وفق تجديد دوري للإداري، قد يصل أحياناً إلى سبع سنوات ونصف أو يتجاوزها في سابقة جديدة أنكى بكثير. لم يعرّج ويلبي في تصريحاته على قضية الأسرى الفلسطينيين، بمن فيهم أسرى من الطائفة المسيحية أيضا، حتى أنه لم يذكرهم، ولم يحاول من خلال كنيسته زيارتهم أو زيارة عائلاتهم في كل مرة قدم فيها إلى الأراضي المقدسة، عملاً بما دعا إليه الإنجيل المقدس: “كنت سجيناً فزرتموني“(مت 25: 36). بعد السابع من أكتوبر، زادت وحشية الاحتلال في الاعتقالات، حيث وصل عدد الأسرى إلى أكثر من 9100 أسير فلسطيني، قرابة نصفهم رهن الاعتقال الإداري. وعليه، نطالب ويلبي بضرورة ذكر الأسرى الفلسطينيين في قداديسه، والصلاة من أجلهم، والعمل على زيارتهم، والمطالبة بالإفراج عنهم، وإنهاء كابوسهم الذي طال سنوات عديدة.
نكرر مرة أخرى شكرنا لويلبي على انفتاحه ومراجعته ذاته واعتذاره العلنيّ، ومحاولة تصحيح خطئه، فهذا من شيم العقلاء. ونطالب، نحن- مسيحيو المشرق- الكنيسة بشتى طوائفها ممارسة دورها، ولجم الاستعمار، والتذكّر أن المسيح قد عاش أيضا تحت استعمار روماني، وكان بحياته وتعاليمه ثورياً مناهضاً للاستعمار، ما يتوجب علينا كمسيحيين أن نحذو حذوه، والكفّ عن التأرجح بمبادئ هلامية إرضاء لموازين القوى العالمية، بل التعبير بشجاعة عن جذرية إيماننا وتعاليمنا المتأصلة بالدين المسيحي.