ماذا لو انتصر عرابى؟
حركة عرابى أول ثورة وطنية يقوم بها جيش فى المنطقة
ثورة يوليو ما هى إلا صدى للثورة العرابية
أخفقت ثورة عرابى لغياب المناخ العالمى المؤيد لها
توافرت العوامل العالمية لإنجاح حركة الضباط الأحرار
الجيش رمانة الميزان قديما وحديثا
تمر هذه الأيام ذكرى احتلال بريطانيا لمصر والذى وقع فى 13 سبتمبر 1882.. أصبحت مع مرور الوقت حدثا تاريخيا هاما لا مأساويا كما كان عند بداية وقوعه.. والسبب أنه بعد أكثر من مائة وأربعين عاما على هذا الاستعمار البغيض، نرى ذكراه تتراجع إلى الهامش بعد أن تصدرت المسرح السياسى العربى مأساة فلسطين وما ترتب عليها حتى يومنا هذا من صراعات ومآس طالت معظم دول المنطقة طوال الخمسين عاما الماضية.
ولكن الحديث عن عرابى يأتى اليوم لأسباب كثيرة أولها الاحتفاء بجهاد هذا البطل الوطنى المجاهد الذى كان أول ثورى فى تاريخ مصر الحديث..والأهم من كل هذا وذاك القصور فى قراءة التاريخ لدرجة أنه فقط القليل منا من يعرف أن ثورة يوليو وما ترتب عليها من تغييرات لم تكن إلا صدى ــ أو على حد قول التاريخيين ــ كمالة للثورة العرابية التى إندلعت قبل ثورة يوليو بسبعين عاما...والسؤال الذى قلما يطرح نفسه: لماذا نجحت ثورة يوليو بكل سلاسة ومرونة بينما أخفقت ثورة أحمد عرابى؟ وما الذى كان أن يحدث لو انتصر عرابى وأسقط الخديوى توفيق ورفع شعار(مصر للمصريين) الذى كان أول قائد ينادى به؟
التشابه كان أكثر من واضح بين ثورة عرابى وثورة يوليو: تردى أحوال البلاد بسبب الحكم المطلق لملوك الأسرة العلوية، سيطرة الأتراك والشراكسة واستحواذهم على المناصب العليا دون المصريين فى الجيش، سيطرة الإقطاع على السواد الأعظم من الأراضى الزراعية وتحويل الزراعة المصرية لخدمة الاقتصاد العالمى بتهميش أغلب المحاصيل لصالح القطن وقصب السكر الذين يخدمان الاقتصاد الاستعمارى ثم الفقر المدقع لقطاع كبير من الفلاحين والعمال و أخيرا وليس أخرا الديون التى تراكمت على مصر من جراء حفر القناة واستدانة الخديوى إسماعيل لتمدين القاهرة وسيطرته على مساحات شاسعة من أراض الفلاحين بالعنف والقوة الجبرية...
أما التشابه الأكثر وضوحا كان فى أن الحركة قامت أيضا بمبادرة من ضباط الجيش، فقد كان عبد الناصر انبعاثا جديدا لشخص عرابى.. الملك فاروق كان كعمه توفيق حديث السن قليل الخبرة ضعيف الشخصية ولم يكن أمامه إلا أن يخضع لإرادة الأجانب من أصحاب النفوذ..فى يوليو 1952 حاصر الجيش قصر عابدين ليجبر الملك على التنحى ولم تقف بريطانيا بجانبه لميله للألمان والطليان...
لكن ما حدث فى 9 سبتمير 1881 كان مختلفا قليلا فقد تجمعت قوات كبيرة من الجيش بقيادة وزير الجهادية أحمد عرابى، تساندها جموع غفيرة من الناس فى ساحة قصر عابدين لترغم الخديوى على قبول مطالب الشعب.. خرج توفيق بصحبة مستشاريه الإنجليزى والفرنسى وقد أرهبته تلك الحشود العارمة.. ما جعله يستنجد فورا بالجيش البريطانى لحمايته، فإذا كان الجيش المكلف بالدفاع عن البلاد والحاكم هو الذى يثور ضده بغية خلعه وكان بوسعه أن يهاجم سراى عابدين على غرار مهاجمة الغوغاء الدموية للملكية إبان الثورة الفرنسية...
خشى الخديوى على نفسه من هذا المصير فسارع بطلب النجدة من الإنجليز.. وهادن الجموع بأن لبى مطالبهم من إقاله وزارة رياض باشا وزيادة عدد العسكر وتدشين حكم دستورى.. وربما صدق الخديوى فى وعوده لكن رأت بريطانيا فيها ما كان يقف ضد مصالحها. لكن لنا أن نتخيل ما كان ليحدث لو هاجمت تلك الجموع قصر عابدين وتحولت الوقفة إلى مذبحة قتل فيها الخديوى ومستشاريه وحاشيته؟ ماذا لو فعلها عرابى فقضى على الإقطاع وبنى جيشا حديثا وفرض حكما برلمانيا وأنصف فقراء المصريين قبل ناصر بسبعين عاما؟ هل كان بمقدوره أن يفعل كل ذلك وأن يصبح زعيما لمصر؟
الواقع أن وجود الدوافع والقوة ليسا بكافيين لو لم يتوافر المناخ العالمى لتأييدهما.. وكان هذا هو الفارق بين الثورتين: الأولى لم يؤازها المناخ العالمى بينما حدث عكس ذلك إبان الثانية.
كانت فكرة الجمهورية فى أواخر القرن التاسع عشر غائبة تماما عن المسرح
السياسى الشرقى.. ولو حقق عرابى انتصارا وأمسك بزمام الأمور لصار ملكا كما حدث لنابليون الذى ورث البلاد لأبنائه من بعده لأن مفهوم الملكية كان لا يزال سائدا وربما كان استتباب الخلافة الإسلامية هو الذى منع عرابى من الإقدام على أن يتخذ تلك الخطوة الدموية، فالخديوى نائب خليفة المسلمين فى الأرض.. ولكن رضوخ الخديوى وتولى وزارة شريف باشا محل وزارة رياض باشا كان أول ما ساعد فى هدوء الانتفاضة، غير أنها سرعان ما اندلعت ثانية بعد أن رُفضت بقية المطالب، فتولى محمود سامى البارودى الوزارة فى خطوة غير مسبوقة أفزعت الإنجليز والفرنسيين الذين رأوا فى تولى مصرى مقاليد مجلس الوزراء نوعا من المشاركة الفعلية للقوى الوطنية التى تهدد مصالحهم.. عندئذ لجأوا إلى القوة العسكرية للحفاظ على سلطة الخديوى.
يعنى ما حدث أنه ربما أخطأ عرابى فى جعل انتفاضته سلمية فتبدلت الأحوال بعدها بعدة شهور فأضحت دموية حينما هاجم الأسطول الإنجليزى الإسكندرية ودكها دكا بالمدافع وسط استماتة الجيش والأهالى فى الدفاع عنها فتحول الصدام إلى صراع دموى..فشل الإنجليز فى دخول مصر فتحركوا شرقا صوب القناة..ولى هنا عدة ملاحظات هامة.
أولا الجيش المصرى بعد 1840 وتفوق الأسطول البريطانى
قطعا كانت المعركة غيرمتكافئة فالجيش البريطانى فاق نظيره المصرى فى آلياته وتعداده، فمنذ بناه محمد على راح يستنفده فى طموحاته لبناء إمبراطورية فى الشرق فغدا أسطوله يهدد الباب العالى فى إسطنبول، ناهيك عن تكليفات السلطان العثمانى له بإخماد الحركة الوهابية فى الجزيرة العربية ومساندته لانتزاع شبة جزيرة القرم التى كانت تتنازع عليها تركيا و روسيا وهى سبب الحرب الدائرة حاليا بين أوكرانيا والإتحاد الفيدرالى الروسى..ثم الحروب التى خاضها فى أعالى النيل فى السودان وإثيوبيا و الحملة على المكسيك التى كلف بها نابليون الثالث الخديوى إسماعيل...هذا جزء من كُل كبير..
لكن كانت الكارثة فى تحطيم القوات المصرية فى نوارين عام 1827 باتحاد جيوش إنجلترا وفرنسا وروسيا التى وقفت أمام السلطان العثمانى عندما استنجد بمحمد على لإخماد ثورة اليونان ، فما كان من والى مصر إلا أن اشترط أن يخضع بعد ذلك لحكمه كل مكان يستولى عليه.. سيطر الباشا على الشرق بحكم سوريا وخوض معارك ضارية ضد الباب العالى حتى أوقفته القوات البريطانية والفرنسية عام 1840 وحجمت سلطانه على مصر والسودان...
كل تلك السيناريوهات أيقظت الوعى داخل أوروبا بأن مصر لا يجب أن تترك لحالها فخُططت سياسات ماكرة تمخضت عن الكارثة الأكبر باحتلال مصر عام 1882 بحجة تصفية الديون، حجة واهية توارى وراءها الهدف السياسى حتى أن (وليم جلادستون) رئيس وزراء بريطانيا حينئذ رفع القرآن الكريم بيده وسط البرلمان قائلا ما معناه أننا لن نترك مصر تبنى إمبراطورية طالما هى تؤمن بهذا الكتاب.
ثانيا غياب الدهاء السياسى لدى العسكر
ربما كانت حادثة عابدين وما تلاها أول تجربة سياسية لضباط الجيش فى العصر الحديث...القادة كانوا على درجة عالية من الكفاءة العسكرية ولكن بالتأكيد كان ينقصهم الدهاء السياسى لدرجة أنهم وثقوا فى كثير من الضباط والجنود ثقة عمياء دون تقصى أو تحرى..فكانت النتيجة أنهم خانوهم خيانة شنعاء..فمن يكون عرابى مقارنة بولى النعم صاحب الثروة والجاه! ماذا كانوا ليجنون لو وقفوا إلى جانب عرابى!ربما كان هذا منطقهم فخانوه فى التل الكبير كل مقابل عدة جنيهات ذهبية..ثم كانت الطامة الكبرى أن وثق عرابى فى ثعلب أفاق كديليسبس! كان من السذاجة و حسن النية أن يكتفى بكلمة شرف من مستعمر رأسمالى إنتهازى كهذا الفرنسى الذى ينتمى إلى معسكر الأعداء.. لقد صدق القائد أنه لن يسمح بمرور السفن الحربية الإنجليزية إلى الشرق بعد أن فكر عرابى فى إغراق سفينة بعرض القناة حتى يمنع مرور السفن..لكن من المفارقات أن حتى ديليسبس لم يسمح بعبور السفن الإنجليزية عبر القناة إلا مقابل رسوم باهظة! خطأ فادح من جانب عرابى.
ثالثا تعاون القوى الغاشمة من الاقطاعيين وأصحاب النفوذ
زد على كل هذا وذاك إتحاد قوى الإقطاع والخونة، والذين أمدوا الخائنين بالأموال اللازمة لإتمام مهمتهم وإرشاد الإنجليز إلى مخابىء الجيش المصرى..فالثورة العرابية كانت تهدد البرجوازية الإقطاعية وعلى رأسها سلطان باشا الذى لعب دورا فعالا فى حشد جموع الخونة.
ثورة 23 يوليو 1952
لو نظرنا إلى ما حدث فى يوليو عام 1952 ــ أى بعد ذلك بقرابة السبعين عاما من الحركة العرابيةــ نجد أن الأسباب الداخلية لقيام الثورة لم تتغير، بل ما تغير كان المجتمع المصرى ببزوغ القوى الوطنية التى تمخضت عن ثورة 1919 وعالميا وهو الأهم كان بزوغ القيم الإشتراكية الشمولية بقيام الثورة الروسية عام 1917 ثم سقوط الدولة العثمانية وقيام الجمهورية التركية بزعامة أتاتورك..قيام الملكيات الدستورية فى إلمانيا وإيطاليا قبيل الحرب العالمية الأولى وانحسار قوى الاستعمار بعد أن أنهكتها حربان عالميتان وإندلاع الثورات المطالبة بالاستقلال فى المستعمرات..
المناخ العالمى عامل مهم فى إنجاح أو إخفاق الثورات، فلو لم تتوافر تلك العوامل لم نجحت ثورة يوليو..كان عرابى سابقا لزمانه..أراد ان يتحدى الملكيات والإقطاع والحكم المطلق وأعداء القوى الوطنية فى زمن كان العالم كله يؤيد تلك المؤسسات ويقدسها..فحتى لو انتصر هل كان فى استطاعته أن يحدث تغييرات إشتراكية فى زمن لم تشرق فيه شمس الإشتراكية؟
كانت الحركة الاستعمارية فى أوجها.. تدفع بريطانيا وفرنسا بالالآف من شعبيهما إلى المستعمرات بحثا عن حياة أفضل بعد أن عانوا من العوزة والفقر المدقع فى بلادهم... النظام الدولى الملكى لم يكن يسمح ببزوغ جمهورية ملكية فى الشرق على غرار فرنسا ولم يرضىه ان تقف حركة التقدم باستقلال منبع الموارد فى العالم العربى والضرورى لحركة التصنيع فى الغرب..لم يكن هناك نموذج فى الشرق لتوزيع الأراضى وتحديد الملكيات و انتقال السلطة.. أما فى زمن يوليو فقد خفت نجم الاستعمار وراح يستعد للرحيل وقاوم الحركات الوطنية بدم بارد لأنه عرف أن زمانه قد ولى.
لو كان مقدرا لعرابى ان ينتصر عسكريا فهل كان لينتصر عمليا؟ ربما أصبح أول حاكم مصرى لمصر لكن ادخر الله الريادة لعبد الناصر فكانت أصعب تجربة فى تاريخ مصر الحديث: أى أن يحكمها مصرى بعد 2500 سنة...وأنا أتعجب من الذين يحكمون اليوم على تجربة ثورة يوليو بمعايير عصر الإنفتاح والعولمة ــ وكأن كل منهم قد نصب نفسه خبيرا اقتصاديا أراد أن يعدل على تجربة عبد الناصر بعد ثمانين عاما من وقوعها.
تعلم ناصر من تجربة عرابى: المال كان القوة المحركة للقصر والإقطاعيين والأجانب وذوى النفوذ من الأمراء والمحاسيب والتى أفشلت حركة عرابى، فجرد كل تلك الفئات من مقدراتها المالية حتى لا يستخدمونها فى إرجاع النظام القديم الذى عاشوا وترعرعوا فى ظله.. هم يحسبون أنها أضرت بالاقتصاد ولكنها كانت قرارات أتخذت لأغراض سياسية سليمة مستلهمة من النظم الإشتراكية فى شرق أوروبا والتى وقفت إلى جوارنا ضد الغرب المستعمر بعد الحرب العالمية الثانية.
لكن تبقى كلمة أخيرة أنه بعد أكثر من مائة وأربعين عاما على الحركتين الثوريتين يظل الجيش هو رمانة الميزان الذى يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح مهما تغيرت الظروف والأحوال..أول ثورة وطنيه قامت على يديه قبل أى جيش من جيوش العالم..أول ثورة تحولية فى يوليو قامت على يديه.. والآن لا غنى عن جيش مصر وسط الصراعات التى تحيط حاليا بالمنطقة والقوى الغاشمة التى تستهدفها..نحن به أقوياء ولا غنى عن القوة فى عصر هذا التخبط السياسى الذى نعيشه.