صوت مصر..أم كلثوم كتاب لفرجينيا دانيلسن

الذكري الذهبية لأم كلثوم

فى الذكرى الذهبية لرحيل أم كلثوم

لا تزال حية فى وجدان العرب رغم مرور خمسة عقود

فى ذكراها الخمسين أعرض كتاب (صوت مصر..أم كلثوم) للكاتبة الأمريكية الذى تتناول فيه بالتحليل والتمحيص سر عبقرية الصوت والشخصية التى ظلت تحتل مكانا فريدا بلا منازع طوال قرن من الزمان..

أحمد كفافى

تحل هذا الأسبوع الذكرى الخمسين لكوكب الشرق أم كلثوم وهى مناسبة خاصة هذا العام لأنها تعلم اليوبيل الذهبى لرحيل العبقرية الغنائية التى ملكت القلوب وحيرت العقول وأججت أفكار كبار الموسيقين الذين راحوا يتناولون مسيرتها ورصيدها الفنى بالكثير من التحليل والتمحيص..ولكن يبقى الواقع ظاهرا جليا، فبعد مرور خمسين عاما لاتزال أم كلثوم سيدة الغناء العربى ولا تزال أغانيها تتوسع وتوغل فى الانتشار حتى وهى فى قبرها بعد أن تركت أعمالا خالدة على كم هائل من التسجيلات الصوتية و المصورة...وما زلت أذكر رد إمراة ريفية بسيطة على سؤالى عندما كنت فى العاشرة عن سر هذ الاهتمام بأم كلثوم. أجابت أنهم وراءها فى كل مكان يسجلون ويؤرشفون لأنهم يعلمون تمام العلم أنها لن تتكرر. مضت ذكراها عقب السنوات التى تلت وفاتها مجلجلة قوية ثم خبت روايدا روايد ولكنها تظل حية بأغانيها المذاعة والمحملة على شبكة الإنترنت فسمعنا تسجيلات لم نكن قد سمعناها من قبل وبدأنا نتعمق أكثر فأكثر فى تاريخها وفنها ونكتشف ما لم نكن نعرفه.

يحضرنى فى هذا المناسبة أن أعرض كتاب المؤلفة الأمريكية "فرجنيا دانيلسن" (صوت مصر..أم كلثوم..الأغنية العربية فى القرن العشرين) وربما هو المرجع الوحيد الذى كُتب عن أم كلثوم باللغة الإنجليزية..وهو مرجع هام فى تلك المناسبة بوجه خاص، إذ تتناول فيه المؤلفة عبقرية أم كلثوم من وجه نظر أنثروبولوجية اجتماعية سياسية حيث تطرح سؤالها الأهم فى الفصل الأول من الكتاب: "ما الأسباب التى مكنت هذا الفرد من الحفاظ على تلك الشعبية على مدى هذه الفترة الطويلة وكيف تمكن من ذلك؟ لماذا كان لهذا الفرد، من بين كثير من الفنانين هذه الأهمية؟"

الكتاب ثمرة خمس سنوات من البحث والعمل الدؤوب فى تاريخ الموسيقى المصرية ومسيرة أم كلثوم. نشرته الجامعة الأمريكية عام 1997 تحت عنوان: 

Umm Kulthuum,The Voice of Egypt

ثم صدرت ترجمته التى قام بها الباحث عادل هلال عنانى عام 2002 عن المركز القومى للترجمة ثم عن مكتبة الأسرة عام 2005 ..وما دفع دانيلسن إلى تناول ظاهرة أم كلثوم هو هاجسها البحثى بما عُرف بنظرية الممارسة..أى الدور الذى يضطلع به الفرد الفذ فى الثقافة التعبيرية، وفى هذا المضمار تدين المؤلفة بالشكر لكتابات ريموند وليامز الذى نجحت مؤلفاته فى استخدام مفاهيم اجتماعية عامة فى تفسير أدوار عدد كبير من نجوم الأدب الإنجليزى..ثم نوه الكتاب إلى نفس التأثير الكاسح لعباقرة أمثال جان بول سارتر فى فرنسا وانطونى تشيكوف فى روسيا وسلفادور دالى فى إسبانيا وغيرهم..ويستمد الكتاب أهميته من أن كاتبته أمريكية لم تكن تعرف أى شىء عن الثقافة العربية ولا أم كلثوم..ما يجعل سطورها تمتاز بالحيادية التامة فى تحليل الظاهرة...

أهم مراجع كتبت عن أم كلثوم كانت ( أم كلثوم وعصر من الفن) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد والذى استفاد منه السيناريست محفوظ عبد الرحمن فى كتابة مسلسل أم كلثوم..ثم جاء (أم كلثوم معجزة الغناء العربى) للدكتورة رتيبة الحفنى و( موسوعة أم كلثوم) فى ثلاثة أجزاء للاخوين إلياس وفيكتور سحاب، لكن جميعها لكتاب عرب تأثروا بما قيل وكتب عن أم كلثوم..أما بالنسبة لدانيلسن فالوضع مختلف.

هى تتناول المراحل العديدة من حياة أم كلثوم كما نعرفها ولكنها تعقب على كل مرحلة بتحليلات اجتماعية وسياسية متعمقة، فهى مؤمنة أن العبقرية تتألف من مزيج من العوامل المتعددة..تسألت دانيلسن: "ما هى الظروف التى كانت تحيط بحياة مغنية محترفة؟ وكيف شقت طريقها..ومن أى وجه كانت مسيرتها الفنية مشابهة لمسيرة غيرها...وما موقع حفلاتها من الأنشطة الأوسع التى كانت تشكل الحياة الاجتماعية؟.. لم تنل التقدير بسبب صوتها فقط، إنما لاحترام الناس لها.."ثم تطرح التساؤل الأهم: "هل كان يمكن لخمسين عاما فى المجتمعات العربية والتى تبدو النساء فى أعين الغرباء مقهورات صامتات محجبات أن تعبر عنهن امراة واحدة من خلال حياتها وعملها؟

للمؤلفة ملاحظات وجيهة: الملاحظة الأولى التى لفتت نظرى هو سر انتشار أم كلثوم انتشارا واسعا فى عصر الإسطوانة الشمع التى لم تكن تسع أكثر من ست دقائق..طبعا هناك موهبتها الفذة التى أثقلتها بحفظ القرآن وترديد التواشيح الدينية وتلقى التدريب على أيدى كبار الملحنين أمثال الشيخ أبو العلا محمد والشيخ زكريا أحمد ولكن الكل كان يقبل على شراء اسطواناتها لأنهم كانوا يعرفونها مسبقا، فهى المطربة الوحيدة التى جابت الأرياف والصعيد فى بداية القرن وعرف اسمها هناك فبادرمن سمعها إلى شراء إسطواناتها.

الملاحظة الثانية كانت دور المستمع فى إذكاء العبقرية..تقول: "فالاستماع يجب أن نضمه إلى مجموعة العوامل المنتجة للموسيقى..فإنه من الملائم أن نوجه اهتمامنا إلى المؤدين و المستمعين الذين ينتجون الموسيقى ويتأثرون بها ويعيدون إنتاجها واستخدامها وبهذا يشكلون ممارسة موسيقية..حديث المستمعين وما يقولونه عن الموسيقى يساعد فى صياغة الأسلوب الموسيقى فى عملية إنتاج المادة الصوتية وفى تفسيرها بعد انتاجها..وفى إعادة انتاجها وإعادة تفسيرها فيما بعد." وتضيف الكاتبة: "ظل عدد مستمعى أغنيات أم كلثوم فى ازدياد لا يتوقف..إن معان أم كلثوم الغنائية ليست معان تعبر عن أغانيها فحسب، بل هى معان يعيد صياغتها المؤدون و المستمعون..إنهم يكشفون بوضوح عن جوانب من الحياة تكمن وراء مجال الثقافة التعبيرية كالجوانب السياسية والاقتصادية مثلا.."

مرت الكاتبة بالتحليل على حياة أم كلثوم فى البدايات التى شملت عصر الإسطوانة ونشأة الإذاعة والسينما والتى كرست لثبات مكانتها..كانت مرحلة تتميز بالرومانسية الشديدة التى أذكتها أشعار رامى وألحان القصبجى ثم أدوار الشيخ زكريا الذى ظل يربطها بالغناء الشرقى الأصيل عندما جنح القصبجى فى تغريب الألحان كعبد الوهاب بإدخال النغم الغربى وزيادة حجم الأوكسترا وإشراك الوتريات كــ( التشيلو)و (الكونترباص)...لكن اندلعت الحرب العالمية الثانية وظهرت طبقات جديدة أثرت من تجارة الخردة والعمل فى معسكرات الإنجليز (الاورنوس) فكان من الصعب عليها استيعاب رومانسية رامى فالتفتت إلى أزجال بيرم الذى عبر عن هذه الطبقات بالكلام العامى المباشر المشتق من لغة الشارع (ايدى على خدى وعديت) و(يا ريتنى عمرى ما حبيت)، ( الامل لولاه عليا كنت فى حبك ضحية)..( الأولة فى الغرام والتانية والتالتة)، (بقى يقولى وأنا أقولوه) وغيرها من أغانى بيرم المعروفة ذات الطابع العامى والتى نجحت نجاحا كبيرا وكان يمكن أن تستمر لولا الخلاف الذى نشب بين أم كلثوم وزكريا أحمد ووصل إلى المحاكم.

كان ذلك فى نهاية الأربعينيات بعد النجاح المدوى لأغنية ( الآهات) والتى ظل الجمهور يصفق فى نهايتها لمدة عشر دقائق..بعدها استدارت أم كلثوم لتمد يدها للقصبجى لكنه لم ينجح فى إنجاز لحن طويل بعد (رق الحبيب) فظلت رغم ذلك تشدو به لأكثر من خمسة عشر عاما فى سابقة هى الأولى من نوعها..لم يكن أمامها غير السنباطى فبدأت معه عصرا جديدا من ( الكلاسيكية الجديدة) التى شدت خلالها بقصائد شوقى ذات الطابع اللغوى الرصين و التى بدأتها بغناء ( سلوا قلبى) عام 1946. تقول دانيلسن إن الكثيرين حذروها من أن ذلك من شأنه أن يبعد جمهورها عنها لأنهم لن يذهبوا لسماع الحكم والمواعظ بدلا من كلمات الغرام والغزل، لكن ما أن ارتفع صوتها مجلجلا بـ( وما نيل المطالب بالتمنى) حتى صفق الجمهور وهلل معلنا نجاح اللحن الذى رفع أسهم السنباطى ووضعه على رأس ملحنى القصائد الصعبة التى يجزم البعض أن اعتى الملحنين لم يكن لديه القدرة على تلحين بيت كـ (ريم على القاع بين البان والعلم) من قصيدة نهج البردة.

لكن ما أهملته دانيلسن هو أنها لم تتحدث بإسهاب عن التغير الأخير السياسى و الاجتماعى الذى حدث فى مصر عقب ثورة يوليو 1952 والذى عكسته أغانى أم كلثوم..وقتها تغيرت الأوضاع الاجتماعية: خرجت المرأة إلى ميادين العمل بعد حصولها على الشهادة الجامعية..نادى النساء بالمساواة..اختلفت معايير التعارف والزواج فى بعض الأوساط..لم تعد المرأة حبيسة ذليلة تشكو هجر الحبيب..كل ذلك جعل أم كلثوم تعبرعن احتجاج المرأة بصوت عال فى ( حب ايه اللى انت جاى تقول عليه) و ( ح سيبلك للزمن لا عتاب ولا شجن)..( وفات المعاد وبقينا بعاد)..ثم تروح تشركه أيضا فى أنها أيضا السبب فى القطيعة التى حدثت بينهما عندما غنت ( أنا وانت ظلمنا الحب)..تلك كانت مرحلة توازى التغيير الذى حدث فى الأربعينيات..

 تقول دانيلسن إنها صحيح تعرضت لنقد لاذع من ملحنيها وبعض الموسيقيين القدامى ولكنك وحتى اليوم عندما تذاع تسجيلات التلفزيون لتلك الحفلات تلحظ حماس الناس وتشجيعهم عند سماع تلك الكلمات..فهى تعبر تعبيرا صريحا عن تغير قيم الحب والعلاقات التى بدأت تسود المجتمعات العربية خاصة فى أوساط الطبقة الوسطى..فعلا كانت تلك النهاية الحقيقية لعصر الرومانسية..حاولت أم كلثوم الرجوع إليها أواخرعام 1963 عندما غنت ( أقولك ايه عن الشوق) و( كل ليلة وكل يوم)..رومانسيتان حازتا على إعجاب الجمهور ولكنه كان إعجابا بلا حماس..ما دل على أن المستمع كان قد مل وبدأ يتطلع إلى الجديد الذى كان ينتظره منها..راح مذيع الحفل الذى شدت فيه بالأغنيتين من ألحان السنباطى وبليغ على التوالى يتحدث عن لقائها المنتظر مع  الموسيقارعبد الوهاب فى الموسم التالى...

لم تسهب الكاتبة فى هذا اللقاء كثيرا ولا فى خلافاتها مع السنباطى الذى ظل يلحن لها لعشر سنوات قبله..لكنها شددت على أن السنباطى وغيره من ملحنيها لم يتوقعوا ذلك النجاح الساحق لـ (أنت عمرى) الذى غير وجه أغانى أم كلثوم وتأثر به الكثيرون خاصة بليغ حمدى، إذ طالت كلمات المقاطع واللزمات الموسيقية التى تسبقها وامتدت مده الوصلة إلى ساعة ونصف وساعتين.

 وتعددت اللقاءات بينها وبين أحمد شفيق كامل ومرسى جميل عزيز اللذان فاضت أزجالهما بالأوصاف الحسية فى (أنت عمرى)و (الحب كله) و(ألف ليلة وليلة) و(أمل حياتى) و( ليلة حب) و( سيرة الحب) وغيرها..فقد عزفت أم كلثوم عن التوجه لكبار الشعراء وآثرت الكلمات التى تعبر عن الشعور العام وقل رصيدها من القصائد باستثناء عبقرية (الأطلال) التى رسخت أقدام السنباطى رغم رياح التغيير..وهنا تروى الكاتبة حادثا ربما لم يعرفه البعض، فبعد نجاح (انت عمرى) خرج الناس وتزاحموا على أبواب أى مقهى كان يذيع تسجيل الاغنية..ووقفت صفوف طويلة أما منافذ صوت القاهرة لشراء إسطوانة (إنت عمرى) وتعطلت إشارات المرور عندما أصر السائقون على الوقوف إلى جانب سيارة كانت تعلو داخلها (هات عينيك تسرح فى دنياتهم عنياى)..عندئذ قرر عبد الوهاب تسجيل الأغنية بصوته وطرحها فى الأسواق..فما كان من أم كلثوم إلا أن أرسلت إليه إنذارا على يد محضر تحذره بأنه لو فعل فستسحب الأغنية من الإذاعة والسوق ولن تغنيها فى حفل عام مرة ثانية.

الكتاب شيق زاخر بالتحليلات ولا يغنى هذا العرض عن قراءته وتختتمه دانيلسن بقولها إن أم كلثوم لا مثيل لها..ظاهرة جمعت عبقرية المطربة الأمريكية (إلا فيتزجيرالد) وكاريزمت (مسز روزفلت) وجماهيرية (إلفيس برسلى) جميعها فى شخص واحد فهى...بلا نظير