أحس عبد الله بكآبة خانقة داهمته فجأة .. فلاذ بالوحشة والفراغ، وأخذ يتأمل السماء العريضة .. فتش عن نجمة المساء .. وأخذ يدقق جيداً عله يرى نجمة واحدة .. عاين السماء من أطرافها .. يا لله متى تظهر النجمة.. لكن النجمة ظلت آفلة .. لو أن نجمة واحدة أضاءت بؤر قلبه الحالكة ، لاستحضر جواداً وشراعاً وسفينة ، وغادر المدينة والبلدة إلى غير رجعة ..
لو أن شخصاً في هذا العالم أهداه نجمة وسروة لاستظل بظلها طيلة حياته ، وانصرف جاداً إلى جمع أخبار الأجداد في حلهم وترحالهم وفتوحاتهم وهزائمهم، وأخبار جواريهم ونسائهم، ودسائسهن وغرامهن .. ولألّف كتاباً يفوق كتاب الأغاني والعقد الفريد، والروض العاطر في نزهة الخاطر.. ولبنى جزيرة وقصراً، واشترى أجمل جواري عكاظ، وابتنى بها على سنة الله ورسوله..
لكن الأحلام العريضة كانت تجمح بعيداً، تنخر مسامات روحه ،ولم يستطع مرة واحدة أن يحقق حلماً في حياته، فكثيراً ما كان مولانا الوالي أعزه الله وأيده بجنود من عنده يضبطه متلبساً شارداً حالماً فيقبض عليه، ويدخله أضيق الزنزانات الفردية بحجة أنه يحيك المؤامرات، وينظم الناس في الأحزاب السياسية المعارضة. قضى نصف حياته في الأحلام والسجون. والنصف الآخر في الجامعات العربية الخامجة التي لا تعرف مدرجاتها الا أدب الجاهلية ، وافر نقع وأحر نجم وإفعوعل، والحفظ الببغائي والستوكات الجاهزة ، ، وتاريخ الطغاة والظلمة وعروض الخليل بن أحمد الفراهيدي.. وعندما تخرج بدأ يتسكع ويعاين الشوارع العريضة، ومحلات العطور الفاخرة، والأحذية الإيطالية الساحرة، فعاد مولانا الوالي وقبض عليه ثانية بجرم إساءته لهدوء المدينة، وصفاء الشوارع وطمأنينة الناس. كان قد تعلم في أعوامه السابقة أن يستسيغ المرارة ويبتلعها.. وينام سعيدا في أبعد أكواخ المدينة القصديرية، بعيداً عن عربدات المدينة وحفلات سيركها ورقصها.
داهمته الكآبة وهذه الغربة الملعونة ، وقصفت الريح آخر نخيله، وهدمت كوخه ، وسدت الرماح والنصال بوابات شرايينه، وأخذ هازم اللذات أعز صديقاته وأخواته ، وأخذ أمه بعد أن دهستها سيارة "فورد أمريكية" ذات مساء في أجمل شوراع المدينة العريقة. وسجل البوليس الوطني العريق الحادثة ضد مجهول، وطوى مولانا القاضي قضية الدهس بأمر الوالي. لعدم وجود الأدلة القاطعة
وبعد أن غابت الوالدة الصديقة شعر بغصة حادة ، وأحس أن ما يحيط به يفقد لونه وطعمه، لم يعرف كيف يفكر أو ينام، أو يأكل .. فالحزن الأسود زاده اليومي.. بينه وبين معارفه القدامى الذين أصبحوا أكبر تجار المدينة وسماسرتها شرخ حاد يزداد يومياً، فيجعله منطوياً متسربلاً ومفجوعاً بنفسه ومدينته.. لم يعد قادراً على أن يتآلف والحزن.. كانت نخيله المسروقة وصحراؤه اللافحة كافية لأن تفتح ثغرة واسعة في مفاصله .. ومع تقدمه في العمر كان يأمل أن يتبدد حزنه لكن شيئاً لم يتغير.. فالميناء لا يزال بعيداً ، وما بانت سفينة واحدة، ونجمة المساء ارتحلت إلى الأبد، وها هو ينتظرها لعشرين سنة، لكن هذه الأليفة الهامسة الحبيبة الحلم تركت السماء
فانقبض قلبه وأحاطه الظلام .. والحياة أصبحت كابوساً .. والرغيف استمر هارباً.. والمدينة استمرت في إشعال طقوس رقصها .. لم يتعود الرقص ولم يفكر به .. لم الرقص طالما أن النجمة غائبة .؟. لم الرقص طالما أن الريح ملأت حقوله و بياراته برمالها وسمومها ؟ وطالما أن المدينة تقيم أفراحها اليومية ويرقص الناس من حولها ، فليشاهد منظر الناس والشوراع والحانات، فنادق الدرجة الأولى.
كفي أن يتأمل الراقصين .. وحتى لو حاول الرقص فإن رجليه ستخونانه دائماً. المهنة ليست له ، ليتركها لعباقرتها . ولتجار السوق السوداء، ولتجار الرقيق الأبيض والأسود والكوكائين، وأصحاب وكالات السيارات. حاول مرات عديدة أن يناشد الفرح ويستحضره. لكنه كان يهاجر دائماً .. مشى في شوارع المدينة وأزقتها.. لا يوجد زقاق واحد في المدينة إلا ويعرفه جيداً .. تأمل وجوه الناس والمتسكعين كانت محاطة بقفار شاسعة ، وبغابات محروقة، وصبيان مبتوري الأصابع، ونساء بلا أنوف .. أما بنايات المدينة الشامخة فقد ازدانت بالأعلام الوطنية والدعايات الأمريكية التي ترفرف مع أبواق سيارات المرسيدس.
قلب جيبي وسرواله.. وكانت الأموال على وشك النهاية ... تباً لهذه الأموال التي تهرب دائماً .. عشرون درهماً وستون سنتيماً .. غداً تنتهي.. ومحال أن يجد العمل .. فالبطالة نصل وسيف ، سدت بوابات المدينة .. وحجبت ضوء الأفق .. والأشجار ظلت كابية .. والنوارس مقصوفة الجناح... وهاهي مدينة العمالقة والحضارات جثة مرمية على شاطىء البحر تنتهشها الغربان، وجواسيس الليل، ومقاولو البناء .. وأين يجد العمل؟
لم يعد يذكر عدد الطلبات التي تقدم بها إلى الشركات العامة والخاصة.. ولا وجوه السكرتيرات المصبوغات بالطين والكيروسين، و مساحيق أوروبا كافة .. لكن عينيه ما نسيتا أبداً اللافتات العريضة المعلقة على واجهة شركات المدينة جميعها. يومياً كان يقطع شارعي علال بن عبد الله، وعبد الكريم الخطابي مرات لا يعرف عددها ..
ويردد البقية الباقية مما كان يحفظه من معلقات العرب وأشعارهم التي فرضت عليه أيام كان طالباً في الجامعة. وأمام كل شركة كان يقف زمناً يتأمل اللافتات والموظفين الذين يجلسون وراء مكاتب وثيرة، وقد أخذوا يقهقهون ويرشفون فناجين الشاي.. ويتحدثون عن غباء زوجاتهم .. وآخر مغامراتهم مع عشيقاتهم .. وعندما كانت تزوغ عيناه.. كان يدخل إلى مطاعم الحلازين.. ويأكل وجبته اليتيمة ذات الدراهم الثلاثة ، ويدخل جامع " سيدي عبد الرحمن المجذوب".. ويدعو الله أن يمنحه جزيرة ونجمة وجارية، لكي يكمل النصف الآخر من دينه .. بعدها سيجمع فقراء المدينة ..و سيوزّع عليهم جميع ما تدرّه الجزيرة عدلاً مطلقاً.. ويشيد مدينة لا خوف ولا قتل ولا جواسيس فيها ،وسيملؤها عدلا كما ملئت جوراً. وتذكّر أنه آخر مرة قابل فيها مدير شركة الشرقاوي لاستيراد البضائع الأجنبية وتصديرها ، كيف أن المدير قابله ببشاشة، وطلب له كأس قهوة.. وشرح له أوضاع البلد الصعبة ، وكيف أن أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال نسمة ولا رشفة ماء.
وفاجأه بالحقيقة المرة قائلاً: إن صاحب الشركة يأخذ من كل موظف جديد تسعة آلاف درهم مقابل تعيينه.
ـ لكن هذا لا يصدق يا سيادة المدير، لو بقيت أعمل طيلة حياتي لما جمعت تسعة آلاف درهم.
ـ هذه هي السوق يا حبيبي .. ازرع تحصد .
مجنونة المدينة والسوق والتاريخ ..أف .. وبصق في وجه الريح العاتية .. ومسح عينيه .. متى تهدأ هذه الريح؟. وشتم الجامعة والساعة التي دخلها، وشهادته. وأخرج ملف شهاداته.. ورماه إلى قاع الأطلس.. لتذهب المعلقات السبع وأفرنقع وأحرنجم وافعوعل ، وفعولن ومفاعيلن، والمجاز العقلي والمجاز المرسل الى جحيم ربي، لتحرق جلود السفلة واللصوص وسماسرتهم من مصر إلى تطوان، ومن يمن إلى عدن ، ومن الحميدية الى "عين الدياب".. ومن البحر إلى البحر، ومن الماء إلى الماء ومن غرناطة إلى المحيط الهندي..
وهكذا توالت زياراته لكل شركات الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش.. وضاق صدره، وأخذ يسعل.. وأين نسمة الهواء أيها الأطلسي المليء بزجاجات الفانتا والكوكاكولا وبشصوص الصيادين المخرومة ؟.
السماء سوداء.. والبحر متلاطم باهت .. والأصحاب والخلان كمفرقعات أعياد الميلاد ورأس السنة .. وثمة نجمة حزينة خافتة وحيدة تلوح للمدينة، وتحتضن حقيبتها مصممة على أن تهاجر ، ولا تعود أبداً.. وناداها متوسلاً: أيتها النجمة الحبيبة... قلبي بين يديك.. امنحيني ساعة واحدة حتى أربط نفسي بجناحيك.. خذي مني الدم واللحم والروح، لكن احمليني معك.. انقليني إلى حيث شئت.. ثم اقذفيني حيث شئت، واتركي لي شمعة واحدة.. شمعة واحدة تكفيني.. أحرقها وأحرق مجامري، ثم أكفن نفسي وأدفنها إلى الأبد في الطين والوحل والرمال والصحراء.. لا يهمني ذلك .. أيتها النجمة الحبيبة , لكن النجمة غطت شعرها الجميل.. وتبرقعت ولوحت له:
أيها الغريب.. لا أستطيع أن آخذك معي أنت لست محرماً وهذا لايجوز.
ـ أصبح ما تشائين .. لكني استحلفك بالذي يجيء.. والذي لا يجيء .. بكل الفرح و الحزن .. وبكل الضياء والظلام أن تأخذيني معك.
وقالت النجمة : أيها الغريب.. ضع.. تشرد .. اغترب.. كفن نفسك ومت .. جع .. ونم في العراء.. لست مسؤولة عن بني البشر.. أحرقت لكم شموعي طيلة عمري، ولم أجد منكم إلا الهجران والصدود .. يكفيني مأساتي وهمومي.. ها ضوئي يشحب.. يكفيني أن أحمل نفسي .. فكيف أحملكم؟.
شارع علال بن عبد الله يشقّ قلب المدينة النائمة من الشريان إلى الوريد .. والشحاذون يتوسدون رصيفه أمام الصيدلية المركزية، وأمام مطعم الطنجاوي الفاخر ، والبنك العام للمغرب. وفي Csfe de france يتجمهر الزبائن والمتسكعون والباطلون، والذين لا يملكون إلا درهماً واحداً ثمناً للقهوة .. وقلّما تجد كرسياً فارغاً.. ينبغي أن تنتظر زمناً حتى ينتهي أحد الزبائن، أو يغادر المقهى. أو يملّ.. لكنه قلماً يملّ.. ففراغ المقهى هو الفراغ الوحيد الذي يشعل الأماني، وبوح القلب، والأحلام والكوابيس..فأكثر الرواد يطيلون المكوث.. وقلّما يخرجون .. هنا بؤرة الأمان الوحيدة.. هنا الشطّ الوحيد الذي يرسو عليه الغرباء والمهاجرون.. يراقبون الفراغ.. ويحرقون النراجيل وأنفسهم.. ويتحسّسون جوازات سفرهم المنتهية أو المزورة.. ويمدّون أبصارهم إلى مدنهم البعيدة .. لكنّ مدنهم سرعان ما ترسل غربانها ونسورها الجارحة .. لتنذرهم وتلوح لهم بالعصا.. جوعوا.. تشردوا.. لا تفكروا بالمجيء .. لن نمنحكم جوازات سفر.. كونوا بعيدين عنا.. ندعو الله أن يبعدكم ويسعدكم. ويبتعدون وتجتثّ الريح والقطارات والمرافىء المهجورة سعادتهم, ثم يدخلون السجون فرادى وجماعات.. ولا يعرفون لماذا يدخلون.
وقلما يخرج هؤلاء المنفيون من المقهى.. فصاحب المقهى تعود كيف يجلبهم.. إذ جمع اسطوانات سميرة بن سعيد.. وعزيزة جلال وعبد الوهاب الدكالي.. وأعلن انه لن يطالب أحداً بثمن القهوة حتى آخر الشهر، ريثما تأتي دولارات الأهل والأحبة من وراء الأطلسي والمتوسط. وفي الصيدلية المركزية أربع شابات من أجمل نساء المدينة يبعن الأدوية ومستحضرات التجميل وحبوب منع الحمل... وعند نهاية الدوام الرسمي يؤكد عبد الله الإدريسي صاحب المقهى أن أربع سيارات مرسيدس تربض في زاوية الشارع لتنقلهن إلى (نادي شيتا) في عين الدياب، وهناك يبعن بضاعة راجت كثيراً في الآونة الأخيرة. وتعلمت المدينة كيف تتجر بها في صقيع الشتاء، و أمسيات الصيف حيث تبرد الحلق و تطفىء الظمأ.
الصيف قائظ.. المدينة تغرق في همومها وفضائحها وصخبها، واغتيالاتها السرية والعلنية.. تهرب من ذاكرته كل الرؤى والأماني الجميلة .. وفاجعه الأعمى يثقب فيه باكورة الشباب، وكابوس الماضي يلاحقه وطيف أمه يظلل بؤبؤ عينيه.. والأحباب كبرق الخلب.. ووحشة تعتصر أضلاعه.. والنفايات تتجمع في السوق القديم.. وطالبات الجامعة يتأملنّ أحدث البضائع التي وصلت تواً من باريس ونيويورك..وفندق "حياة ريجنسي" يشتعل متقداً على أصوات الجاز والجيرك.. وقنال TV5 يبثّ أحدث الأفلام الغربية التي تثبت تفوق الغرب الحضاري، وهمجية العرب وبداوتهم.
خرج من المقهى.. لا يزال الشارع معربداً.. تأمل الفندق.. كانت أعلام الدول الكبرى تدغدغه بوشم خفيف ناعم .. وكان العلم الأمريكي يعانق علم الجامعة العربية الذي بدا طفلا وديعا مطيعاً لأبويه ولأخواله وأعمامه.. وكانت السائحات الأوروبيات يدخلن ويخرجن من بوابة الفندق الرئيسية.. وكان الشرطي السياحي الشهم الذي عرف جميع أنواع التهذيب والأدب يحني قامته الشامخة كلما مرت سائحة تقود كلبها ،ويرفع قبعته البيضاء إجلالا ومهابة .. وقد انفرجت أساريره عن ابتسامة ودودة عريضة. توقّف, وأخذ يرنو إلى صالة الفندق الأرضية..
كانت نساء شقراوات يرشفن الويسكي الوطنية المخلوطة بالصودا الفاخرة على أنغام الفولكلور المراكشي بطبوله وصنوجه.. يحيط بهن رجال انتفخت كروشهم، وقد ارتدوا بذلات أنيقة بربطات عنق سوداء وحمراء، ودهنوا شعورهم بمساحيق غريبة, فبدت لامعة براقة . كانوا يتوددون للنساء.. ويمسحون ظهور الكلاب الأنيقة التي تمددت مسترخية بجوار سيداتها.. كانت وجوههم سمراء، وعيونهم سوداء وقد تكحّلت بأشعة ذليلة مكسورة، وكانوا يحاولون إخفاءها وراء زرقة بذلاتهم السياحية, وهم يتكلمون بتملق مبتذل اللغة الإنكليزية والفرنسية والأسبانية .. وقد اختلطت ببعض الكلمات العربية والبربرية.
رمقه الشرطي السياحي بعجرفة وازدراء... هاهي البادية الجميلة تعود إلى قطعانها, وتنزع عنها ثوب تهذيبها المهترىء.. واستغرب كيف أن هذا الشرطي الذي كان يحني قامته قبل قليل، ويبتسم بهذا الإشراق الداخلي لهاته النسوة الغريبات, يتحول فجأة إلى تمثال من الحديد الأسود ملفعاً بثياب جنرالات العصور الوسطى، والعهد العثماني.
مرحى لوزارات السياحة والداخلية والتجارة .. مرحى لمدنها و دساكرها.. مرحى لرجالها.. مرحى لرجال شرطتها الذين يعرفون جميع أنواع الانحناءات، ويهبون مدنهم على طبق من الفضة للغرباء والدخلاء والعملاء، لكنهم يقتلون إخوتهم وذويهم، وأبناء طينتهم لأجل شربة ماء، و متر من الأرض البور، و حبة شعير.
مرحى للكرم وللشهامة ، وللمدن الرائعة الخصبة التي علمتنا الوفاء والكرم ولثم سيوف الأعداء، ثم اغتيال الأخوة والأقرباء والفقراء ونفيهم وسجنهم بهذه السيوف.
لوح الشرطي بالعصا البيضاء الطويلة.. ابتعد أيها الغريب.. وزعق عليه بصوت بربري: هذا مكان عالمي يمنع دخول العرب إليه. فابتعد صامتاً.. وكانت عيناه تثقب المدينة والكلاب والنساء والبنوك التي اصطفت متناثرة في طرفي الشارع.
أمام الخطوط الملكية المغربية شاهد جمهوراً متلاطماً.. كانوا يلبسون ثياباً بيضاء وعمامات بيضاء.. وآخرون ربطات عنق ملونة .. كانت لافتة كبيرة على الباب وقد كتبت بخط الرقعة:
إلى حجاجنا الكرام.. حجاً مبروراً.. وسعياً مشكوراً.. وإقامة طيبة في الديار المقدسة.. مرحباً بكم على متن طائراتنا.
قطع الشارع .. قابلته خضرة البحر.. وقرر أن يسبح وحيداً إلى أقرب سفينة. تقدّم منه شيخ وقور كان يبيع السور القرآنية والأدعية المستجابة في حبّ الصحابة .. قدّم له آية الكرسي.. طواها يرفق وطمأنينة، وأحنى رأسه وقبّلها ، ووضعها في جيب قميصه.. ومشى مبتعداً.. ناداه الشيخ:
ـ والبركة أين؟ .. درهماه يا ابني ثمن السورة.
أخرجها، وقبّلها من جديد، وأعادها للشيخ الوقور.. رمقه الشيخ محتقراً. فأجاب:
ـ أقسم لك بهذه الآية الكريمة وحروفها وسرّها ومفاتيحها، إني لا أملك سوى درهمين.
ـ أف .. ما عاد في الناس بركة.. شباب الزمان الأخير انتم.. لاختير فيكم..
وأضاف الشيخ موبّخاً المدينة وسكانها وخمّاراتها ومقاهيها.. لكنّه ودّعه معتذراً.. وأسرع الخطى .. كلّ الجدران تتصدع في نفسه .. أصبح في حيرة من هذه الجدران الهشّة.. وحده جدار الله كان قوياً راسخاً في حناياه.
وتلاشت جدران الأحباب والأصحاب التي لاذ بها.. لكنها لم ترحمه يوماً ما طوال سنيه السابقة؛ فالمدينة والدخلاء و "حياة ريجنسي" يتعانقون كل مساء. وتأمل البحر الهادىء.. لا يوجد سفينة واحدة فيه.. فدخل زنقة "البارودي".. وطلب صحناً من الحلزون.. شرب ماءه في دقيقة .. ودفع للبائع ثلاثة دراهم.
وخرج.. شاهد امرأة ترتدي عباءة خضراء طويلة.. ينسدل على كتفيها شعر غامق طويل.. وقد وقفت أمام عربة صغيرة تبيع العطور الرخيصة وطلاء الشفاه والحاجبين .. تأمّلها جيداً، كانت منهمكة في فتح حقيبة حمراء صغيرة.. أحّست به.. ابتسم يائساً، فابتسمت فاردة شعرها لنسيم الأطلسي.. مشيا في الزنقة الغاصّة بالبائعين والناس، والمتسكعين وبائعي الهيروين.. كانت أصابعها الخضراء ترتجف قابضة شفافية البحر والأحلام والمنى.. وفي آخر الزنقة دعته إلى مقهى "النصر".. فدخلا وطلبا حليباً بالقهوة.. حشّت سيجارة بمسحوق أبيض ناعم وقدمتها له.. وأخذت واحدة لنفسها .. دار المقهى.. دارت المرأة.. دار الرجل.. ارتجف الأطلسي.. غطى الضباب المدينة.. وحدها النجمة الآفلة كانت منهمكة في رسم لوحة سيريالية لعربدات المدينة السريّة.. بينما كانت المطربة الشعبية "نجاة عتابو" تغني لجبال شفشاون ونخيل خنيفرة.. وتلوم الحبيب الذي تأخر فأبكى القلب والروح.. أما المدينة فقد أخذت ترتعش وهي قابضة أعمدة الرايات وصور المرشحين لمقاعد البرلمان، والبنوك و "حياة ريجنسي". والسائحات الأجنبيات.
أسبانيا ـ اليكانت