إتكأ بيد مرتعشة واهنة على عصاه حاملا على ظهره المحنى و اكتافه المنكمشة و عظامه الهشة ذكريات أيامه المديدة . توقف لبرهة و التفت يمينا و شمالا متسائلا إن كان ضل الطريق و خانته الذاكرة .
لم يجد أثرا للفيلا الانيقة. انتصب مكانها مبنى ضخم كئيب الطلة تكاد قمته ان تلامس السحب . إكتظت الارصفة بمقاعد الكافيهات و روادها الذين ينفقون الوقت ينفثون النارجيلة و يتسلون بالمعاكسات الفجة لنساء خاصمهن الجمال و ضرب اغلبهن خمارهن على جيوبهن . تراصت السيارات على جانبى الطريق و تلوث المكان بالزحام الخانق المفتت للاعصاب . هاله إمارات العبوس و التجهم المطل من العيون الغاضبة . ملامح تعلوها الشراسة و التنمر كما لو كانت تتأهب لخوض معركة الوجود .
لم تصادفه فتاة واحدة مشرقة الوجه ممشوقة القوام ترتدى فستانا بلا مئزر كغالبية الاناث اللائى تذوق معهن القبلات البريئة الساخنة المنتشية بقدوم الربيع .
لقد ضل الطريق يقينا .
هم بمغادرة المكان إلا انه استوقفته إمرأة شديدة الاناقة و الجاذبية ترتدى فستانا كاشفا عن ركبتيها و أكتافها . عيونها تلمع ببريق حنون ملأ نفسه بالأمان و الانتشاء الروحى . تبدو قادمة من مكان و زمان أخر . فهل ضلت الطريق مثله ؟ هل أصابها الجنون لتسير وحدها بملابسها العارية لتكون فريسة للتحرشات المريضة . لم يصدق نفسه و هو يراها تمر برشاقة راقصة باليه دون ان يلتفت اليها أحد . دبت فيه روح شابة وثابة و قرر ان يتبعها ليضلا طريقهما معا . فهى بالنسبة له الطريق و الحياة . أسرع الخطى ليلحق بها فتصبب عرقا و اصابه اللهاث و عجز عن مواصلة السير . انهارت قواه فأفترش الارض و اخفى وجهه بين كفيه و اجهش بالبكاء . حاول أن يتمالك نفسه ليعود من حيث اتى . انتصب واقفا و كاد قلبه أن يتوقف عن الخفقان . رأها عائدة بنفس النظرة الحنونة مهرولة نحوه لتضمه بقوة الى صدرها فسالت دموعه مجددا . تمتمت بدفء فى أذنيه : وحشتنى قوى يا حبيب قلبى .