"إنكِ مجرد ورقة.. لا تستطيعين فعل شيء." صاح رافعاً إصبعه.
تتوقف بسيارتها أمام الإشارة الحمراء. تتذكر عندما كانت شابة ابنة العشرين تستحضر الجمال إلى شعرها بفنون البوكلت، وكان يعمل هو في جمع بيانات وجداول الحسابات. مرحلة أتت عليه بالخير الكثير. كم ربح من فنون التلاعب الرقمي وهي تتجمل أمام المرآة. هل نضجت؟ هل فمهت كم استجمع ثروته من سذاجتها؟
هل كانت صغيرة على الحب أم إنها لم تعِ معنى ما يقول؟ هل كانت ورقة جرنال أم قصة غواية أم وثيقة سفر؟ قالها في مكتبه وعلى منصة القضاء. أعادها في سيارته التي يقودها حتى شاطئ النسيان. كم كانت وحيدة.. وما زالت حتى الآن تلهو بالحياة وتنتظر كلماته.
هل حقا قال ورقة؟ مكتوبة أم مختومة أم كارنيه؟ منسوخة أم بخط اليد أم ورقة افتراضية تتأرجح بين الشاشات؟ ربما كانت ورقة مكتوبة بحبر أسود في قلب نوتة موسيقية.. تشدو بحب مضى أو بجريمة قتل آتية لا محال.
هل هي نادمة اليوم؟ ربما.. وربما كانت غاضبة وأصبحت الآن تستمتع بهمهمات ما فات. تدرك أنه احتفظ لنفسه بالحسابات.. هكذا ظل حالها معه طوال ثلاثين عاما. في جبال الشمال كان ينساها بالأشهر.. حتى يستعد بأوراق أخرى. وكانت تتابع ما يفعل بروح رياضية.
قد أبدع في اختيار خطبه. كم كان رفيقا. كم كان واثقا... وكم كانت هي مخدرة. كان ذكيا أن يختار مكان اللقاء على شاطئ النيل الشرقي، فهو يعلم أنها فاقدة أسلحتها متى عبرت النهر، حافية القدمين أو كأنها في أحسن الظروف ترتدي حذاءا طبيا.. في حين تحصن هو بدار هيئة الكتاب المصرية، تلك القلعة الحصينة التي تضمن استحواذه الكامل على الإشارات الخضراء. الآن بدأت تستعيد الذكريات بالألوان الطبيعية.
هذا الصباح استيقظت وهي تردد: أنا ورقة... أنا ورقة.
والآن في الإشارة تحاول أن تتذكر متى سمعت منه هذه الجملة. كان عليها أن تتذكر عينيه الخضراوين وهو يهيم بهما بعيدا عنها، ويؤكد العبارة الوحيدة التي حددت من هو السيد ومن هو العبد، من هو القائد ومن هي الضحية. وحقيقة الأمر إنه نجح أن يجعلها تظن أنها تختبئ في صدره، حتى يتركها مخدرة في أحضان المكتوب.
في سيارتها تستمع إلى الراديو... سمك لبن تمر هندي. في النهاية اختار كل منهما شاطئا من النهر، فسقطت الكراهية في بحور النغم، وتداعبا كل على شاطئه.
هي عائدة توا من كشف النظر. بحثت عن طبيب للعيون أعلى مول البستان، عيادته تقع في الدور العاشر بعد المئة في مركز تجاري يكتظ بشركات الحاسوب. اختارت منتصف النهار حيث تتعامد الشمس على موجات ذات النيل الأزرق. اتخذت مقعدها أمام لوحة الإشارات. اختار الطبيب بعناية أن تكون من حروف الـC الكبيرة وليست حروف الـ E المسببة للالتباس، وأمرها أن تحدد اتجاه فتحة الحروف. الجلوس أمام المرآة ضروري لتأمين مسافة الستة أمتار المطلوبة لتشخيص الرؤية. اتفق مع إجاباتها بشأن اتجاه الفتحات ثم تساءل أين اختفت كل تلك السنين؟
لم يتمكن الطبيب من اعتماد كشف النظر لكنه عاد فتساءل إن كن جميعهن هكذا. ثم ظهر مساعد الطبيب فني البصريات، وهو فتى يبدو في العشرين أو أكثر قليلا، وسأل عن بطاقتها الشخصية، وعندما وجدها تبدأ بـ 88 أخد صورة ضوئية منها وأرفقها بالكشف، فأصبح معها لأول مرة أوراق تخصها بخلاف تلك الأوراق المتراصة التي حاصرتها وأخفتها عن الحياة.
تجربتك خاصة جدا... لن تستطيع معظم النساء أن تتفهم ما مررتِ به، تهمهم لنفسها، ثم تعود وتتساءل كم من امرأة فوجئت بمن يدس في يدها ورقة إخلاء السبيل، لا تصدق أي منهن في البداية، ثم تدرك أنها في حاجة لإجراء كشف على نظرها.
"أنتِ مُجرد ورقة" سمعتها على لسان ابنها للمرة الثانية بعد أن أصبح رجلا. قيلت بعنف الشباب، بثقة من يتسلم دفة الحكم.
في الإشارة أخيرا تفيق على صفعة الإختيار. تتعلم فنون صناعات الظل. تتعلم أن تبني في سلام ما هدمه الآخرون، أن تنسج الخيال، أن تستمع الى صدى صوتها، أن تترجم الصمت بعدة لغات.. وأن تتنفس بعمق.
الإشارة الآن خضراء.