من المجموعة القصصية : " حنان قليل " 1958

الكوافير سوسو

كانت أصابعه الخشنة بعظامها العريضة البارزة ، وجلدها الاسمر الجاف ، تبدو نشاز بين خصلات الشعر الذهبي الناعم، تجمع بعضها وتفرق بعضها، تلف بعضها وتفك بعضها.. تنتقل في سهولة ويسر ، بحركات فنية خفيفة رغم شكلها الغليظ الثقيل ، الذى يوحى للرائي أنها لم تخلق ، لتمسك مشطا أو دبوساً ،  وإنما لتقبض على فأس أو ساطور..

والشعر الذهبي بينها طيع مستكين ، ينهدل تارة وينتصب تارة، يتفرق ويتجمع .. وينثنى وينفرد.. حتى يتخذ في النهاية شكلا أخيرا ، وكأنه أصبح شعراً غير الشعر، فيه تموجات جديدة ، بعضها يذهب الى اليسار وبعضها ينحرف الى اليمين ، فيه خصلة بيضاء، وخصلة رمادية، وخصلة كستنائية.

وتتقلص الأصابع الغليظة متكورة محترسة تسويه من بعيد، وتتحسس الشعيرات الرفيعة النافرة ،  تضمها إلى أخواتها وتعيد بلمساتها الخفيفة نظرة واثنين وثلاثا على الشكل النهائى.. مرة من بعيد.. ومرة من قريب ، من اليمين ومن الشمال ، ومن الأمام.. حتى تطمئن اطمئنانا كاملا ، فترتخي عضلاتها وتبعد مستريحة راضية هانئة.

كانت هذه الأصابع الغليظة ، هي كل شي في حياة سعيد أو سوسو ،  كما كُتب على لافتة محله، وكما تناديه الأصوات الرفيعة الناعمة، يفكر بأصابعه ، وينظر بأصابعه، ويشم بأصابعه، ويعيش بأصابعه ..

 لكنه اليوم بدأ يحس ،  أن له رأساً فوق عنقه تثقله أفكار كثيرة ..

سوسو !!..

أخذ الاسم يدق فى رأسه كمطرقة حادة ، بينما راحت أصابعه السميكة تسبح في رشاقة ،  بين خصلات الشعر الناعم..

سوسو !!..

وقلب شفتيه امتعاضا ، وهو يراجع اسمه بينه وبين نفسه.. ما الذى جعله يسمي نفسه سوسو ؟.

ونظر إلى المرآة ، فرأى صدره يغطيه شعر أسود.. كثيف.. وتأمل قامته الطويلة العريضة، وهبطت نظراته الى يديه ، فرأى أصابعه الغليظة ، وهى تنتقل بغير وعى بين خصلات الشعر.. غريبة.. كيف سمى نفسه سوسو ؟! أو سمح لنفسه أن يسمى هذه الجثة الضخمة المغطاة بالشعر سوسو؟ .. لماذا لم يسم نفسه طرزان أو ضرغاما.. أو أى أسم من تلك الأسماء المذكرة الخشنة ، التي تليق برجولته ، وتجبر الناس على احترامها ؟.

نظر إلى المرآة ثانية يتفقد نفسه ، ليكتشف أى شئ فيها يشبه سوسو .

ولم يجد شيئاً إلا ذلك القميص المشجر ، الذي يبدو شاذاً على صدره العريض المشعر.

وأحس بالدماء تغلى فى رأسه، وود لو خلع هذا القميص أو مزقه، وشطب اسم سوسو من اللافتة ..

أوه .. حاسب شويه يا سوسو. المكوه لسعتنى !

صاحت صاحبة الشعر الأسود الداكن ،  بعد أن مست المكوة في يد سوسو الثائرة طرف أذنها ..

لسعة خفيفة، أصابت جسمها بشئ من الانتشاء، فعادت تتأوه من جديد ، وهى تنظر إلى سوسو نظرة نداء مكتوم صارخ ، وقالت في ميوعةأنثوية :

أوه ! مش تحاسب علىَ يا سوسو ؟

ولم يرد عليها سوسو، لم يجد في نفسه رغبة للرد على هذا النداء المكتوم كما كان يفعل دائماً ، ويقول لها في ميوعة مُذكرة :

بعد الشر عنك .. انشالله يا مدام أنا اللى أتلسع ..

ويتعمد أن يلسعها مرة أخرى لسعة خفيفة ، لتنتفض على كرسيها ، و تنتشى أكثر وأكثر وتتأوه أكثر و أكثر ..

كان يعلم أن أنوثتها الصائحة فى المجتمع المحروم ، فى حاجة إلى شىء من هذه الأشياء الصغيرة .. لسعة خفيفة بالمكوة .. قرصة فى الذراع .. نظرة اشتهاء خفيفة.. شدة شعر مقصود ..

هذه الأشياء الصغيرة المباحة في المجتمع ، تنفس بها النساء عن ضغط غرائزهن .. أشياء صغيرة لا يطلق عنها المجتمع الإشاعات ، ويرضاها الأزواج كل الرضا ، مادامت الزوجة ستصفف شعرها كما تفعل كل النساء.. إن المجتمع لا يرضى عن الشذوذ أيا كان.. حتى ولو كان شذوذاً فاضلاً. ويرضى عن المعتاد حتى ولو كان خاطئا..

ثم إن هذه الأشياء الصغيرة ، تحدث داخل صالون الكوافير سوسو .. وسوسو هذا لا يثير غيرة الأزواج.. يكفى أن اسمه سوسو.. وأنه يلبس قميصاً مشجراً. إنهم لا يعتبرونه رجلا.

إن المجتمع ينظر إلى الكوافير سوسو ، على أنه امرأة لها شنب .!

ووضع سوسو المكوة على النار ، وراح ينظر إليها وهى تلتهب وتحمر.. وتذكر حادثة اليوم التي قلبت يومه الى جحيم،  أشد ناراً من هذه النار التي يراها بعينيه.. لقد قضى ست سنوات أو أكثر ، وهو يصفف شعور النساء دون أن يشعر بأى خزى أو عار.. وظل اسمه سوسو .. ولاشئ في ذلك يمس رجولته .. وماذا كان يعنيه من تلك الكلمة الجوفاء الفارغة "رجولته" ،  ما دام يكسب فى اليوم عشرين جنيها تقريبا .. وله رصيد ضخم في البنك يزيد عن رصيد أى بيه محترم .. ثم إنه في النهاية يعود الى زوجته ليثبت لها كل ليلة أنه رجل..

        لكن حادثة اليوم هى التى أصابت رجولته فى الصميم .. كان ذاهباً فى الصباح إلى محله ليفتحه ويبدأ عمله اليومى ، حينما قابله فى الطريق ، رجل يعرفه وهو صاحب البقالة الجديدة الكائنة بجوار محله ، ووقف الرجل يتأمل القميص المشجر ، ثم قال فى ميوعة وهو يربت على كتفه ، كأنه يربت على كتف امرأة : ازيك يا سوسو ! يا حنتوسو.

ولم يعرف لماذا غلا الدم في عروقه في تلك اللحظة .. لقد ظلت النساء ست سنوات كاملة ،  ينادينه  سوسو ، ويربتن على كتفه  . لكنه لم يشعر في أي لحظة أنهن يعاملنه كامرأة. وبالعكس كن يشعرنه برجولته دائماً . ولكن هذا الرجل الصفيق .. يناديه سوسو.. ويعامله كامرأة.

وانتبة سوسو من حمية الصراع في رأسه على ذراع ناعمة بضة تلتف حول عنقه وصوت ناعم يهمس في أذنه :

صباح الخير يا سوسو.. ادينى ميعاد عشان تعمللي شعرى .. اجيلك امتى ؟ .

ونظر إليها سوسو في استغراب.. إنها تلصق جسمها بجسمه بشكل يلفت النظر.. ولكن كل النساء داخل المحل لا يلتفتن .. إن ذلك شئ عادي جداً ، عند الكوافير سوسو في نظر المجتمع.. وشئ غير عادى جداً ، في حجرة تضم رجلاً وامرأة متحابين..

وقال سوسو في تأدب : بعد ساعة يا مدام ..

 ونظرت اليه شرزا وقرصته في أذنه ، وقالت وهي تتأود :

مالك النهارده كده واخدها جد قوى .. وضحكت .

وانطلقت حناجر النساء تقول جماعة : مش عارفه سوسو ماله النهاردة ؟ .. مبوز كده ليه ؟ . شايل طاجن سته.. الواد جد خالص.. آل يعنى . ما تتعدل يا واد يا سوسو ، والا أجيلك وأنت عارف أنا باعمل لك إيه .

ايه ؟ يتعمليلو ايه يا روحيه ؟ .

تضحك وتقول : هو عارف ده سر بيني وبينه..

لازم بتقرصيه .. أصله واد مضروب يموت في القرص ! .

قرص ! .

نفذت الكلمة من أذنه إلى رأسه كطلقة المسدس .. إن النساء تعودن أن يقرصنه من ذراعه.. ومن رقبته.. من أذنه .. كيف سمح لهن بذلك ؟ .

كيف ترك جسمه نهباً ، لأصابعهن النهمة الجائعة ؟ .

وأحس سوسو بمرارة فى حلقه ، تشبه المرارة التي تحس بها المرأة التي تترك جسدها نهبأ لجوع الرجال ، يعبثون به كيف ومتى شاءوا .

إلى هنا لم يحتمل سوسو مزيداً من الأفكار والهواجس.. إلى هنا بلغت أعماقه قمة التوتر، فانفجر في النساء كالضرغام :

بس مش عاوز كلام ، انتم ايه ؟ .  جايين تعملوا شعركم والا جايين ..

ولم يكمل .. كان على وشك أن ينطق بكلمة نابية ،  فأمسك نفسه بصعوبة والعرق الغزير يتصبب من رأسه ورقبته .. ونظرت إليه النساء فاغرات أفواههن .. مشدوهات. وساد بينهن الصمت لحظة .. ثم أفقن مفزوعات على شكله الغريب الثائر..

هو جرى له إيه ؟ .

یا نهار اسود باين عليه اتجنن ..

اتجنن ؟ .

 واندفعت النساء مذعورات خارج المحل ، بشعورهن المنكوشة ، وكأن  مارداً يطاردهن.

وجلس سوسو في المحل الخالي ، ورأسه بين يديه.. ومن حين إلى حين ، يرفع راسه وينظر إلى شعر صدره العريض في المرأة ، ثم إلى أصابع يديه الغليظة الخشنة، ويهتف لنفسه بصوت مكتوم ،  أنا راجل .. أنا ضرغام  .. أنا سبع .

وبعد أيام قليلة ،  كانت اللافتة المكتوب عليها " كوافير سوسو " قد اختفت ، وظهر مكانها لافته أخرى خشبية كُتب عليها :

" جزارة سعيد الضبع " ...