جئن ، تسبقهن ضحكاتهن الرائقة ، كن كفراشات ملونة ينطق رؤياها بالبهجة ، والرشاقة . كان الحاج خليل قد سافر في قطار السابعة لإحضار شحنة أحذية حريمي من القاهرة ، أما الرجالى فهنا البضاعة على قفا من يشيل، وعلى النوتة ، أما الدفع فكل خميس ، وبطلوع الروح .
ثلاث بنات ، وقفن أمام الفترينة الصغرى، على الناصية الشرقية للمحل ، يتفجرن رقة وأنوثة ، كل واحدة لها لون وطعم وشكل ، يلقين نظرة متعجلة على العينات المعروضة في تنسيق جميل .
وقفت أتأملهن ، وأنا فرح بملابسهن المزركشة الجميلة ، كن من حي آخر ، فأنا لا أعرفهن ، لكنهن أغلب الظن من بنات ثانوي ، عرفت ذلك من نظراتهن الحالمة ، وصدورهن الناهدة ، وتلفتهن المثير خلفهن بين لحظة وأخرى .
مرت عربة الرش ، فأصابهن شيئا من رشاش الماء النظيف ، ارتفعت صرخاتهن المحذرة التي لم يسمعها أحد سواي .
قالت الفتاة الأولى ، وكانت تعقص شعرها الأصفر الناعم خلف رأسها : " يا لله بنا نتفرج جوه " .
ردت الثانية ، وهى تحكم إيشاربا ورديا حول العنق بدلال أخاذ : " استني لحظة من فضلكن ، نتفرج على مهلنا " .
جالت الثالثة ببصرها على امتداد الشارع ، وكأنها تبحث عن شئ ضائع ، وقبل أن تعبر سيارة نصف نقل بأطقم السفرة المكدسة ، تنهدت : " مفيش فايدة ..يظهر إنه مشى . يا لله ندخل يا بنات " .
كانت بشعر شديد السواد ، مجعد ، لكنها تملك نظرة ساحرة ، حمّلتها كل ما تشعر به من توتر وإحباط .
جلسن على مقاعد متجاورة، قالت ذات الشعر المجعد ، والبلوزة الزهري : " عايزة أحدث موديل " .
قلت لها وأنا أحرك السلم تجاه الواجهة الحريمي " " أي لون ؟ " .
قالت بعد هنيهة ، ربما كانت تفكر فيها : " أي لون فاتح : لبنى ، بمبى ، سماوى " .
صعدت ، ونزلت وبيسراى ثلاث علب ، تسندها ذقني من أعلى كما هو الأصول مع أصحاب الحرفة .
فتحت العلبة الأولى ، فهزت يدها ممتعضة ، مع الثانية تجاوبت ، وحركت الفردة بعيدا ، ثم قربتها ، لم تسترح للشكل فتركتها .لم تكن الثالثة اسعد حظا ، فبرغم أنها قاستها ، وتحركت بها على السجادة الشمواه ، فقد خلعتها بسرعة ، وهى تؤكد لي أنها ستشترى ، لكن لابد أن تقتنع بالحذاء .
مر شاب بالمحل ،وكانت له قصة أخفت جانبا من جبينه ، كما انسدل الشعر الناعم المهفهف على جانبي الأذنين. رأيته يعود ثم يتسمر أمام الفترينة الرجالى .
ضحكت الأولى ، وسمعتها تهمس : " صاحبك وصل !".
في تلك اللحظة رأيته يفك الزرار الأول من قميصه ، ويحرك السلسلة الفضية بحرف "s " ، ثم راح يقزقز اللب ، ويرمى به على الرصيف النظيف .
خرجت الومه : " لو سمحت بلاش قزقزة اللب هنا " .
شعر بالحرج ، ورفع يده معتذرا ، سألنى قبل أن أدخل ثانية : " الجوز ده بكام ؟ " .
كنت أعرف من خلال خبرتى أن من يسأل عن السعر قبل الدخول عادة لا يشترى ؛ فقلت له كي أريح نفسى : " الجوز متباع !".
دخلت تاركا إياه يتصبب عرقا فيما قالت الثانية ، وهى تغمز بعينها : " أهو.. أخرجى كلميه " .
كانت الثالثة هي المقصودة بهذه العبارة ، ولكنها بدت فرحة بحضور الشاب الوسيم دون أن تتخطى هذا الحاجز الذى رأيتها تنصبه بمهارة .أما الشاب نفسه فقد أغاظنى بحزامه العريض المدشن بكبسولات حديدية لامعة ، كانت تعكس ضوء الشمس على الجدار خلفنا .
لم أتململ ، وأدركت أنه لا بيع سيتم ولا شراء ، حينها تفتق ذهني عن حيلة ماكرة ، قلت ، وأنا أسحب العلب الكرتونية من أمامهن ، كأننى أنوى طردهن : " مع السلامة . طلبكن ليس عندي ".
كنت كمن مس كرامتهن ، قالت ذات الشعر المجعد ، وكأنها تطرد أشباحا خفية :" أبدا سنشترى " . ثم خرجت إلى الرصيف ، وكأن عينيها وقعت مصادفة على الشاب، خطفت جملة على عجالة : " مساء الخير " .
رغم التحية العابرة ، فقد تجاهلته تماما طيلة الوقت التالي ، وأشارت لي بيدها : " هات لي الصندل الأحمر اللي هناك ؟"
لم يكن هناك أي صندل أحمر ، فالرفوف مشغولة بألوان أخرى . فهل تريد خداعي؟
قلت لها بنفاذ صبر : " مفيش صندل أحمر !" .
اتجهت إلى زميلتها ذات الإيشارب ، وسألتها : " أيه رأيك في الصندل اللى هناك في آخر رف ؟ " .
شهقت مستحسنة ذوقها : " في منتهى الجمال ، ويليق على فستانك الجديد ".
تأكدت أنني أمام بنات فقدن حاسة التمييز بين الألوان . كنت أعرف مسميات الأحمر عند النسوة : فهذا دم غزال ، والثانى طرابيشى ، الثالث نبيتى ، والرابع أحمر زهرى ، الخامس طوبى ، وهات ما شئت من ملل ونحل و أوصاف للأحمر الجميل الملعلع الذى تفضله البنات قبل الزواج وبعده لأسباب لا أعرفها .
كان على أن أتحلى بالصبر، فالحاج خليل فور وصوله من السفر بالسلامة ، سيمسك كشف الحساب ليفليه ، ويسألني عن سبب نقص الإيراد عن معدله ، سيتهمني بأنني خرجت ألعب ، أو أغلقت المحل مبكرا قبل الثانية عشر ليلا ، ولن يفكر في خراب ذمتي لا لأنه يثق فيها، فهو لا يثق فى حمادة ابنه ، الذي هومن لحمه ودمه ، بل لأنه يقوم بعمل جرد أسبوعي حتى الساعات الأولى من كل جمعة ، والويل كل الويل لو نقص حساب زوج واحد من البضاعة.
دخلت بسرعة، صعدت بعد أن تيقنت أنها تريد صندلا بعينه حددته بسباباتها ، أما الألوان فلا تهمني .
وضعته بين يديها ، بدت فرحة ، وقد أدخلته قدمها اليمنى بعد أ ن خلعت الحذاء القديم . ظهرت أصابعها الرفيعة بطلاء المونكير الأحمر الفاقع ، رمت بنظرها إلى حيث يقف الشاب ، سألته بنظرة ممتنة : " حلو؟ ".
رد عليها بلغة صرت أفهمها جيدا منذ تركت مخزن الموبليات ، ومحل التنجيد ، بعد أن خضت تجربة تنسيل آلاف الأحبال من الكرينة ، بعشق : " حلو جدا ".
طلبت مني أن ألفه ،وتحركت ذات الإيشارب الوردى ، وهزتها من كتفيها : " يالله اخلصي ،احنا اتأخرنا " .
أما ذات الشعر الأصفر فقد شجعتها على شراء الصندل الذى كنت متأكدا من لونه الحقيقي ، وبعد مساومة بسيطة ، وكثير من الضحكات الملونة البريئة ، قدمت لها البضاعة .
هزت رأسها ممتنة ، وقبل أن تنزل من على رصيف المحل ، التفتت إليه ، وهى تبتسم : " خلينا نشوفك . مع السلامة " .
عبارتان بهما صيغة الجمع رغم أنه وقف من أجلها ، وهى أيضا بدت حريصة على وجوده . فهمت منذ هذا اليوم معنى أن الكلام في القلب أكثر فصاحة، وهى قد حذفت من كلامها أي شئ يجسد معنى الحب البرىء . تركته يتخبط في عبارتها المحايدة ، فيما سارت مع زميلتيها محتضنة الصندل الجديد ، ومضت في نهر الشارع الذى صار أكثر إشراقا ، وروعة بعد أن لوننه بضحكاتهن الوضاءة الخجولة .
من المجموعة القصصية صندل أحمر لسمير الفيل
صندل أحمر
بقلم: سمير الفيل - في: الجمعة 25 أغسطس 2023 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...