الصورة للفنان ديموسثنيس جاليس
…و من باب أولى، يا سيِدى، اسمح لى أحكى لك عن صغائرى؛ لعلك تجد فيها ما يُرضى غرورك وتعاليك، وقد ترتسم فوق وجهك النبيل تلك الابتسامة الجميلة، التى يواسى بها رجل كبير قوى الرجال الصغار من أمثالى. أنا لا أهدف إلى تسليتك وإمتاعك فحسب، إن سمحت وقبلت يعنى، بل أريدك أن تضحك أيضًا، وأنت ترى كم أنت جميل ومحترم وعطوف، وتملك القدرة على التعاطف مع الحمقى والفقراء والعجزة.
ليلة أمس عدتُ إلى البيت وأنا أضرب أخماسًا فى أسداس، لا أعرف كيف يضرب العرب على أية حال، ولكن هكذا كان حالى عقب ما حدث لى فى شارع الجيش.
تصور أن شحطًا طويلاً عريضًا رياضى القوام، يرتدى بدلة شيك غالية ورابطة عنق وارد باريس، وتفوح منه رائحة عطر خلاّب، أستوقفك فجأة وأنت ماشى فى الشارع سرحان ومطرق للأرض, وأمسك بياقة قميصك بيمينه الغليظة، وبسط كفه اليسرى مفتوحة، وأخذ يهز أصابعه الطويلة بأناقة، وهو يردد بصوت غراب ناعق “اطلع بالمعلوم يا حلو”.
ولأننى قصير ونحيف وطيب، وخاضع لقوة يده ونظرته المخيفة التى سلطها علىّ من عليائه، فقد حاولت الاستعباط وحفظ كرامتى وبرستيجى. أعرف أن جيوبى خاوية، وأنها أنظف بكثير من الصينى بعد غسيله، ومع ذلك دسست بهدوء يدى فى جيبى بنطلونى الجانبيين، ثم فى الجيب الخلفى، وأخرجت المحفظة وقلبت فيها، دون شكوى من غلظة وثقل يده فوق كتفى.
وبعد استنطاع طويل منى وصمت وقور منه قلتُ، وأنا أذوب خجلاً، بصوت خفيض “والله مامعيش دلوقتى”. لم يرمش له جفن، ولم تترك يده ياقة قميصى، وظل يحدق فىّ بوجه جامد، أما أنا…آه…أنا لم أخف منه والله العظيم ثلاثة، فقط أسلمت نفسى لإحساس بالعجز، وقلة الحيلة ينتابنى حين لا أكون قادرًا على تقديم المساعدة للآخرين!
أنا رجل معطاء، أستمتع جدًا بأن أعطى، ويزداد استمتاعى حتى يصل إلى درجة الأورجازم، وأنا أرى الآخر مبتهجًا وسعيدًا بما منحته إياه، لهذا يسبب لى العجز طامة كبرى؛ لأنه ينقص من استمتاعى الذاتى، ويمحو قدرتى على العطاء! يا أخى الواحد، فى مثل هذه المواقف، يشعر أنه صحراء ليس فيها واحة، أرض بور, أو صفيحة زبالة، لا مؤاخذة.
حين حدق فىّ هذا الغندور وظهر على وجهه السخط أحسست بالقهر، وقلت له”أنا آسف” وطلبت منه أن يسامحنى.
ترك ياقة قميصى، وابتسم تلك الابتسامة الرائعة التى تصدر عن أولئك الذين يقدرون فقر الآخرين، وعوزهم وحاجتهم، الابتسامة المجيدة التى تشى بالقوة والنفوذ والسلطة، وبالكثير من الاحتقار. الرجل – الحمد لله – اطمأن إلى ضآلة شأنى، واستسلامى، لكن عينيه ومضت ببريق مفاجئ، وقال ضاحكًا كلمتين، عيب جدًا أن أنطقهما بشفتى، لذلك
سأضعهما على لسانه هو..أو الأحسن، أضع مكان الكلمة العيب نقطتين. قال “قول أنا…أو…”!
قلت له “عيب والله … عيب جدًا، أنا راجل صعيدى”.
نزلت يداه إلى بنطلونى يحاول أن يشده لأسفل وهو يضحك. يبدو أنه كان يريد أن يتأكد من أنه وصفنى بدقة! أنا فقدت عقلى مع نزول حجر البنطلون لأسفل وارتقاع قهقهات الرجل، وصرخت بأن الشعب لن يتعرى أكثر من ذلك. وانتابتنى الهستيريا، وأنا أردد: “مش هنقلع ملط أبدًا..أبدًا”.
عدل كرافتته الشيك الغالية، ومشى – فى “ستين داهية”- بعد أن تسلى وضحك كثيرًا، وطويلاً.
جريدة الأهرام، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٩، القاهرة
الترجمة الانجليزية لهمفري ديفيز
عري
بقلم: حمدي الجزار - في: السبت 11 يونيو 2022 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
تمت منااقشة رواية النباتية يوم الجمعة 8 نوفمبر 202...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...