جلست كعادتي قرب النافذة انظر إلى الخارج. لا شيء أفعله هذه الأيام لأن القلق يمنعني من العمل. هذه النافذة مدهشة فهي تطل على ساحة خضراء واسعة يحدها في طرفها الأيسر حزام من أشجار الزيزفون التي بدأت براعمها الخضراء منذ مدة بتلوينها بالأخضر الفاتح.
كوفيد مرعب وقد ألزمونا بالحجر. لا أخرج إلا لشراء ما احتاجه من الأطعمة فالحجر الألماني ليس قاسياً جداً فبإمكان الناس الخروج للركض أيضاً أو للمشي كما هو حالتي. في الأمس لاحظت أنهم وضعوا شريطاً يمنع الناس من الجلوس على مقاعد الحديقة القريبة التي أتمشى فيها كل يوم، أيضاً وضعوا الشريط حول الفسحة المخصصة للأطفال في الطرف الآخر من البناء. هذه الأشرطة تصيبني بالقنوط وتعطيني انطباعاً بأن الدنيا ليست بخير.
رأيت تلك المرأة تمر من تحت نافذتي. لقد لفتت انتباهي في الماضي بهدوئها وأناقتها وشعرها الأبيض. إنها في الثمانين وأنا أرجح بأنها فقدت رفيق عمرها منذ فترة قريبة وبقيت وحيدة. انها الآن تمشي داخل المجمع السكني مرتدية معطفها المطري باهت اللون وسرعان ما ستعود إلى بيتها الحزين مثلها بعد ان تستكمل دوراتها الخمس أو الست اليومية. تابعتها بنظري حتى اختفت خلف المنعطف.
أنا مثلها تماماً. أعيش وحيداً في غرفة في أحد المباني السبعة التي تشكل المجمع. لقد بني المجمع على عجل بعد الحرب لاستيعاب بعض العوائل الكثيرة التي شردتها تلك الحرب الملعونة بعد أن تدمر معظم مساكن برلين. أعيش وحيداً لأنني تركت بلدي الذي كانت تدمره أيضاً حرب أخرى والتجأت إلى برلين التي تم إعادة بناء كلِّ شيء فيها.
قبل كوفيد كنت أعرف ماذا أفعل في حال أصبت بنوبة قلبية أو غيرها. أما الآن، مع كورونا، فلا أحد يجيب على الاتصالات، بل يشغلون تسجيلاً صوتياً بأن عليك ألا تزور عيادة طبيبك. في الأسبوع الماضي كنت محتاجاً لوصفة جديدة لدوائي الخاص بضغط الدم. يقول التسجيل أيضاً بأن علي أن أرسل رسالة بالبريد وأطلب ما أحتاجه على أن أرسل بطاقة تأميني الصحي. بعد أربعة أيام أعادوا البطاقة مع الوصفة المطلوبة ولكن الدواء كان مختلفاً، وجدت في الظرف ملاحظة مكتوبة بخط يد طبيبتي تشرح لي بأنها غيرت الدواء لأن ملاحظات الأطباء الذين كانوا يكافحون الفيروس في إيطاليا وجدوا بأن الدواء السابق خطير على أمثالي في حال ظهرت عليهم الأعراض.
أكره سماع التعليمات المسجلة على الهاتف، أموت لأسمع صوتاً بشرياً يجيب على مخاوفي وأسئلتي.
الرعب يشلني. انا لا أقصد الخوف من الموت، ولكن ماذا لو انتقل إلي المرض وكان علي أن أمضي أربعة عشر يوماً وحيداً ومريضاً دون حتى إمكانية الذهاب إلى المتجر لشراء الطعام أو إلى الصيدلية لشراء الدواء. ذهبت لصرف الوصفة من الصيدلية القريبة. استخدمت شالاً لأحمي به انفي وفمي. المشكلة هي أن الوباء فاجأ العالم ولم يكن أحد مستعداً وكانت وسائل الحماية الشخصية، خاصة الكمامات والمعقمات، أقل بكثير من الحاجة. لم أستطع إيجاد أي منها لا في الصيدليات ولا في أي متجر آخر. يقولون إنها كانت ترسل، في الأسابيع الأولى، إلى المشافي التي هي نفسها كانت تعاني من قلة وسائل الحماية الشخصية وبسبب ذلك كانت العدوى تنتقل إلى الأطباء والممرضين.
لدي جارة هنا تسكن هي وصديقها في شقة كبيرة في نفس الطابق الذي يضم شقتي الصغيرة. كانا قد تبنيا كلباً ظريفاً أحببته من النظرة الأولى. لقد أحبني هو أيضاً وكان يحاول الإفلات من صاحبته في كل مرة يراني فيها ويهرع إلي ليشمني ولأمسح على رأسه. وعندما كنت أعود إلى البيت ليلاً كنت اسمعه يطلق صوت حنين مؤثر من خلف باب شقتهم. كثيراً ما كنت أقف على نافذتي لأشاهده حين تقوم الجارة بإنزاله إلى حديقة المجمع للسير ولجعله يقضي حاجته. كنت أشعر بأن لدي صديق أفرح به حين نلتقي. بعد كوفيد أصبح سكان البناية، حين يلتقون أثناء الصعود والهبوط على الدرج، يحافظون على التباعد. كان الواحد منا ينتظر، في الزاوية البعيدة، كي يمر الآخر مع الاكتفاء بتحية سريعة مصحوبة بابتسامة والتمني بيوم سعيد. أما تلك الجارة صاحبة الكلب فكانت تحاول ضبط الكلب ومنعه من الاقتراب مني حين نلتقي. كانت تعتقد بأن الكلاب تنقل العدوى رغم أنني كنت قد قرأت دراسة بأن الكلاب لا خوف عليهم من نقل العدوى. كنت أنظر إليه حين الصعود أو الهبوط فتلتقي أعيننا وأعرف أنه مازال يحبني مثلما كنت أحبه.
لم نكن، نحن سكان البناية، نتبادل الزيارات. كنا نتبادل بعض الأحاديث حين نلتقي على الدرج أو في الفسحة الخضراء حول المبنى. هناك زوجان لطيفان في نهاية السبعينات يسكنان في الطابق الثاني. كنا نتوقف مطولاً لتبادل شتى أنواع الأحاديث. المرأة تعاني من مشكلة في فقرات ظهرها وقد أجرت عملية جراحية لتصحيح الخلل إلا أن الأمور زادت سوءاً وأصبحت تعتمد على مشّاية حين تخرج هي وزوجها من البيت. أخبراني مرة أن الزوج بولوني الأصل بينما الزوجة من شرق ألمانيا. كان الزوج يحب تبادل الأخبار معي بينما تجلس الزوجة على حزام مشّايتها لأن الحديث يطول عادة. كان يسألني في كل مرة عن أخبار الحرب في بلدي، وفي إحدى المرات التقى على الدرج بصديقة لي فسألها مستفسراً “كيف هي الأحوال في بلادكم قبل أن تأتي لزيارة والدك؟” إنها ليست من بلادنا بل من هولندا وهي تصغرني بعشر سنوات كما إنها ليست ابنتي بل زميلة لي. وفي مرة أخرى أخرج زجاجة نبيذ وشرح لي بسرور كيف أنه وجد أخيراً نبيذاً خالياً من الكحول. بعد أسابيع وجدت مثل هذا النبيذ في المتجر فاشتريت له زجاجة وقرعت بابهم وسلمتها له. توقفنا مؤخراً عن تبادل الأحاديث وأصبحنا نكتفي بإلقاء التحية والإسراع بالابتعاد. أصبحت أعاني من العزلة أكثر مما كان عليه الحال قبل كورونا.
أمضي نهاري وأنا أقرأ بجانب النافذة، وفي كثير من الأحيان أنسى الكتاب لأنظر مطولاً إلى الخارج. أقرأ الأخبار السياسية على الويب وكذلك أخبار الفيروس. أهتم بقراءة عدد الإصابات الجديدة يوماً بيوم وكذلك عامل إعادة الانتاج R. إنني معجب بطريقة الألمان الواقعية في التصدي للفيروس، ولأن الناس هنا يكنون احتراماً كبيراً لأنجيلا ميركل فهم ينصاعون للتعليمات لأنهم يعلمون أنها تشرف على هذا الأمر معتمدة على العلوم. إنني معجب بها مثلي مثل معظم الألمان.
أقيس حرارتي مرة على الأقل يومياً وكذلك ضغط الدم. في كل مرة أقول إن كل شيء على مايرام “حتى الآن”. أتناول حبوب الإفطار مع الشوفان وبعض المكسرات والقهوة بالحليب، بعد ذلك أغسل الصحون ثم أتناول الفيتامينات لتقوية جهاز المناعة وأيضاً حبة أسبرين لتمييع الدم. في الثانية عشرة أتناول أدوية الضغط ثم أخرج من البيت للمشي أو للتبضع, عندما أعود، أجلس من جديد بجانب النافذة لأنظر إلى القلة القليلة من الناس الذين يخرجون من المنزل. أقرأ في كتابي وسرعان ما تحتلني ذكريات الماضي البعيد، زمن ما قبل ألمانيا.
أتذكر أبي الصارم الذي أحببته أكثر بعد أن أصيب بالزهايمرز فكان يسألنا من نكون في كل مرة نزوره فيها. مرة سأل أمي عن اسمها ثم سألها إن كانت متزوجة أم لا وكم طفلاً لديها. وعندما أخبرته بعدد أولادها قال لها “وأنا أيضاً لدي مثل هذا العدد من الأولاد”. مات بهدوء بينما كنا متحلقين حول سريره. مات الرجل الصارم وهو يبتسم. لا أعرف لمَ أتذكره كثيراً هذه الأيام. ماتت أيضاً زوجتي بسبب مرض عضال، أما بعد أن تركت البلد والتجأت إلى ألمانيا فقد أخبروني أن أخي الأكبر قد مات ثم ماتت أمي حزناً عليه.
قلما يرن هاتفي. يبدو أن الأصدقاء يحسبون أنهم يتركونني وشأني. ولكنني بحاجة إلى التحدث مع أيٍ كان. أنجح في اجراء اتصال مع أحدهم فنتبادل الأخبار، على الأغلب عما نفعل هذه الأيام، أيام الحجر والبقاء في البيت، إنهم ليسوا مثلي فلديهم زوجات وأطفال من حولهم. أتصور أنهم سعداء ولكن أحدهم شرح لي كيف أن الحجر مع الأسرة شيء لا يطاق. يقول لي إنه يحسدني على وحدتي وإنه يكاد يجن بسبب صراخ الأطفال المستمر أثناء لعبهم بالـ “بلاي ستيشن”. أثناء حديثي معه أسمع صراخ أطفاله ثم صوت زوجته تحاول إسكاتهم. أغلق الخط وأتنفس الصعداء. في اليوم التالي أتصل مع صديق آخر يسكن في برلين بمفرده. لقد جاء من باريس في عمل لأنه يرأس جمعية تعنى بأمور المرأة اللاجئة. علق في برلين بعد أن أغلقوا الحدود بين البلدين. هو لا يتكلم الألمانية فلا يعلم كيف يطلب النجدة إذا ما اضطر إلى ذلك. يشرح لي رعبه من الوباء لأنه يعاني من الربو المزمن. يقول لي إن أمثاله لا يسلمون. يقول إنه حصل على دستة من حبوب الـ “هيدروكسي كلوروكوين” من السوق السوداء ليتناولها إذا ما أصيب بالعدوى.
في المساء أحضر مختلف المناسبات الثقافية على “الزووم”. اختار موضوعاً ثم انتظر إلى حين حلول الموعد. اطرح سؤالاً فأشعر بالألفة. حضرت مرة نقاشاً حول تأثير الإغلاق على الحالة النفسية لكثير من السكان الذين يعيشون بمفردهم مثلي. هنا في برلين نسبة كبيرة من السكان يعيشون بدون شريك. أرسل لي مرة أحد الأصدقاء مقطع فيديو لمعالج نفسي يقول فيه إنك تستطيع، في حالة الإغلاق، أن تتحدث إلى أي شيء في البيت مثل الورود أو الشموع. قال إن ذلك طبيعي ولا يستدعي القلق. ولكن، كما قال، إن بدأت هذه الأشياء بالتحدث إليك فعليك أن تتصل بنا.
طال شعري وأصبحت بحاجة إلى الحلاقة. كما أنني أطلقت لحيتي لسبب ما أظنه ليتلاءم مع رأسي. كان مظهري يدعو إلى الأسى، كيف لا في مثل هذا الظرف الذي يسود فيه القلق والوحدة والأرق والوقوع في أسر الذكريات الأليمة. ولكن الأمر تغير في النصف الثاني من شهر نيسان، فقد تم تخفيف الإغلاق فسمحوا لبعض المتاجر بفتح أبوابها ضمن شروط محددة كما سمحوا لصالونات الحلاقة باستقبال الزبائن من جديد.
حلقت لحيتي، ممنوع حلاقة الذقن عند الحلاق، ثم قمت بزيارة صالون الحلاقة الذي اتردد عليه عادة. شعرت بشيء من السعادة وأنا أسير عائداً إلى البيت برأس محلوق ومرتدياً الكمامة. كانت الشمس مشرقة فاتخذت طريقاً أطول من المعتاد.