من مجموعة رأس مستعمل للبيع

كلاب جائعة

كنتُ في انتظاره عند أول الشارع مع انتصاف الليل حسب اتفاقي معه. لكنه تأخر قليلا حتى بدأت بعض كلاب المنطقة في الظهوروالنباح. فتحت حقيبة يدي فلم أجد فيها ما يخلّصني من ربكتي أمام ذاك النباح الذي لا أحبه. فقد اعتدت أغلب الأوقات أن أضع فيها لفافة محشوة بقطع من اللحم المصنع كاللانشون أو السجق...  ألقيها لأي كلب يداهمني فتجذبه رائحة اللحم بعيدا عني, لم يكن للأمر علاقة بالشفقة , لكنها إحدى الحيل التي تعلمتها من جدتي لأمي حين علمت مدى خوفي من الكلاب, وأنني كنت قد أضطر أحيانا لتغيير مساري أوحتى إلغاء بعض المشاوير والعودة إلى المنزل خوفا من المرور إلى جوارها.
 كان من الجيد أن الرجل قد حضر قبل أن يزداد خوفي وتتصاعد رائحة ارتباكي  فتتحول الكلاب من تلك الكائنات المتوسلة إلى تلك الشرسة والمهاجمة..
مضى الرجل ومضيت خلفه بلا أدنى كلمة. لكنني كنت أفتح حقيبة يدي كل نصف دقيقة تقريبا لكي أتاكد من وجوده بالداخل, وفي كل مرة أتحسس بحذر نصله الحاد فيطمئن قلبي.
لم أرَ المقابر من  قبل. فأمي لا تحب زيارتها وفي المرات القليلة التي ذهبت فيها لزيارة والديها لم تصطحبني معها. كانت دومًا تقول : الفاتحة بتوصل من أي حتة.
وصلنا للمقبرة المعنية, لم يكن الإسمنت قد جف تماما. كما أن الرجل لم يحكم غلق  البوابة الصغيرة جيدا في الظهيرة كما طلبت منه حسب الاتفاق.
لم يستغرق وقتا طويلا حتى أخرجه. لم أره منذ عشر سنوات أو أكثر إلا صباحًا حين جاءني خبر الوفاة فاضطرتني صلة القرابة للذهاب وتقديم واجب العزاء لزوجته وأبنائه.  فوجئت أنهم لم يكونوا قد دفنوه بعد, فوجدتني مضطرة للدخول والقاء نظرة أخيرة عليه كنوع من المواساة.
طلبتُ من الرجل ألا يكشف لي وجهه فلم تكن بي رغبة لرؤيته مجددا. أخبرته أن يكتفي بكشف كفيّهِ فقط.. لا أعرف بالضبط أيَّ يد فعلتها بي في الماضي, فقررت أن أقطع العشرة أصابع مكتملة. أعطيته المبلغ المالي المتفق عليه, وطلبتُ منه أن يتركني معه على انفراد. ففعل الرجل وانصرف مبتسما وهو يردد: "ربنا يبرّد قلبك", ظنا منه أن ثمة علاقة غرامية تربطني به . فتحتُ الحقيبة وأخرجتُ المقص. بدأتُ في بتر الأصابع التي أفسدت طفولتي وداهمتني أكثر من مرة.
في كل مرة أفزعتني فيها أصابعه كنتُ ألتفتُ مذعورة, فأجده غير آبه تمامًا بفعلته, فيزداد ارتباكي خاصةً مع جهلي بطبيعة تلك الفعال نظرا لعدد سنوات عمري الصغيرة وقتها. فلم أعِ ما كانت تفعله بي وبملابسي تلك الأصابع- التي كانت تتجول في بيتنا بحرية- إلا بعدها بسنوات طويلة,  تكومت فيها داخلي مشاعر الغضب والكراهية إلى الدرجة التي جعلتني أصمم على بتر كل تلك الاصابع من يده كما أفعل الآن.
أتممتُ المهمة وحشرت الأصابع المقطوعة بسرعة في حقيبة يدي. وأعدتُ دس يديه في الأغطية البيضاء كما كانت. عاد الرجل وأعاده إلى مكانه. أعاد إغلاق الباب ولكن بإحكامٍ تلك المرة. ووضع بعض الإسمنت الجديد. مضى ومضيتُ خلفه, ولكني كنتُ  أكثر بطئًا منه.  فقد شعرت ببعض النسمات الباردة  التي أنعشتني فقررت أن أتباطأ قليلا كي أستمتع ببرودتها.
عند نهاية الشارع كانت الكلاب لازالت تنبح. كأنها لم تجد ما تسد به جوعها. فتحتُ حقيبتي بلا أدنى تردد. ألقيتُ الأصابع المقطوعة عند موضع قدمي تماما, واستمتعت بلهفة الكلاب وهي تلعق حذائي ممتنة على تلك الوجبة اللذيذة.