كان ذلك منذ عشر سنوات أو أكثر قليلا، وكان مدرج على باشا ابراهيم ، غاصاً بالطلبة على سعته الكبيرة، فهو أكبر مدرج بكلية الطب . لكنه أصبح يضيق عاماً بعد عام ، بذلك العدد المتزايد من طلبة الطب.. فكل طالب بالثانوى يريد كلية الطب.. ويحلم بكلية الطب.. ويرى نفسه في منامه ، وقد أصبح من هؤلاء السعداء الذين ينتمون الى كلية الطب، ويراهم كل يوم وهم يركبون الاتوبيس من محطة القصر العيني، وعلى أيديهم معاطف بيضاء متسخة تفوح منها رائحة غريبة نفاذة ، لابد أنها رائحة الجثث التي يشرحونها، ويضحكون في كبرياء، ويتكلمون بصوت عالٍ، ويتبادلون كلمات بالإنجليزية ترن في قوة وخيلاء.. لاشك أنها أسماء الأمراض التى يكتشفون سرها الدفين ، أو أسماء ما يشرحون من جسم الإنسان ، ويقفون على كل ما ينطوى عليه ذلك المخلوق العجيب .. وينادى كل منهم الآخر قائلا : " دكتر".. ويتساءل طالب الثانوى بينه وبين نفسه ، إن كان " دكتر" تصغيرا أم تكبيراً للقب " دكتور" .. على أى حال فإن للكلمة وقعاً جميلاً فى نفسه ، يحس فيها شيئاً من الامتيازعن الناس ، ويرى الإعجاب بها فى عيون ركاب الاتوبيس.. ويبيت يحلم أنه حصل على الثانوية ، ودخل كلية الطب، وركب الأتوبيس ، وفاحت رائحة نفاذة من معطفه، ونطق بكلمات إنجليزية ساحرة .. وزميل يناديه يا " دكتر".. ونظرات كلها إعجاب تتجه إليه ..
وهكذا كانت الأحلام تتكاثر، وتتكاثر معها وفود الطلبة الى كلية الطب، حتى بلغت الدفعة الواحدة في أيامي الخمسمائة أو تزيد، لا يعرف الطالب زميله ولا يمكن أن يعرفه، ولا يعرف الأستاذ الطالب ولا يمكن أن يعرفه.. ويقضى الطالب ست سنوات ونصفاً في الكلية على أقل تقدير، ثم يخرج منها ولا يكاد يعرفه أحد ، اللهم الا بعض الفراشين الذين كان يرشوهم ليسرقوا له ذراعاً أو رجلا أو جمجمة، هذا إذا كان طالب طب مثالياً فى نظر حرس الكلية على الأقل. أما إذا كان طالب طب فاشلاً ، أصابه الملل من الجرى بالمشرط وراء الشرايين والأوردة والشعيرات الدقيقة ، فاتخذ لنفسه هواية أخرى غير التشريح .. وهي الخطابة.. ولم يجد موضوعاً يمارس به هوايته الا السياسة . سياسة البلد ، ونظام البلد والاستعمار والإنجليز ، فإذا ما انتهت مشاكل البلد ، أو خُيل اليه ذلك ، تحول إلى سياسة البلاد الأخرى.. فلسطين الشهيدة .. و.. و.. ويضرب بقبضه يده على منضدة الأستاذ ، وبخطب بصوت جهوری تهتز له جدران مدرج على باشا إبراهيم الشاهقة . أما الطلبة ، فلا يكاد يسمعه أحدهم ، ويعدونه شراً لابد منه كل صباح.. أما حرس الكلية فهم يولون موهبته الخطابة أهمية أكثر .. ويدونون اسمه في سجلاتهم، ويحفظون ملامحه في صورة شمسية، ويتعقبون خطاه داخل الكلية.. في المعامل .. والمدرجات ودورات المياه . ولاشك أنه عمل مفيد نسبيا . فهو يخفف فراغهم الموحش بعض الشئ ، ويرضى غرور الطالب الفاشل بعض الرضا..
وفي ذلك اليوم ، كان المدرج بمقاعده وأرضه ونوافذه ، مختفيا تحت أجساد الطلبة المتلاحقة.. وزفيرهم الساخن يرفع حرارة الجو ، فتصبح في الصيف ونحن في الشتاء، وكنت البس معطفاً سميكاً كاللحاف ، لم أجد بدأ من أن أخلعه وأضعه فى حجرى، وهو المكان الوحيد الذي يبقى خالياً في المدرج.
وكان الصخب بملأ المدرج ، والأصوات العالية الغليظة ، تهز طبلة أذنى الرقيقة فتكاد تمزقها.. ولم أكن أدرى مصادر كل هذه الأصوات المتباينة المتنافرة . لكنى كنت أرى المدرج وقد امتلأ بأفواه متلاصقة تتسع وتضيق، وتضيق وتتسع، فى سرعة عجيبة تسبق العين.. وهناك على مرمى البصر ، وقف مكان الأستاذ طالب أعرفه.. والحق أنني لا أعرفه شخصياً . لكننى أستطيع أن أتعرف على أنفه من وسط آلاف الأنوف .. فهو خطيب الدفعة ، وكل دفعة لها خطيب على الأقل. وكان لدفعتنا خطيب واحد .. ولهذا فقد كانت فرقة حسنة السمعة.. يتنبأ لها حرس الكلية بالنجاح المطرد.. هذا إذا لم يزد عدد الخطباء أثناء الدراسة الطويلة الشاقة.. وكثيرا ما كان يزداد..
وكان الخطيب واقفاً كالضرغام ، يهدر ويزيد، وكلماته النارية تندفع في أذني كطلقات الرصاص، لا تلبث أن تستقر في رأسى وتفرقع: " أيها الشباب.. أيها الابطال !.. هذا هو يومكم.. الوطن يناديكم فلبوا النداء ! أيها الشباب.. ليس مكانكم هنا فى المدرجات.. وليس عملكم التشريح والمرورات . ولكن مكانكم هناك .. في ساحة القتال... في أرض القنال!. هيا أيها الشباب ! دعو المشارط والمحاضرات .. ودعوا الكتب .. والمذكرات هيا انطلقوا إلى الميدان .. إلى الميدان .. الاستقلال أو الهلاك ! .. أيها الــ... ..... ".
وظهر الأستاذ فى فتحة الباب، واختفى الخطيب ، وانقطع الهدير.. وتوقف الصخب.. وتثبتت الأفواه المتحركة.. وساد السكون في المدرج. ووقف الأستاذ بقامته القصيرة النحيلة ، ينظر من خلال نظارته السميكة إلى الطلبة في تحفز.. كأنه يتوقع هجوماً من أحد.. أو كأنه يسلح جسمه بنظرات قوية ، قد تخيف تلك العيون الشاخصة اليه ، من كل شبر في المدرج .. وظل الأستاذ دقيقة أو دقيقتين متسلحاً وراء نظارته الغليظة ، والصمت التام يشمل المدرج .. والطلبة يجلسون متأهبين مترقبين ، أقلامهم في أيديهم ، ومذكراتهم مفتوحة وأنفاسهم مكتومة، وآذانهم مرهفة ، تنتظر أول درة تسقط من بين شفتي الأستاذ الخطير.
وأخيراً انفرجت الشفتان .. لا عن درة إنما عن قنبلة. " هيتروفس. هيتروفس ".. وتشنجت نظرات الطلبة يحملقون في الاستاذ .. وساد الصمت ثانيا. ثم انطلق الصوت الرفيع الحاد مرة أخرى ، كطلقة المدفع : "هيتروفس. هيتروفس" . وتصلبت رءوس الطلبة ، وهي مشدودة نحو الاستاذ بلا وعى ، وكأنه ألقى فى وجودهم بتعويذة من التعاويذ ، أو طلسم من الطلاسم .. وارتخت عضلات الأستاذ المتخـفـزة.. لقد ملك زمام الطلبة وسيطر عليهم. ونظر إليهم فى كبرياء وزهو ، وراح يتمشى من اليمين إلى اليسار.. ومن اليسار إلى اليمين ، واضعاً يده في جيبه.. ثم استدار في عظمة وأمسك بأطراف أصابعه قطعة الطباشير ، كأنه يمسك صرصارا أو خنفساء، وكتب على السبورة بالإنجليزية : هيتروفس .. هيتروفس. ثم استدار الى الطلبة ونفض يده من الطباشير ووضعها في جيبه ، وأخرج ورقة مطوية ، فضها وبدأ يقرأ.. وانكفأت رءوس الطلبة يدونون محاضرة اليوم فى علم الطفيليات..
وانقضت دقائق قليلة ، اتخذ فيها صوت الأستاذ نغمة واحدة رتيبة ، جعلت رأسى يدور، وشعرت برغية في النعاس . لكنني أفقت فجأة .. شي ما قطع تلك النغمة الرتيبة المنظمة.. وارتفعت رءوس الطلبة وتلفتت هنا وهناك ، لتعرف مصدر الصوت النشاز..
ورأيته هو بأنفه.. خطيب الدفعة .. واقفاً منتصباً بين الرءوس .. وسمعته يقول: "هل لي أن أسأل سؤالاً ؟.. وتوقف الأستاذ وصوب نحوه نظرة حادة كالحنجر ، لم أفهم منها ، هل ساءه أن يقطع عليه سلسلة الإملاء، أو خشى أن يسأله سؤالا ، لا يعرف جوابه.. وسمعت الأستاذ يقول له في صوت رفيع حاد : " الأسئلة اخر المحاضرة.. ليست الآن " . فرد الطالب الخطيب بحماس ، لا يفارقه أبداً : " ولكنني لا أستطيع أن أتابع المحاضرة .. إنه سؤال خاص بالعنوان " ..
وارتسمت على وجوه الطلبة نظرات الاهتمام والاستطلاع والتعجب.. وقال الأستاذ: " أى عنوان" ؟ .. فقال الطالب " عنوان المحاضرة " .. والتفت الاستاذ الى السبورة ، ثم الى الطالب وقال في حِدة : هيتروفس .. هيتروفس " .وسكت الطالب وبلع ريقه وقال: " هل الأسماء قليلة الى ذلك الحد ؟ .. ألم تكن هيتروفس واحدة كافية ، ليسمى بها الطفيل ، ويكون الاسم الثاني شيئا آخر، بدلا من التكرار.. أم انها قلة في الاسماء ؟ ".
ودوت خمسمائة ضحكة أو أكثر ، اهتز لها المدرج وارتعدت جدرانه .. وابتسم الاستاذ ابتسامة ساخرة ، عليها مسحة من العلم الممزوج بالفلسفة ، وأخذ يتمشى واضعاً يديه وراء ظهره ، ومطرقا رأسه كأنما يفكر في الرد. ثم توقف ونظر إلى الطالب وقال في سخرية : " ليست قلة في الأسماء ، ولكنها عادة عند بعض الطفيليات ، أن يُسمى الابن بنفس اسم أبيه " .
وضحك الطلبة.. ارتسمت على وجه الأستاذ فجأة ، امارات الصرامة وتلاشت ابتسامته ، وعاد يتسلح ضد موجة الضحك والهرج ، بنظراته القوية الحادة .. وقال للطالب في شدة : " اجلس ولا تسأل هذه الأسئلة السخيفة مرة اخرى .. ثم نظر الى ساعته وقال غاضبا : لقد أضعت من المحاضرة عشر دقائق .. إنك طالب مشاغب .. ما اسمك ؟ ".
وسكت الطالب وطأطأ رأسه ، وقال بصوت خفيض : " حسين حسين شاكر ".
وضج الطلبة بالضحك .. وقصف المدرج برعد القهقهة العالية.. ونظرت الى الاستاذ. كان يضحك هو الآخر.. وفرحت. فقد كانت المرة الأولى ، التى رأيته فيها يضحك منذ دخلت الكلية .. أما خطيب الدفعة ، فقد خلع عليه الطلبة اسما جديدا هو : هيتروفس .. هيتروفس شاكر.. وظل هذا الاسم العجيب يطارده ، حتى تخرج فى الكلية بعد خمسة عشر عاماً ، وأصبح طبيباً ناجحاً .