قصة قصيرة بقلم
منصورة عز الدين
حول الى اللغة الانجليزية لقراءة النسخة الانجليزية من هذه القصة
لسببٍ ما كان عليه أن يسافر! قال إن وجهته بعيدة، ونطق باسم مدينة لم أسمع بها من قبل، لكنّ حروف اسمها تُسلِم إلى الانقباض والحيرة. بدت مسألة سفره كأمر قدري مقرر سلفاً. وفي الحال رأيت مدينته المبتغاة بشوارعها الشاحبة، رمادية اللون. لم يكن هناك ألوان سوى الرمادي الذي يغطي معظم المكان، وبجواره، على استحياء، الأسود والأبيض. بشر كثيرون يسيرون في الشوارع الباهتة ببطء مرتدين مسوحاً داكنة ناظرين إلى نقطة ثابتة أمامهم. هدوء ثقيل يخيّم على كل شيء. وهو هناك يسير متفكراً بشرود. وأنا خارج المشهد أتلصص عليه بقلق، وأحدس بمجيء عملاق ذي معطف أسود وسحنة متجهمة وخطى ثقيلة. وفجأة يسود الهرج ويبدأ الناس بالعدو هاربين. أشعر أن الأرض تهتز على وقع خطوات رجل المعطف الأسود. أعرف أنه يظهر في الشوارع على فترات متقاربة، يخطو بقوة متكئا على عصاه الأبنوس، لا يكاد يرى شيئاً، تتحرك نظرته العمياء بين الوجوه المقابلة، إلى أن يقابل وجهاً يُعيد إليه بصره، لحظتها يشير بسبابته إلى صاحب هذا الوجه فيختفي من الوجود، ويعود العملاق إلى عماه منتظراً ضحيته القادمة. غير أنه لم يظهر هذه المرة رغم اهتزاز الأرض والفوضى التي سادت. ثمة فقط حالة ترقّب لظهوره، وزلزلة خفيفة كالتي ترافقه أينما ذهب. بمضي دقائق أدرك من ركضوا أنهم خُدِعوا فعاودوا السير كما كانوا. وحين نظرتُ إلى من يسير بشرود، رأيته لا يزال على خطوه البطيء. دققتُ النظر بحثاً عن نظرة الثعلب الماكرة التي تميزه، فلم أصل إليها. عدّل من وضع “فولار” أسود حول رقبته، ورفع رأسه نحو السماء كمن فوجئ بقطرات مطر في غير موعدها، ثم عاد إلى شروده من جديد. منذ وصوله، وهو يواصل اكتشاف المدينة، يتحرك في شوارعها بلا توقف. كتب لي بحماسة أنها مدينة العالم.. “هنا كل اللغات الممكنة. لا جنسيات، ولا فوارق. لستِ حتى في حاجة إلى الكلام لتوصيل أفكارك”!! ثم تباعدت رسائله، وما وصلني منها لمدة عام كان لا يحوي أي شيء عن مدينته التي تبدو كأنها خارج العالم. لكنه، فيما بعد، عاود الكتابة عن المدينة من جديد: رسائل مطوّلة لا وجود فيها لأي مسحة شخصية: لا معلومات عنه، ولا سؤال عني، فقط مقاطع مسهبة، عن مدينة لا تشبه المدن التي أعرفها، مكتوبة باعتناء أسلوبي مبالغ فيه، وخط منمق، وحروف صغيرة مرسومة بدقة. كتب أنها كانت تُسمى مدينة الشمس الدائمة. لم تكن شمسها تغيب طالما بقي واحد من سكانها مستيقظاً. تغرب فقط حين ينام آخر واحد منهم، وتشرق قبل استيقاظ أولهم. حُرِموا جميعاً الليل. لم يعرفوا بوجوده أصلاً. لم يكن ثمة عملاق، ولا شوارع شاحبة، ولا بشر راكضين. إنما نهار دائم، وشمس متوهجة تكاد لا تغيب. شوارع المدينة بالغة التشابه كأنها تكرارات أبدية للشارع نفسه. عمارتها قوطية تبعث على الرهبة بأقواس بارزة وأبراج مستدقة، وزخارف ونقوش متماثلة لوجوه صارخة بعيون متسعة بفعل الفزع. ميادينها مربعة، وحدائقها أشبه بغابات ممتدة على أطراف المدينة. هي نفسها الغابات التي جاء منها العملاق ذو العينين المطفأتين لكنّه، وقتها، لم يكن أعمى، وكانت نظرته محمّلة بالإغواء لا التجهم. اعتاد أن يتحرك بخفة متكلماً عن شيء خارق الجمال يُدعى الليل قرأ عنه في الكتب الكثيرة التي تملأ كوخه في الغابة، وحكى له الصيادون في البحيرة المجاورة للكوخ عنه. قالوا إنهم رأوه في مدن أخرى وقت أن كانوا يعملون على سفن الصيد الكبيرة في البحار البعيدة. يغمض عينيه المغويتين ويتكلم عن الليل كما لو كان رآه. “سواد عظيم لا تقوى آلاف المصابيح على تبديده، فقط تموّه عليه قليلاً مانحةً إياه مزيداً من الجمال”.. يقول وهو يمرر لسانه على شفته السفلى متذوقاً فكرة الليل. غادر مدينة الشمس بحثاً عن الليل. سار مئات الأميال، مرت أيام وأسابيع ثم أعوام. سأل كل من قابلوه عنه، وصفه لهم بكلمات مبتورة ومرتبكة. مع مرور الوقت بدأ ييأس لكنه، بمكابرة، واصل المسير من دون أن يلتفت وراءه لمرة واحدة. مشى لمدة لا يعلم مداها، يأكل من ثمار الأشجار، ويشرب من مياه الينابيع، حتى وجد نفسه في طريق العودة إلى مدينته. عرفها من الأبراج المستدقة الشاهقة، والقباب الكريستالية التي تنعكس عليها أشعة الشمس فتخلق شموسا هائلة الإضاءة. لم يقدر على إبعاد عينيه عن البريق المخيف المنعكس من قباب مدينته، حتى بدأ يشعر بالنور ينسحب منهما. توغل في المسير مقترباً،خفت بصره. لم يدرك في البداية كنه ما يواجهه، ظن أن العالم من حوله تخفت اضاءته، وتتلاشى على مهل. عندما غرق في الظلام تماماً أدرك أنه وصل إلى مبتغاه. قابل الليل وجهاً لوجه. فرح لأنه سوف يصطحب ليله الخاص عائداً به إلى مدينة الشمس. كانت المسافة المتبقية، على صغرها، هي الأكثر صعوبة في رحلته الطويلة. تخبّط في خطواته، دار حول أسوار المدينة أكثر من مرة، قبل أن يدخلها في النهاية ليُفاجأ به أهلها وقد أصبح هذا العملاق المتجهم ذا الملابس الداكنة والخطوات الثقيلة. وليكتشفوا أن مدينتهم مع عودته أضحت أخرى شاحبة الإضاءة كأنها مترددة بين نهار غادر بلا رجعة وليل يأبى الوصول. في رسالة تالية بدا صديقي كأنما نسي أمر خطابه السابق، إذ كرر ما جاء فيه بتعديلات طفيفة، وواصل حاكياً أن العملاق بنظرته التي أصبحت مطفأة اعتكف في كوخه بالغابة لمدة طويلة لم ينطق خلالها بكلمة واحدة. ينصت فقط لحفيف الأشجار وزقزقات العصافير وصخب الرياح حين تهبّ. وعندما يملّ من وحدته وصمته، يخرج إلى الشوارع بخطواته الثقيلة التي تهزّ الأرض تحتها.. متوكئاً على عصاه الأبنوس، محتمياً بتجهمه وعماه، ومسلحاً بخبرته في الإنصات للا شيء. تتحرك نظرته المطفأة بين الوجوه المقابلة، حتى يصادف وجهاً يعيد إليه بصره. يشير إلى الوجه بسبابته فيختفي صاحبه من الوجود. يحاول العملاق الإلمام بكل تفاصيل العالم الجديد من حوله، قبل أن يعود إلى عماه من جديد، لكنه يفشل فيرجع يائسا إلى كوخه وانتظاره. عششت المدينة بأجوائها القوطية في عقلي. طوال الوقت أعيش مع شوارعها المتماثلة، وميادينها المربعة، والزخارف الدقيقة لوجوه صارخة على واجهات مبانيها. أحلم بها، وأفيق لأجد نفسي كأنما أسير في دروبها. أصحو فجراً مثقلة بما رأيت، ويتحرك العملاق في مخيلتي، وقد تحولت نظرته من التجهم إلى الإغواء من جديد، كأنه يدعوني إلى اللحاق به. أقرأ رسائل صديقي وأعيد قراءتها مجدداً، أتأمّل الخط المنمق والحروف المرسومة بإتقان، وأفكر كم تغير. لم يعد يشبه ذلك الشخص الذي كانه في السابق. تبدو لي المدينة كمكان مارس عليه سحراً وثنياً غامضاً، دفعه إلى الكتابة بلا توقف ودونما مشاعر وبلا غرض. أرسل له رسائل متساءلة عن أحواله، وماذا يفعل، وهل سيعود أم لا؟ فلا يجيب عن أسئلتي بكلمة واحدة، بل يظل يكتب عن المدينة التي سحرته وحولته إلى مجرد عين تلتقط التفاصيل أمامها، ويد تدوِّن ما يراه بلا كلل. قلت سأحذو حذوه. وبدلاً من رسائلي المفعمة بأسئلة يتجاوزها كأنما لم تكن، بدأت أكتب له بدوري عن مدينتي. مدينة مخترعة واقعة بين جبال مكسوة بنباتات وأشجار زاهية الخضرة، وبحر هائج باستمرار يغلِّف الجو برائحة اليود، وتلفظ أمواجه طبقات كثيفة من الملح على الشاطئ كل صباح. بيوت المدينة مبنية بكاملها على جرف يمتد بين الجبال والبحر الهائج، كأنها في وضع سقوط أبدي. وسكانها يقاومون الجاذبية طوال الوقت. يسيرون ببطء صعوداً أو هبوطاً محاذرين الوقوع من هذا العلو إلى جوف البحر المتلاطمة أمواجه بأصوات مجلجلة. أخذت أرسل له رسالة مقابل كل واحدة تصلني منه، لا أعلق على ما يكتبه ولا أسأل عنه، وهو، كعادته، يبدو كأنما لا يقرأ رسائلي من الأصل. ثم بدأت أكتب بلا توقف، رسائل طويلة مكتوبة باهتمام ومشغولة بالتفاصيل، أرسل بعضها وأتغاضى عن إرسال معظمها، إلى أن كففت عن مراسلته تماماً، منشغلة فقط بتسويد مئات الرسائل التي أكدّسها هنا وهناك في أرجاء سكني. أكتب متجاهلة وجع أصابعي، وألم عمودي الفقري من طول الانكفاء، خالطةً بين مدينتي ومدينته. بين الميادين المربعة والعمارة القوطية بالوجوه الصارخة فوق مبانيها، وبين الجرف الخطر والبيوت المقاومة سقوطاً أبدياً. بين عملاقه ذي المعطف الأسود والنظرة العمياء، وبين من أراهم حين أفتح نافذتي بسيرهم الحذر صعوداً وهبوطاً. أعيد قراءة رسائلي الملقاة حولي بفوضى، أنظر ملياً إلى خطي المنمق، وحروفي الصغيرة المرسومة بدقة، واعتنائي المبالغ فيه بالأسلوب، وأفكر كم تغيرت. أخرج من بيتي المحاط بنباتات وأشجار كثيفة متشابكة، لأُفاجأ بـ”مدينتي” بشوارعها الشاحبة رمادية اللون وميادينها المربعة والهدوء الثقيل المخيم عليها. أغمض عينيّ مستسلمة للظلام، فينفتح المشهد أمامي بهدوء كلقطة “زووم إن” في فيلم سينمائي، لأجد أمامي بشراً كثيرين يسيرون ببطء ناظرين إلى نقطة ثابتة أمامهم، وأراه يسير متفكراً بشرود، وأسمع وقعاً صاخباً لخطوات ثقيلة كأنما تصدر عني.